الرد الحصيف على الإساءة والتجديف … تعالوا إلى كلمة سواء
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
الرد الحصيف على الإساءة والتجديف
تعالوا إلى كلمة سواء
بقلم: عبدالمجيد بنمسعود
لم تكن حملة فرنسا الجديدة في إساءتها لنبي الرحمة – سيد الخلق وحبيب الحق، خاتم النبيين والمرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم- بدعا من الحملات التي شنت على مقدسات الإسلام هنا وهناك، على صعيد بعض دول أوروبا، فقد شهدت هذه الأخيرة فصولا بغيضة من الإساءة والاستهتار بتلك المقدسات، شملت الإساءة لرسول الأنام، عليه الصلاة والسلام، بالافتئات عليه في رسوم أثيمة ظالمة، تنضح بالكراهية والحسد، وامتهان المصحف الشريف، الذي يحمل رسالة الحق الخاتمة إلى العالمين، بإشعال النار فيه، في الساحات العامة، تعبيرا عن نقمة صليبية دفينة في صدور من أعماهم الكفر، وطمست أبصارهم وبصائرهم كراهيتهم السوداء، لما جاء به من الهدى والحق. فغير خاف ما حصل من ذلك الإفك مرارا في بعض الدول الإسكندنافية كالدانمارك والسويد، مؤخرا وقبل سنوات، دون أن يتلقى من تولوا كبر ذلك من عتاة العهر والإجرام، ولا من مالئوهم وحموا ظهورهم من حكامهم القساة الظلمة، ما هو كفيل بردعهم والضرب على أيديهم القذرة، ولا قطع ألسنتهم البذيئة الخبيثة.
إلا أن الفصل الجديد من فصول العدوان الشنيع على نبي الله ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، في فرنسا المسماة ببلد الأنوار – ظلما وزورا – من خلال تكرار الإساءة إليه بنشر الرسوم الكاريكاتورية الجائرة على نطاق واسع، قد مثل نقلة واسعة، وخطوة بالغة الدناءة، في مضمار العدوان على حرمات الإسلام ومقدساته، والاستهتار بحق ما يزيد على المليارين ونصف المليار من المنتسبين إليه، ذلكم بأن الإساءة هذه المرة جاءت مؤطرة ومتبناة من قبل أعلى سلطة في البلاد، ممثلة في الرئيس ماكرو، ضمن مناخ ثقافي وجيوسياسي بالغ الشحن والتوتر، شكلت مكوناته مهمازا قويا وصاعقا، لم يتمالك ماكرون نفسه إزاءه، فراح يهذي بكلام رخيص لا يستند إلى أي معطى من معطيات الواقع، أو مبدأ من مبادئ الحق، من قبيل نعته الإسلام بكونه يعيش أزمة على صعيد العالم، ونعته المسلمين بالانعزاليين، ووضعه لخطة تروم إعادة الهيكلة لواقع المسلمين المقيمين في فرنسا، وصياغته لمفهوم جديد للإسلام يرضيها ويتماشى مع رؤيتها للوجود والحياة. بل إن ماكرون لم يكتف بذلك على خطورته وشناعته، واعتبر بطلا جديرا بالتكريم، المعلم المجزوزة رقبته بسبب جعله الرسوم المتطاولة على ذات الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، مادة لشرح مفهوم حرية التعبير لتلاميذه المراهقين، الذين يحمل وزر تحريفهم، وصياغة وجدانهم على أساس صليبي ينضح بالحقد والكراهية على المسلمين، ضدا