مدينة جرادة ….وثقافة المناجم .
محمد حمداوي
جرادة مدينة منجمية تأسست تدريجيا منذ اوائل القرن الماضي. اكتشاف الفحم الحجري من طرف المعمر فرض استقطاب اليد العاملة المتخصصة من الضفة الشمالية للبحر المتوسط. جيء بالمهندسين والتقنيين والجيولوجيين من فرنسا وبلجيكا على وجه الخصوص نظرا للتجارب التي راكمتها الدولتين في مجال التنقيب عن الفحم واستغلاله… وفي مرحلة لاحقة احتاجت شركة مفاحم شمال إفريقيا CNA إلى يد عاملة لاستخراج الفحم بوسائل بدائية في بداية الأشغال. استعملت جل الوسائل لاستقدام خيرة الشباب من مختلف القرى المجاورة والقبائل المحيطة بفدان الجمل. من سيدي لحسن أولاد عمرو والظهرة أولاد سيدي علي وبني گيل والزكارة وبني مطهر ولمهاية وبني يعلى ولبخاتة لغواط…. لم تكتف بتلك القبائل بعد توسع اشغال الشركة وزيادة الطلب على الصخور الثمينة آنذاك لاستخراج الطاقة بعد ظهور جيل المعامل الحرارية بجميع الدول… استقطب الفرنسيون اليد العاملة الخشنة من شمال المغرب وغربه وجنوبه… ظهرت ملامح مدينة اختلط فيها مختلف القبائل حاملين معهم ثقافات مختلف مناطق المغرب المتنوعة… تعايش المغاربة في فسيفساء رائعة. السوسي والتازي و الريفي والشلح والشريف و الزياني و الفاسي و البربري و الصحراوي والطانطاني والمراكشي والملالي واليهودي والنصراني….و الروسي والاوكراني منذ مطلع السبعينات إثر بناء المركب الحراري الجاثم لحدود اليوم بحاسي بلال. فسيفساء ثقافية متنوعة تولدت عنها ثقافة منجمية تميزت على الدوام بقيم إنسانية سمت وترفعت عن الاختلافات الطبيعية في الأصل والعرق والدين والتقاليد. ثقافة تمظهرت في قيم كالتسامح وحسن الجوار والتعاضد والتآزر… قيم إنسانية سامية سمو وشموخ رجال عرفوا بالشهامة وكرم الضيافة وعزة النفس… عاشت مدينة جرادة الفتية على وقع كل الأحداث التي عرفها العالم المتوتر في تلك الفترة… الروح الوطنية العالية و الإيثار والدفاع المستميت عن حقوق العمال ومسايرة تطور و انتصارات الحركة العمالية العالمية. هذه بعض ملامح الإرث الثقافي الزاخر بالنضالات ضد قوى إمبريالية كان الحدث الأبرز تأسيس أول نواة نقابة مغربية في شمال إفريقيا عامة وفي المغرب على وجه التحديد “إتحاد عمال المناجم” إن لم تخني الذاكرة. ولكم أن تتصوروا صعوبة الإنجاز من خلال مكان الإجتماع او المؤتمر العام آنذاك “منطقة عكاية بواد الحي”.
تلكم هي الأحداث والوقائع التي نجم عنها شعور بالفخر و الاعتزاز بالماضي… شعور بالقدرة على التعايش والعيش المشترك مهما تعددت الثقافات… جرادة نموذج إنساني ناجح وجب الاقتداء به لدحض ادعاءات المتطرفين… نموذج ثقافي و إجتماعي ينبغي دراسته من الناحية الإجتماعية والانتروبولوجبة و الإقتصادية لاستخلاص الدروس والعبر … نموذج مغربي بامتياز حبذا لو تم استثماره لاستئصال الشوفينية والفكر الإقصائي الأرعن… نموذج لتمغربيت في أجمل تجلياتها. من الناحية الإقتصادية عرفت المدينة وجل المناطق الأصلية للوافدين رواجا ليس له مثيل :أجور العمال راجت في القرى والمداشر… في المدن الكبرى البعيدة والقريبة… أجور العمال استفاد منها التاجر والكساب والفلاح والفنان والمياوم والحرفي… سلسلة الإنتاج وعجلة الإقتصاد لم تتوقف يوما… عمال موسميون ارتبطت أعمالهم بالمناجم. حرفيون لم يكن بالإمكان الاستغناء عن خدماتهم تقاسموا مداخيل القوة العاملة.. من حمام المنجم إلى دار الصابون ومقهى الكانتينا “contine” إلى المارشي وورشات الحدادة والخياطة…. من بائع الفاخر إلى اللبان و”مول الهندية” “وبائع البيض المسلوق” “ومول الديتاي” “والگراب” “والحلايقي” القادم من جامع الفنا… الحافلات والطاكسيات وتاجر الملابس وخياطة “البلوزة” التقليدية والفران…صناعة الحصير والزربية التقليدية وبائع الفخار… كلها مهن وحرف استقر روادها بين جبال سيدي بلقاسم ازروال وأحراش عگاية وجبل بوكلتوم وقمم دادا علي و النجود العليا… تكامل يكاد يوحي بالاستقلال والاكتفاء الذاتي للمدينة وأحوازها… و الفائض لم يتم إدخاره في الأبناك… لا بل لم تتوفر المدينة على وكالات بنكية… الفائض أرسل إلى مختلف مناطق المغرب كرما و تضامنا وتكافلا مع الأهل والمقربين… تلكم قصة مدينة منجمية انتهىت بإغلاق آخر حفرة لإنتاج الفحم الحجري. انتهت بانتهاء شركة مفاحم المغرب CDM.
إنه تاريخ ثقافة هنا انبثقت وستبقى رغم العواصف التي اجتاحت أبناء المناجم. ستبقى لأن الثقافات تتجاوز الأحداث ولا تنجرف أمام زحف سيول الحداثة المزيفة وهجومات الحضارة الغريبة القادمة شعارات و مسميات لا تليق بمن غرست في نفوسهم القيم النبيلة والأحاسيس الإنسانية الراقية.
تلك جرادة التي ترعرعنا بين دروبها الضيقة. تلك مدينة عشقنا منازلها البسيطة وأحياءها المترامية الأطراف.. تلك جرادة التي أدركنا بعد فوات الأوان سر جمالها… علمنا بعد حين ارتباط قلوبنا بسوادها و عشوائية دواويرها وبساطة أهلها وشموخهم… تلك قصة ستبقى خالدة في الذاكرة الجماعية لأبنائها… تلك قصة تجمعنا مهما تفرقت بنا السبل… تلك قصة نروي تفاصيلها في كل المجالس. قصة أحكيها لحفيدي إذ سيدونها المؤرخون في كتب التاريخ ويؤلف حولها الرواة أجمل الأساطير… إنها ثقافة راقية صارت تقض مضاجع هواة التخريب… ثقافة غيرت قلوب من يحبون بث الخلافات وأحزنتهم حد الجنون.
Mohammed Hamdaoui.