هل تـحسم كورونا المعركة، أم تحسمها همم عالية؟
كمال الدين رحموني
هذا العنوان مقصود لذاته، ربما يكون مستفزا لبعض الناس، أو موافقا لغيرهم، وقد يكون مذكِّرا ومحذّرا ومنبها. أم تحسمها هِمَمٌ عالية؟
ومناسبة السؤال، هو هذا “الفيديو” إذا صحّ الراوي-، الذي يعرض مأساة لم تكن معهودة في الزمن العادي، فإذا بها تغدو وكأنها شيء طبيعي بحكم هذا الوباء، إلى درجة أن يقع الذي وقع، فإن صحّت الواقعة، فتلك علامة إنذار قادم، وخطر داهم. وتلك مصيبة هائلة، وهولُ المصيبة، أن تُنتهَكَ كرامة الميت المكفولة بنص الكتاب العزيز” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ” الإسراء70، وتكريم الإنسان، معناه أن له حرمة في حياته وبعد مماته، ولذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:” كَسْرُ عظْمِ الميتِ كَكَسْرِه حيّا” رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وفي دلالات الحديث، ذكر العلماء أقوالا، منها: ” أن حرمة المؤمن بعد موته باقية، كما كانت في حياته، كما يقول ابن حجر، ومنها : ” أن الحرمة في حال موته، مِثلُ ما له منها حالَ حياته، وأنَّ كسر عظامه في حال موته، يحرُم كما يحرُم كسرها حال حياته”. إلا أن المعنى الأنسب لما نحن بصدده، هو الإهانة، ففي الحديث أنه” لا يُهانُ ميِّتًا كما لا يُهانُ حيًّا”. ولعمري، هل هناك إهانة، كما جاء في “الفيديو” – إن صحَّ- لمسلميْن غادرا دنيانا، فاستعصى التغسيل والنقل اللائق بكرامة المسلم ؟ وقد يتساءل بعض الناس بالقول: أين نحن من إهانة الرجلين، وقد اعتُنِيَ بهما في حياتهما، فأُدخِلا المستشفى، ولقيا العناية المطلوبة، لكن لا رادّ لقضاء الله، فقد حان الأجل، فما عسانا نفعل؟ هذا سؤال ما كان ليُطرح لو اطلع كلٌّ بمهمته، وحضر الوازع الديني، فأي عاطفة دينية أو إنسانية، تطاوع النفس في معاملة تحُطُّ من كرامة إنسان أقام الدينُ أصولَه على أساسها؟ ولذلك كان الواجب الشرعي، ثم القانوني الإحسان إلى الرجلين، من باب الستر التي اتصف به الحق سبحانه، في قوله عليه السلام: ” إن اللهَ حليمٌ حَيِيٌّ سِتّيرٌ يُحِبُّ السِّتر” النسائي.