على مزاعم فرنسا بتبنيها للنهج العلماني الذي يفصل بين الدين والدولة، ويضمن حرية التدين، ويطبق مبدأ التعايش بين أهل العقائد والديانات الذين أوجدتهم أقدارهم في ” بلد الأنوار”، تحت شعارها العريض(حرية، مساواة، أخوة)، علما أن سحابة من الشكوك تخيم على رواية القاتل الذي نسب إليه فعل جز رقبة المعلم- الذي أعوزته الأمثلة التوضيحية لمبدأ حرية التعبير ولم يجد أمامه إلا إعادة إنتاج الرسوم المسيئة لخير إنسان طلعت عليه الشمس، بل لشمس الشموس الذي أنار الله به الوجود، واعتبر مولده مولدا للنور، ومثلت رسالته إنقاذا للبشرية الضالة، وإخراجا لها من الظلمات إلى النور، وفاتحة يمن عليها، ومنطلقا لأرقى حضارة على وجه الأرض، ومناطا لتكريم الله عز وجل للإنسان – فقد ذهبت كثير من التحليلات إلى أن الأمر يتعلق ب”سيناريو” مفبرك ومحبوك بكل خبث، وبمهارة، معهودة في تاريخ الماسونية العالمية، كلما أرادت أن تحقق هدفا من أهدافها الاستراتيجية في سياق صراعها الأبدي مع خصومها التاريخيين، والذين يمثل المسلمون طليعتهم ورأس حربتهم، فهي في مثل هذه الحالة تضحي بما تراه أهون مما تنشده على المستوى الاستراتيجي الكبير، ومن ثم فقطع رأس معلم بسيط في فرنسا، كثمن لهدف يرونه أغلى وأثمن، لمما لا يتورع عنه قساة الماسونية. فإذا كان إظهار الإسلام والمسلمين في صورة قبيحة للعالم بشكل عام، وللفرنسيين بشكل خاص، يمثل هدفا استراتيجيا للدولة الفرنسية، في سياق حربها على الإسلام الذي تشعر بزحفه وجاذبيته، وبما يحققه من سحب للبساط من تحت أرجل فرنسا بسبب دخول الفرنسيين في دين الله أفواجا، فإن إقدامها على صناعة حدث مثل هذا الذي نسب للشاب الشيشاني، هو فعل ليس يوجد ما يعوقه على مستوى دولة استعمارية، لا تحكمها المبادئ والقيم الإنسانية، بقدر ما يحكمها ما تراه بعين الأهداف الاستراتيجية الكبرى.
ألم يلحظ الملاحظون بأن الشيشاني المزعوم قد تمت تصفيته على الفور، حتى يذهب سره معه إلى القبر، ويستثمر ماكرون وأجهزته الاستخباراتية الحدث المفبرك المصنوع إلى أقصى الحدود، في تزكية مزاعمهم بكون المسلمين في فرنسا مصدر إرهاب مستمر، ليصلوا إلى هدفهم الأسمى، المتجسد في إيقاف زحف الإسلام، بتأجيج مشاعر الكراهية له في صدور الفرنسيين، الذين يتكاثر الداخلون فيه على مر الأيام، لما وجدوا فيه من حق تأنس له الفطرة، ويرتاح له الضمائر والنفوس.
وتندرج إشاعة الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم في سياق نفس الغرض المتمثل في قطع الجسور بين الفرنسيين، وبين إقبالهم على كل ما يعرفهم بحقيقة الإسلام، القرآن، وسيرة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
لو أرادت الشرطة أن تقبض على الشيشاني المزعوم حيا لفعلت، ولكن ذلك قد يفوت عليها هدفها المرسوم، وكيدها المروم.
