ليس الرأي الناقد شعبوية
كمال الدين رحموني
انبرى أحدهم منافحا عن موقف نائب برلماني أقام دنيا المجلس بصوت عال وصراخ يُخيَّل للسامع أنه مقدمة لهجوم كاسح في ساحة وغى، والحقيقة لم تكن سوى ساحة وطن سوّلت أنفسُ مواطنيه لهم أن يُبدوا آراءهم في قول مستفز، ويُدلوا بدلوهم في موقف مرتبك. ومع الإمعان في “الاعتزاز” بالموقف المثير، بالرغم من انعقاد شبه الإجماع على الخطأ والتجاوز في استعمال لفظين في غير سياقهما، وما دام الإصرار على القول مستمرا بعد الجلسة، ومع كل ذلك وجدنا من ينافح عن الموقف الخاطئ، فلماذا الدفاع المستميت عن رأي لا زال صاحبه مقتنعا به. أحيانا يحار المرء من يُصدّق: الفاعل أم نائبه، أم صداهُ؟ لماذا لا يعترف المرء بأخطائه ويعتذر للناس عليها؟ أهي العزة بالإثم التي ندد القرآن بها،أم هي العزة بالمنصب وما فعله إغراء السياسة بمن تعجّل العمل السياسي وتوهم أن التغيير يمكن أن يكون من فوق، عكس المنهج السديد الذي يؤسس العمل على قاعدة الأمة؟ وللعلم، فإن الولوج إلى عالم السياسة يستوي فيه صاحب المرجعية الإسلامية وغيرها ويسري عليه ما يسري على العلماني والحداثي واليساري، والمدبّرُ للعمل السياسي، ليس مدعوا للتحدث بالعلم الشرعي وقراءة القرآن والحديث، في دهاليز السياسة، فتلك مهمة لها رجالها ومجالها، ولذلك حين اختل هذا البعد اختلطت الأمور، ووقع المحذور وظن هذا وقبله الزعيم الذي علّمهم “الدهاء”، وما هو بدهاء، بقدر ما هو مناورة وخداع، فظنوا أنهم مانِعتُهم حصونُهم و”مثاليتهم” التي حسبوا أنها ستنجيهم من خطيئة الانزلاق وتصوروا في غفلة من الزهو وشهوة “التمكن” من ال”الحكم” بامتلاك المناصب، أنهم يتدثّرون بدَثار النقاء والنظافة والنبل والصدق، وحسبوا أن الشعب- بعد خذلان الأحزاب السابقة لعقود- ، زكاهم ليس لأنهم أهل حَدَقٍ في التدبير السياسي الناجع، بل لرغبة في تجريب بديل لم يكن لهم خيارٌ سواه، ولحسن الظن بأنهم حتى لو لم يستطيعوا التغيير الحقيقي فقد يَحُدّوا من الفساد، ومن أوجهه: الظلم بأنواعه، والريعُ بأشكاله، والسطو على المال العام بغير حق، ليس كما كان يفعل سابقوهم من النصب والمحسوبية والرشوة والابتزاز ، ولكن- وهذا هو الأسوأ- تحت غطاء القانون الذي يمتلكون صلاحية تشريعه، فيصبح الريع بهذا المبرر حقا “مشروعا”، في حين أن التقدم لتمثيل الناس هو عمل تطوعي محفوف بشرط الأمانة والإخلاص والتجرد من المكاسب والامتيازات وهذا من الأدبيات الإسلامية التي يزعمون أنهم يؤمنون بها. ومن الإنصاف القول، بأن التطوع لخدمة الناس والوطن يتطلب مصاريف وتنقلات وإقامة و تغذية، فهل تعويضات النائب الشهرية في البرلمان لا تكفي، طبعا قد يجادل المعترض على عدم الكفاية، لكن النائب الورع الذي يغالب النفس، ويقنع بالحد الأدنى يقدم النموذج الصالح ويكتسب المصداقية التي تجد صداها لدى عامة الناس. ولذلك فإن تصرفات هؤلاء واستئسادهم على المال العام بغطاء القانون، لا يعدو أن يكون من تلبيس الشيطان الذي يتفنن في الإغواء والتزيين حتى ولو كان الإنسان يقطُر إيمانا وتقوىً، “فلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى” هكذا يقول الحق سبحانه.أخشى على هؤلاء الذي ابتُلوا بأمور السياسة أن يهيمن عليهم منطق فرعون حين قال لقومه: “مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ”غافر 29″، فكانت العاقبة: ” فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا ” الإسراء103، ومنطق قارون حين قال:” إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي”فكانت العاقبة: “فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ”القصص81. ما معنى أن يُصرُ المرء على قول خاطئ في لحظة انفعال وأضواء؟ ما معنى أن يدافع عن وضع باطل وتقاعد غير مستحق؟ ثم ما معنى أن يبرر وضعا فاسدا بدعوى التفرغ للمهام؟ لو كان المنتصب لتمثيل الناس غير صاحب دخل قار لكان لكلامه مصداقية. لو كان له ثروة فضاعت بفعل جائحة أو كارثة وأصبح مُعدَما لكان من حقه إعلان حرب ضروس على كل من احتج على قوله هذا، أما وإن الواقع غير هذا ولا ذاك، فليتق الله ربه، وليعتذر عن قوله، وليحترم رأي الآخرين، فمتى كان الرأي المخالف شعبوية، ولو كان “فيسبوكيا”؟ كان الواجب بل اللائق أن يخرج النائب على الناس للتفاعل الإيجابي، مبينا وشارحا ومقنعا، أما أن يبقى مصرا فتلك مثلبة أخرى تنضاف إلى مثالب السابقين غفر الله لنا ولهم.