هذه الواقعة -إن صحّت-، بالإضافة إلى كونها عملا سيئا مخالفا للشرع وللقانون – بصرف النظر عن المسؤول عنها-، فإنها أخرجت بعض المكنونات التي ظلت تختمر في غفلة ولا زالت، وهي قضية يُرادُ لها أن تتكرر بالإقليم مرة أخرى، حيث دبّ الخلاف بين مؤسستين من مؤسسات الدولة، إحداهما سلطة الإقليم، والثانية سلطات الصحة، وكلٌّ له اختصاصه، بعدما عرف الإقليم واقعة من هذا القبيل في السنوات الماضية، مسؤوليْن مغادريْن، وشاء الله أن تُرَمَّمَ تلك العلاقة، ويستعيدَ الطرفان عافية الوئام والتوافق. ولست أدري، لماذا تكرّر الحدث مرة أخرى، بين سلطتين مهمتين، وأهميتُهما تنبع من كونهما تسهران على تدبير الشأن العمومي بالإقليم، على أساس التعاضد والتآزر والتفاني في القيام بالمسؤولية، كلٌّ من موقعه الذي يحدده القانون، خاصة في ظروف راهنة عصيبة، بفعل الوباء الذي يتفشى بمستوى مخيف، بحسب الأرقام المتصاعدة، وإعلان الإغلاق؟ فهل يبقى للخلاف مبرر؟ وهل يظل الانتصار للذات قائما، أم نروم “الانتصار” على الوباء الفتاك؟ إننا نعيش زمنا استثنائيا صعبا، ما عهدناه من قبلُ بهذه الفواجع، فتقلَّبت أحوال الناس، ولا يزال الوباء يحصد الأرواح، ويفتك بالأجساد، ولا تزال الطوارئ الصحية تتجدد بين الحين والآخر، فهل يبقى الإصرار على الخلاف مستمرا؟
وفي هذا الوضع الاستثنائي، هل نسمح لأنفسنا بالتذكير والنصح، باعتبار النصيحة واجبا شرعيا، في قوله عليه السلام: “الدِّينُ النَّصيحةُ. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: للهِ ولرسولِه ولكتابِه ولأَئمَّةِ المسلين وعامتهم” مسلم. والإمامة نوعان: كبرى، وصغرى. ولست أتوقع من طرفي الخلاف – وهما على درجة عالية من الوعي والمسؤولية، والالتزام بالدين، والتفاني في القيام بالمهام،- ولا نزكي على الله أحدا-، لست أتوقع سوى أن تهدأ النفوس، ويعُمَّ الوئام محلّ الخلاف، وتُقدّمُ الصورة الناصعة التي ينتظرها الخيرون والغيورون على الوطن والإقليم بفارغ الصبر، وهي فرصة مهمة تُمليها ظروف الوباء الصعبة، أمام رَجُلَيْ سلطة موقَّريْن، ممثَّليْن في السيديْن العامل، ومندوب الصحة. وما يزكي هذا المطلب، سمعةُ الرجلين الطيبة، والصِّيتُ الحسن الذائع، لكليهما. ولسنا نجامل، إذا قلنا: إن حلول السيد العامل بالإقليم، قبل ثلاث سنوات، قد غير معالم الإقليم، والمدينة على وجه الخصوص، على مستويات عديدة، منها الأوراش الكبرى التي ظلت حبيسة الرفوف لعقود، فإذا بها تصبح واقعا، وتلك محمدة من محامد السيد العامل المحترم، لا ينبغي غمطُها، أو غضُّ الطَّرْف عنها حين يدِبُّ الخلاف، وأنا على يقين أن السيد العامل المتشبع بقيم الدين التي تترجمها تحركاته، وغيرته على أهل القرآن، وبيوت الله، بالإضافة إلى القناعة، يشهد له بها المقربون والأباعد، كل ذلك يحيي الأمل في تجاوز هذه المرحلة من الخلاف، وتلك صفات تشفع للسيد العامل المحترم، حين تصدر بعض “الهنات، التي لا تستثني أحدا من البشر، فَــــــــ” كلُّ ابن آدم خطّاء، وخير الخطّائين التّوّابون”، وكل إنسان خُلِق من ضعف، ثم يصير إلى قوة، ثم يؤول إلى ضعف من جديد، ومن تمام الضعف أن تجري سننه على العباد من خلقه، ولنا عبرة في الوباء، فكم أخذ من أحبة لنا على حين غفلة، وكم فتك بزملاء أعزاء، صاروا أثرا بعد عين، وكم رحل من مسؤولينا: من رجال سلطة، وأطباء، وممرضين، وأساتذة، وغيرهم. هذه هي الحقيقة التي لا ينبغي نسيانها. ولما كان العدل في القول مأمورا به في قوله تعالى: ” و وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى “الأنعام 152، فإن مما يتناهى إلى علمنا عن السيد مندوب الصحة المحترم، يُثلج الصدر، ، بشهادة الأطر الصحية بالإقليم، ومن زملائه خارج الإقليم، وما المعهود منه إلى أن يكون ذلك، حين تنضاف إليه ميزة الانتماء للمدينة، ومن الجميل أن يكون من أبناء المدينة، من يجمع بين الكفاءة والغيرة، فتلك غاية جليلة. ولقد أبان السيد المندوب المحترم عن معدن نفيس إلى جانب زملائه في المهنة، ممن يعمل تحت سلطته، في ظروف الوباء، ونحن نَدينُ بالفضل كلِّ الفضل – بعد الله تعالى-، لهذه المؤسسة الصحية التي قلّ – في ظروف الوباء المفزعة-، أن يظلَّ الواحد من غير أفرادها ثابتا مرابطا في مواجهة “معركة” ضارية، هي معركة حياة أو موت، ومع ذلك كله، حين يمتلك الإنسان صدق النية، وحياة الضمير، وسلامة القلب، ونبل الوعي، يظل الإخلاص للمهنة فوق كل الأولويات، ودونها تتضاءل أولويةُ الأولويات: المحافظة على الذات، في مقابل المحافظة على حياة أنفُسٍ أخرى ليس لها – بعد الله تعالى – إلا ثُلَّةٌّ من الحكماء الذين قدّموا لحد الآن، أرواحا سارت إلى عفو الله، ونحسبهم شهداء عند الله، ولا نزكيهم على الله. فهل نُنصت إلى أرواح أطبائنا وممرضينا الراحلين؟ وهل نستشعر حجم الأمانة التي تركوها لإخوانهم من بعدهم: سلطة، ومندوبية، وأطرا صحية؟ إن الواجب الشرعي يقتضي الاجتماع على كلمة سواء، فقد قال الحق سبحانه:” قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ”، والكلمةُ السَّواءُ هنا، من أجل تجاوز خلاف حول العقيدة: ” أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ” آل عمران 64. فكيف إذا كان الخلاف حول طريقة في التدبير الصحي؟ أليس من الرُّشد أن تختلف وجهات النظر في إطار ما يسمح به القانون؟ أليس من الرشد أن نتجاوز -بالمعنى الإيجابي- المناصب والمهام والصلاحيات من أجل أن نقدم مثالا جميلا في آداب الخلاف، فيعذُر بعضُنا بعضاً فيما نختلف فيه، ونتعاون على ما اتفقنا عليه، ونثمّن جهود بعضنا بعض، ويجدُ بعضنا لبعض العذر، وفد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا شَخْصٌ أحَبَّ إليه العُذرُ من الله، من أجْلِ ذلك بَعَثَ اللهُ المُرْسَلينَ مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ” مسلم، وقال الشاعر:
إذا ما بَدَتْ مِنْ صاحبٍ لَكَ زَلَّةٌ **** فَكُنْ أنتَ مُحْتالاً لِزَلَّتِهِ عُذْرا
فلعل الله تعالى يرحم ضعفنا، ويصلح أحوالنا، ويُمِدَّنا بقوة منه في الجسم، ويُلهمنا الصواب في القول والفعل، ويشرح صدورنا لبعضنا البعض، حتى نخلِّفَ ذكرا حميدا، فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العَرْض، يومَ يسألُ الله كلَّ نفسٍ عمّا أسلفت، وتُوَفّى كلُّ نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون.
هذه دعوة صادقة، ودفقة نفس، من قلب مُفعَم بمحبةٍ لله ولرسوله وللوطن، ولكل إنسا صالح، يضطلع بأمانة المسؤولية، ويؤديها حق أدائها، من قبل أن تأتي يومَ القيامة بأثقالها كما أثقلت السماوات والأرض والجبال، ” وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ”. أسأل الله تعالى التوفيق والسداد للسيدين المحترمين ولكل من هو تحت سلطتهما، راجيا من الله أن يعجِّلَ بِرَدْمِ هذه الكوّة، ويرمّمَ العلاقة، فكم نتطلع إلى يوم قريب، تعودُ فيه المياه إلى مجاريها، وتتآلفُ القلوبُ من جديد، ” وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا” الإسراء 51.