إنه لمن المقرف حقا أن يدرج الفرنسيون الذين امتنع عنهم الانسلاخ من ربقة الضغط الذي يمارسه القصف الإعلامي المهووس بكره الإسلام، ومن سلطان الدعاية الرخيصة والفجة، التي تركب مطية الجهل بالإسلام، والخضوع للتشكيل النفسي الخاطئ المؤسس على الأساطير والأكاذيب والترهات، التي يراد لها أن تحجب حقائق التاريخ، وحقائق الدين القويم التي يمثلها الإسلام، أقول، إنه من المقرف حقا أن تدرج تلك الفئات من الفرنسيين، العدوان على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم برسوم كاريكاتورية باطلة، تحت مسمى “حرية التعبير”، علما أن محكمة الاتحاد الأوروبي، قد أصدرت حكمها المنصف القاضي بأن التجديف في حق الأنبياء لا يدخل بتاتا في نطاق حرية التعبير، فمن يحاكم هؤلاء المستهترين المعتدين ، بناء على هذا القرار الحكيم؟ ومن يلجم هؤلاء السفهاء الملحدين؟ ويوقف عربدة المعربدين؟
إن واقع الحال، المتمثل في البؤس والهوان، وفي التشتت والخذلان، الذي يعيشه أشتات المسلمين، هو الذي جرأ ماكرون وغير ماكرون من علوج الروم أن يمردوا على توجيه شتى الإهانات والإساءات لهم، بكل صفاقة واحتقار، ودون أن يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة، ولا أن يقيموا لهم أدنى وزن ولا اعتبار. ويا ليت الأمر وقف عند حد قلة الحيلة و ضعف الشوكة، إذن لكان هناك مجال لالتماس بعض الأعذار، ولو على مضض، لمن وقع عليهم العدوان والامتهان، ولكن الواقع المرير، يثبت بكل غرابة وشذوذ، أن ماكرون، وغيره من شانئي الإسلام، المتطاولين على رموزه ومقدساته، لم يطمئنوا إلى الإقدام على ما أقدموا عليه من انتقاص وإيذاء وعدوان على الإسلام، وكتاب الإسلام، ورسول الإسلام، فقط لذلك الاعتبار، بل إنهم لم يستشعروا ذلك الأمان والاطمئنان، إلا بعد أن شاهدوا تلك المقدسات يعتدى عليها في عقر دار الإسلام، وممن ينسبون إليه على المستوى الجغرافي والإحصائي، ودون أدنى نكير يقام له وزن أو حساب.
لقد كتب علينا نحن مسلمي هذا الزمان، أن نكون شهودا على فصول بالغة المأساوية، لا أقول في الصراع بين الإسلام والغرب – لأن الوضع يتمثل في أغلب ملامحه في انبطاح وانهزام يكادان يكونان تامين وشاملين، على المستوى المادي والمعنوي معا – بل في مجزرة رهيبة، يسبح ضحاياها في الأشلاء والدماء.مجزرة أتت على كل شيء، فلا تسمع بين ثناياها إلا بقايا أنين، ولم يبق في محيطها الدامس المظلم إلا بعض خيوط ضوء تلوح في الأفق البعيد، وتنشد فرصا سانحة للبزوغ والانتشار.
ويتجلى الطابع المأساوي في واقع الأمة الإسلامية، بسبب ما حصل لها من انحدار وانهيار، وما وقع عليها من ظلم واحتقار، في مفارقة بالغة العجائبية والغرابة، فقد تعرضت هذه الأمة المهيضة الجناح، المصابة بالكساح، لظلم مزدوج، تمثل شقه الأول في المرحلة المسماة بالاستعمار، وهي أحق أن تسمى بالاستدمار والاستحمار، لأن الأمة تعرضت فيها لعملية استنزاف لكيانها المادي، وتخريب لجوهرها المعنوي، المتمثل في وعيها العقدي والثقافي، ويتمثل شقه الثاني ، في استكمال عملية التخريب والتذويب، وذلك في مرحلة ما بعد “الاستقلال”، وهي أحق أن تسمى بمرحلة الاستغلال، الذي مورس ويمارس على مستويين: مستوى عقر الدار، الذي يجسد شكلا من أشكال الاستعباد المقنع ببعض الأقنعة الموهمة الخادعة، ومستوى ما وراء البحار، الذي سخر فيه المسلمون- الذين ذاقوا مرارة الاستعباد “الاستعماري”، هم ونسلهم- لرفع بنيان وعمران بلاد الدول الجائرة التي تولت كبر غزوهم ونهب خيراتهم، وذلك بعد ما ذهبت أرواح آبائهم وأجدادهم وقودا في سبيل تحرير بعضهم من بعض، أثناء دوران طاحونة الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما هو أمر تحرير الجنود المغاربة لفرنسا من قبضة النازيين الألمان.
ثم بعد كل تلك المعاناة الشديدة الوقع، البالغة المرارة، وذلك الاستغلال الممعن في السوء، لا يسع دهاقنة ” الاستعمار”، إلا أن يجازوا من أحسنوا إليهم طوعا وكرها، جزاء سنمار، بأن يسعوا بكل الوسائل والحيل، إلى أن يحكموا حولهم الحصار المادي والمعنوي، ويكيلوا لهم أبشع التهم وأقدح النعوت، التي تسيء إلى كرامتهم المتجسدة في دينهم ومقدساتهم. وقد قدمت فرنسا في المحطة الراهنة مثل السوء، بإشعال نار الفتنة، وإيغار الصدور، بسبب عدوانها الصارخ على حضرة رسولنا الكريم، سيد ولد آدم، خاتم النبيين والمرسلين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وذلك بتأليب شرذمة من الجهلة ممن ينسبون- ظلما وزورا – إلى الفن والإعلام، على جاه نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، بإصدار رسوم شيطانية بالغة البذاءة والسوء، ونشرها على نطاق واسع، قصد إظهار من جاء بالإسلام، ومثل فيه الأسوة الحسنة، ونشر نوره في المشارق والمغارب، في صورة مقززة منفرة، وهيهات هيهات، أن ينالوا من شأو نبي الله، وحبيبه ومصطفاه، لقد شاهت وجوههم، وخسئت مساعيهم، وانعكس مرادهم، وبطلت مراميهم، ولم تزد محاولاتهم اليائسة الناس إلا تطلعا لدين الإسلام لفهم أسراره وحقيقته، وإلا انجذابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يدرسون شمائله، ويقبسون من أنواره، ويتملون طلعته البهية، وأخلاقه السنية.
غير أن كل هذه المظاهر، وهذه الآيات التي تدل على سمو الإسلام وعظمته، وتكشف عن كونه أمر الله الذي وعد بإظهاره على الدين كله، لم تزد ماكرون إلا إمعانا في العلو والاستكبار، فبعد أن أحاط المعلم المجزوزة رقبته- في مشهد غامض،ومحاط بالريبة والشك- بمظاهر التكريم والاحتفاء، باعتباره بطلا مرموقا من أبطال “حرية التعبير”، التي ظلمت أشد الظلم وامتهنت أشد الامتهان، صرح في تحد سافر صفيق أمام الإعلام والعالم، أنه لن يتوقف عن نشر الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، معبرا عن قدر غير محدود من النزق،ومن الفجاجة ومحدودية الأفق، فضلا عن انعدام الحياء، الذي هو أصل الداء.
وهنا أقف وقفة عند موقف الرئيس الشهم الشجاع، رجب طيب أوردوغان، الذي سجل نفسه في سجل الخالدين، بفعل تصديه لماكرون، ووصفه بقلة الأدب، حينما اتهم الإسلام، وزعم أنه يعيش أزمة في كل مكان، ونصحه بعد تماديه في غيه، وإصراره على مواصلة نشر الرسوم المسيئة لحبيب الرحمن، سيدنا محمد العدنان، عليه الصلاة والسلام، ما توالى الحدثان، بأن يقوم بعرض نفسه على الطب العقلي.
إن المتأمل للعبارات التي استعملها الرئيس رجب طيب أوردوغان في حق ماكرون، يتولد لديه الاقتناع بأنها ليست من قبيل إلقاء الكلام على عواهنه، لأنه وصفه بما هو فيه، لأن كلامه في حق الإسلام الذي ينتسب إليه ما يزيد على المليارين ونصف مليار عبر العالم، لا يمكن وصمه بأقل من ذلك، وهو يستوجب أكثر، ولكن لباقة الرئيس أوردوغان، جعلته يكتفي بذلك القدر. فهل تحتمل الأعراف الدبلوماسية التي ينبغي أن يراعيها مسئولو الدول في أدنى مستوياتهم– بله أعلاها – إطلاق مثل تلك الأحكام الطائشة في حق طائفة حية من الناس الذين يشكلون كيانا محترما ومكونا هاما من مكونات المجتمع الفرنسي، أسدت وتسدي إليه أيادي بيضاء، في تنمية البلد، باعتبار ما تمثله من سواعد كادحة، وعقول راجحة؟
وهل ينسب إلى العقل والرشد تصرفات هوجاء، من قبيل ما فعله ماكرون، عندما دعم تصرف الإساءة إلى أعظم الأنبياء، متبنيا في ذلك ومسايرا حماقة السفهاء والبلهاء؟ فهل مثل هذا الصنيع الأخرق لا يصح إرشاد صاحبه إلى عرض نفسه على الأطباء؟
وهذا الواقع الغريب خليق بأن يحمل المرء على التساؤل عن حقيقة المعايير التي تشترطها بعض الشعوب، فيمن تختارهم وترتضيهم لتسيير دفة حكمها وتسيير دواليب أمورها. وبأي حيل تصل نماذج من الناس إلى منصة الحكم، ليتبين بعد حين، أنها غير جديرة بها، بل وحتى بأقل منها، وأنها قد تكون وبالا على من اختارها، بسبب تصرفاتها الفجة واللامسئولة.
من الأكيد، أن هذه التساؤلات السالفة، قد تحيلنا على السؤال الأكبر المتعلق بما تنطوي عليه الديمقراطية من بعض المثالب والثغرات، والعواقب السيئة، في غياب إحكام المعايير المستند إليها، والآليات التي تضمن الوصول إلى نتائج آمنة، تضمن أمن البلاد والعباد، بغض النظر عن الإطار الحضاري الذي ينتمي إليه شعب من الشعوب اختار ذلك النهج السياسي في تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
ومما يؤكد وجاهة هذا التساؤل، أن تجارب الاختيار الفاشلة، كثيرا ما تحجب أصوات كثير من العقلاء ذوي الفكر الحصيف، والرؤية الثاقبة للأمور والأوضاع، ممن يعيشون غرباء بأفكارهم الناضجة في بلدهم الذي قد يلفظ أفكارهم، ويصد مواقفهم، بسبب غلبة التيارات المنحرفة التي تجد لها صدى وآذانا صاغية وسط الغوغاء والدهماء.
استمع إلى شاهد من أهلها(وزير خارجية فنلندا)، وهو يقول في توصيف الوضع العام، المتمثل في الكيل بالمكيالين، في سلوك كثير من الغربيين،: “لا أفهم شيئا البتة: عندما يسخر من إنسان أسود، فهذا يسمى عنصرية، وعندما يسخر من يهودي، فهذه معاداة للسامية، وعندما يسخر من النساء، فهذه جنسانية، ولكن عندما يسخر من مسلم فهذه حرية التعبير.”
وقال الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي( onfray michel) مخاطبا المستعمرين الفرنسيين: ( إنكم تقصفون بلدانهم، وتمزقون أسرهم، وترسمون نبيهم في رسوم ساخرة، وتشجعون النصارى الأفارقة وتسلحونهم من أجل قتل المسلمين في بلاد مالي، وفي إفريقيا الوسطى، ثم تتصرفون كضحايا، ألا تسخرون من أنفسكم؟ إنه لا أحد يصدقكم ، ما عدا المتهمين في عقولهم، أو المنافقين”
“وخلال مقابلة تلفزيونية مباشرة، أوضحت أوتين النائبة عن حركة “فرنسا لا تنحني” أن الإسلاموفوبيا المتزايدة تقود البلاد إلى وضع خطير وشفا حرب أهلية.
ولفتت إلى أن مواقف وخطابات اليمين، واليمين المتطرف شكلت مناخًا من الكراهية في البلاد، مضيفة: “أشعر بقلق شديد عندما أرى إلى أي مدى وصلت إليه الجدالات، هل فقد هذا البلد عقله؟”.
وأشارت إلى أن العديد من السياسيين كأنهم دخلوا في سباق من سيكون يمينيًا متطرفًا أكثر.
وأدانت أوتين اتهام الكاتب والفيلسوف الفرنسي باسكال بروكنير الصحفية المسلمة والناشطة النسوية رقية ديالوا، بكرهها للبيض، قائلة: “هؤلاء الرجال أصيبوا بالجنون”.
وحذرت النائبة الفرنسية من خطر انزلاق المجتمع إلى هاوية كبيرة في حال عدم العودة إلى المواقف والخطابات الحاضنة للجميع.”
ومن الجدير بالذكر في معرض الكشف عن عوار الخطاب الرسمي الفرنسي، وتعرية مثالبه وتناقضاته الفاضحة، أن نذكر حقيقة يعلمها الجميع، ويحاول الكثيرون سترها نفاقا، وهي أن جريدة” شارلي إيبدو” كانت تسمى” هارا كيري، في بداياته، وكانت تمارس نفس العمل، أي نشر الرسوم الكاريكاتورية. وذات يوم رسمت الجريدة رسما كاريكاتوريا يتعلق بموت الرئيس شارل دوغول، لكن المحكمة صادرت تلك الرسوم الكاريكاتورية، وحاكمت الصحافيين، وحكمت بحل الجريدة وإيقافها، بل ومنع حتى استعمال اسمها مجددا. وبررت المحكمة حكمها، بقدسية شخص دوغول. ومن أجل مواصلة الصحافيين لمهنتهم، كمصدر للعيش، تخلوا عن الاسم الممنوع، واستبدلوا به اسما جديدا، أرادوه أن يحمل ذكرى مغامرتهم، واحتالوا لذلك بتأليف ذلك الاسم، بحيث يحقق هذا الغرض، ويجنبهم المساءلة التي يتعرضون لها في حال إطلاقهم اسم ” شارل دوغول إيبدو”، فكان أن أطلقوا عليها:” شارلي إيبدو” خروجا من المأزق.
إن هؤلاء الصحافيين، هم نفسهم الذين ينتهكون حرمة الرسول الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، تحت لافتة حرية التعبير. فهذه هي فرنسا، ترفض رسم رئيسها ديغول بعد موته، في شكل كاريكاتوري ساخر، بحجة أن شخصه مقدس، وتصادر الجريدة عقابا لها على فعلها، وفي المقابل تدافع عن نفس الصحيفة تحت عنوان ” حرية التعبير، وهي تمارس السخرية من حبيب الله ومصطفاه، وخاتم رسله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.ألا ساء ما يحكمون، وبئس ما يصنعون.
إنه لمن المخجل حقا، ومن المثير للازدراء، ومن المدهش في ميزان العقلاء، أن ترجح في ميزان فرنسا، كفة المطالب الانتخابية الهزيلة الآنية، لأشخاص تافهين، على كفة ” سمعة” فرنسا كبلد عريق، بحمولته الفكرية، وبعطائه العلمي في مرحلة من مراحل التاريخ، فهل يستحضر ماكرون وشيعته من مثيري الفتن والشغب الصبياني، رصيد فرنسا من المفكرين العظام- الذين عرفوا قدر نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام وبجلوه، ووقفوا إجلالا عند حضرته، واحتراما لسيرته وسنته،- من أمثال الشاعر العظيم لامارتين، الذي قال في حق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:”
أعظم حدث في حياتي هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة وافية وأدركت ما فيها من عظمة وخلود
أي رجل أدرك من العظمة الإنسانية مثلما أدرك محمد
وأي إنسان بلغ من مراتب الكمال مثل ما بلغ
لقد هدم الرسول المعتقدات الباطلة التي تتخذ واسطة بين الخالق و المخلوق
إن ثبات محمد و بقاءه ثلاثة عشر عاماً يدعو دعوته في وسط أعدائه في قلب مكة ونواحيها ومجامع أهلها
وإن شهامته وجرأته و صبره فيما لقيه من عبدة الأوثان وإن حميته في نشر رسالته وإن حروبه التي كان جيشه فيما أقل من جيش عدوه وإن تطلعه فى إعلاء الكلمة و تأسيس العقيدة الصحيحة لا إلى فتح الدول و إنشاء أمبراطورية
كل ذلك أدلة على أن محمداً كان وراءه يقين في قلبه وعقيدة صادقة تحرر الإنسانية من الظلم و الهوان
وإن هذا اليقين الذي ملأ روحه هو الذي وهبه القوة على أن يرد إلى الحياة فكرة عظيمة وحجة قائمة حطمت آلهة كاذبة
ونكست معبودات باطلة وفتحت طريقاً جديداً للفكر في أحوال الناس ومهدت سبيلاً للنظر في شؤونهم فهو فاتح أقطار الفكر ورائد الإنسان إلى العقل وناشر العقائد المحررة للإنسان ومؤسس دين لاوثنية فيه
إن حياة مثل حياة محمد وقوة كقوة تأمله وتفكيره و جهاده ووثبه على خرافات أمته وجاهلية شعبه وبأسه في لقاء ما لقيه من عبدة الأوثان وإيمانه بالظفر وإعلاء كلمته ورباطة جأشه لتثبيت أركان العقيدة الإسلامية
إن كل ذلك أدلة على أنه لم يكن يضمر خداعا أو يعيش على باطل، فهو فيلسوف، وخطيب، ورسول، ومشرع، وهادي الإنسان.
من ذا الذي يجرؤ على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد ؟؟
ومن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه عند النظر إلى جميع المقاييس التي تقاس بها عظمة الإنسان ؟؟
إن سلوكه عند النصر و طموحه الذي كان مكرساً لتبليغ الرسالة وصلواته الطويلة وحواره السماوي، هذه كلها تدل على إيمان كامل مكنه من إرساء أركان العقيدة
إن الرسول والخطيب والمشرع و الفاتح ومصلح العقائد الأخرى الذي أسس عبادة غير قائمة على تقديس الصور هو محمد
إذا كانت الضوابط التي تقيس بها عبقرية الإنسان هي سمو الغاية و النتائج المذهلة لذلك رغم قلة الوسيلة، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أيا من عظماء التاريخ الحديث بالنبي محمد صلى الله عليه و سلم في عبقريته ؟؟
فهؤلاء المشاهير قد صنعوا الأسلحة و سنوا القوانين وأقاموا الإمبراطوريات
فلم يجنوا إلا أمجادا بالية لم تلبث أن تحطمت بين ظهرانيهم، لكن هذا الرجل محمد صلى الله عليه و سلم لم يقد الجيوش و يسن التشريعات ويقم الإمبراطوريات ويحكم الشعوب و يروض الحكام فقط، وإنما قاد الملايين من الناس. ليس هذا فقط بل قضى على الأنصاب و الأزلام و الأديان والأفكار والمعتقدات الباطلة.
لقد صبر النبي وتجلد حتى نال النصر من الله.
كان طموح النبي موجهاً بالكلية إلى هدف واحد.
فلم يطمح في تكوين إمبراطورية أو ما إلى ذلك. حتى صلاة النبي الدائمة ومناجاته لربه، ووفاته، وانتصاره، حتى بعد موته، كل ذلك لا يدل على الغش والخداع بل يدل على اليقين الصادق الذي أعطى الطاقة والقوة لإرساء عقيدة ذات شقين:
1 – الإيمان بوحدانية الله.
2 – الإيمان بمخالفته تعالى للحوادث.
فالشق الأول يبين صفة الله ألا وهي الوحدانية، بينما الآخر يوضح ما لا يتصف به الله تعالى وهو المادية والمماثلة للحوادث.
فلتحقيق الأول كان لابد من القضاء على الآلهة المدعاة من دون الله.
والثاني فقط تطلب ترسيخ العقيدة بالكلمة (بالحكمة و الموعظة الحسنة)
هذا هو محمد مؤسس المذاهب الفكرية التي تدعو إلى عبادة حقة بلا أنصاب و لا أزلام، هو المؤسس لعشرين إمبراطورية في الأرض ،وإمبراطورية روحانية واحدة.
هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام.
وإن فرنسا، لم تعدم في عصرها الراهن مفكرين عقلاء، وفلاسفة منصفين نزهاء، ومثقفين فطناء، عرفوا بفطرهم الصافية قدر الإسلام، وقدر رسول الإسلام، بل وعرفوا قدر المسلمين الذين ساقتهم الأقدار ليعيشوا بين ظهرانيهم، فقدموا شهادات في حقهم، تشيد بطيب أخلاقهم، وحسن عشرتهم، وعبروا عن تأففهم واشمئزازهم من الموجات العنصرية التي تستهدف وجودهم واستقرارهم، بل وتعبر عن استغرابهم وغضبهم مما يستهدفهم من تشنيع وتشويه وترهيب.
وأسوق هنا شهادة حية لأحد المثقفين، والناشطين السياسيين، يعبر من خلالها عن موقفه بكل وضوح، ويفضح التحامل العنصري على مسلمي فرنسا، إنه جان لوك ميلانشان ( jean-luc-Mélenchon)، المزداد بمدينة طنجة بالمغرب، سنة 1951، البرلماني وصاحب المسار السياسي المرموق في صفوف الحزب الاشتراكي، الذي قال معبرا عن غضبه واستيائه وغضبه:” إنه لمروع ما نشاهد، هذه الكراهية للمسلمين، هذا التمييز ضد الإسلام، هذه البرامج اللامحدودة ضدهم، هل تعلمون، لقد كانت لي فرصة العيش لفترة هامة من حياتي بين المسلمين، في طفولتي، وفي المدن التي أقمت فيها بفرنسا، وفي الوقت الراهن أيضا، في الحي الذي أقطنه بباريس، أو في سكني في أحد أحياء مارسيليا الذي أختلف إليه مرارا، في تلك الأماكن التي كانت مأهولة بالضعفاء من الطلبة والعمال المهاجرين وغيرهم ممن يدينون بالإسلام، في كل تلك الأماكن، لم أكن أبدا أشعر بأي خطر، مما يستشعره البعض إزاء المسلمين. إنني أنظر إلى هذا بنظرة إنسان يحب فرنسا، ويعلم أن ليس هناك من مستقبل ممكن، في ظل انقسام يحصل بسبب حرب الديانات”.
وبعد أن يتعرض لفصول الاضطهاد والطرد اللذين تعرض لهما اليهود على عهد سان لويس منذ ألف عام، وكذا البروتستانت على يد لويس الرابع عشر، والذين كانوا يجبرون بالقوة على ترك مذاهبهم إلى المذهب الرسمي، وأن فرنسا خرجت من ذلك عن طريق اللائكية، ووحدة المواطنة، يعبر عن استنكاره لما يتعرض له المسلمون اليوم، وعن استهجانه للموقف الرسمي ضد الرموز الدينية كالحجاب ، وغيره مما يميز النحل الأخرى كالنصرانية واليهودية، وأن ذلك يشكل تعسفا وسلوكا عبثيا، يثير القلاقل ويسمم الأجواء، كما يعبر عن إدانته لمن يشيرون دائما بأصابع الاتهام للإسلام والمسلمين. ثم يتهم الرئيس ماكرون بأنه صب الزيت على النار، ودعا إلى مجتمع اليقظة والحذر، بالمعنى السلبي، ويطالب في لهجة صارمة، بالتوقف عن ممارسة التمييز ضد المسلمين، ويدعو إلى تحقيق مطلب العيش المشترك على أساس المواطنة وحب الوطن، مع تمثل شعار الجمهورية : حرية، مساواة، أخوة.
خاتمة: إن على فرنسا أن تتخلى عن هذا المسلك المشين والهجين، وتصحح سلوكها تجاه كتلة ذات وزن واعتبار، يمثلها المسلمون ضمن المجتمع الفرنسي، وأن تعلم علم اليقين،أن الاستمرار في هذه الممارسة الشاذة واللامسئولة واللاحضارية، ليست في صالح أحد، إنها تصب في اتجاه تدمير فرنسا، وإلقائها في أتون فتنة تودي بوحدة فرنسا وتلقي بها نحو المجهول. إنها مطالبة بتغليب صوت العقل، والاستفادة من الفرصة التاريخية التي يمثلها الوجود الإسلامي، الذي يمثل قيمة مضافة، ورافدا ثقافيا، مؤهلا لتلقيح المجتمع الفرنسي بقيم الخير والحق والجمال، وذلك عن طريق حوار بناء، يحدد سبل العيش المشترك، في مجتمع تجد فيه كل المكونات موقعها اللائق والمشرف ، بما يخدم مصلحة الجميع، وأمن الجميع.
وما أجدرنا أن نستلهم في جدالنا مع الفرنسيين العقلاء، قول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:” قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( آل عمران:64).
وجدة في 12 ربيع الأول 1442 موافق ل 29 – أكتبوبر 2020.