الذكر والتكيف الصوفي من مبدأ الحكم للوجود
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
يعرف “التكيف النفسي Psychological adaptation” بأنه” عملية دينامية مستمرة، يهدف بها الفرد إلى أن يغير سلوكه، ليحدث علاقة أكثر توافقاً وتوازناً مع البيئة، كما تدل على مفهوم بيولوجي استخدم في نظرية التطور والبقاء، فالكائن الحي القادر على التكيف مع البيئة، ومفاجآتها يستطيع الاستمرار في البقاء، أما الذي يخفق في التكيف فمصيره إلى الزوال، وتشمل البيئة كل المؤثرات والإمكانات والقوى المحيطة بالإنسان التي يمكن أن تؤثر في جهوده للحصول على التوازن النفسي والبدني في معيشته”.
كما يوصف بأنه”سمة وظيفية أو معرفية أو سلوكية تساعد الكائن الحي في بيئته. ويندرج التكيف النفسي ضمن نطاق الآليات النفسية المتطورة ( ومع ذلك، تشير تلك الآليات إلى مجموعة أقل تقييدًا. إذ تشمل التكيفات النفسية فقط السمات الوظيفية التي تزيد من تأقلم الكائن الحي… “.
أولا:الذكر والاندماج الوجودي عند الصوفية
ولتقريب هذا الموضوع بمجال الذكر في الإسلام على الطريقة الصوفية نقول:” إن الصوفي قد سمع قول الله سبحانه وتعالى:”وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم”و” سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز “و “يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير”وكثيرا من الآيات والأحاديث النبوية الشريفة التي تشير إلى أن حقيقة الوحدة الكونية تكمن في العبادة لله تعالى والخضوع له وتسبيحه بصورة شاملة وبشعور وغير شعور ومن حياة ومن جماد كما في قوله تعالى:”والنجم والشجر يسجدان ” و”يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته”.
إنه لما سمع كل هذا قد تساءل مع نفسه بمقاله وحاله كضرورة علمية وحكم مستنبط من الوجود كما يعبر فقهاؤنا بقولهم:الحكم للوجود،أي أن الواقع قد يعتبر قاعدة رئيسية لاستنباط الأحكام وتقرير ما يجب فعله أو اجتنابه،فقال :
إذا كان الوجود بحيه وميته،بلسانه وحاله،يسبح لله فهل يجوز أن يصدر من الإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه شذوذ عن الوحدة الكونية و انفصال عنها في أهم شيء وجد من أجله و استثني بسببه من ضمن سائر الغايات والتطلعات والأهداف حيث يقول الله سبحانه وتعالى:”وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”؟.
كلا وألف كلا : فلم يترك الإنسان سدى،بل هناك من كان التكيف مع الوجود هو طبعه وعادته،وخير ممثل لهذا التكيف هو سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه حيث تقول عنه سيدتنا عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:”كان رسول الله يذكر الله في كل أحايينه”،وهو الذي حن الجذع لفراقه وسلمت عليه الأحجار وخاطبته البهائم واشتكت إليه ومالت معه الظلال والسحب وأحبته الجبال وانجذبت نحوه القلوب وهامت بحبه وطاعته… صلى الله عليه وسلم.
ثانيا :التكيف والتناغم الوجودي بين الصوفي ومختلف العوالم
إن التكيف والانسجام والتجاوب قد يحدث بين الذاكر وعالم الغيب،وكذلك بينه وعالم الشهادة، أو بعبارة أخرى بين أهل السماء وأهل الأرض .
فأما عن الجانب الأول فأذكر مثالا من بين كثير من الأمثلة كالتالي :
عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا:”قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة،وذكرهم الله فيمن عنده “.
وفي حديث آخر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن لله ملائكة سيارة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر،فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا على حاجتكم !قال:فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم:ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون:يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك.
قال :فيقول:هل رأوني؟قال:فيقولون:لا والله ما رأوك قال:فيقول:كيف لو رأوني؟ قال:يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة و أشد لك تمجيدا وأكثر لك تسبيحا.قال:يقول: فما يسألوني؟ قال:يسألونك الجنة،قال:يقول:وهل رأوها؟يقولون :لا والله يا رب ما رأوها،قال :يقول:كيف لو أنهم رأوها؟قال: يقولون :لو رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة.قال: فمم يتعوذون؟ قال:يقولون:من النار.
قال:يقول:وهل رأوها؟قال:يقولون:لا والله ماروها؟ قال يقول:كيف لو رأوها؟ قال:يقولون:لو رأوها كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة.قال:يقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم.قال:يقول ملك من الملائكة:فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة. قال:هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم! “.
فهذا الحديث قد يمثل محور أصول التصوف وقواعده سواء تعلق الأمر بالجانب العلمي أو العملي وكذلك في تحديد الغاية الأساسية من طريقته التي هي معرفة الله تعالى وإرادة وجهه سبحانه،وهو يحتاج إلى دراسة واسعة لاستخراج الأحكام الواردة فيه،غير أننا سنقتصر هنا على بعض الإشارات -حسب مقتضيات موضوعنا- المحددة في تبيين أوجه التواصل بين عالم الغيب والشهادة الذي يحققه الذكر،والذي كان أعظمه هو القرب إلى حضرة الله تعالى وطلب رضاه واستدرار مدده وفضله وطلبه لوجهه الكريم”واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم الغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا”.
بحيث قد توجد في الآية والحديث إشارة واضحة إلى أن الذاكرين على وجه التخصص والالتزام ستتحقق لهم رؤية الله تعالى بميزة اختصوا بها وبشوق ومعرفة اكتسبوها في باب الذكر حتى طويت لهم المسافات واختصرت لهم المقامات،فأصبحوا في مقام الرضا والأنس والشوق… “وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة”.
كما توجد أمثلة كثيرة تبين لنا مدى التآلف والتكيف الذي قد يحصل بين الذاكر وعالم السماء حيث لا يعلم أمره إلا الله سبحانه وتعالى.
أما التجاوب في عالم الأرض والشهادة فكثير وكثير جدا يثبت بالشرع وقد يرى بالمشاهدة ككرامة ونتيجة حتمية لقانون التكرار والعادة والتكيف كما سبق وبينا،من أهم الأمثلة على ذلك قوله تعالى في حق النبي الرسول سيدنا يونس عليه السلام حينما ابتلعه الحوت:”فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون”.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المجال:”دعوة ذي النون وهو في بطن الحوت:لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له”.
وعالم الأرض في عرف الصوفي قد يتضمن الأرض الحية والأرض المعنوية وهي قلبه وباطنه.ومن هنا فقد يكون تعاونه مع قلبه أكثر أهمية من حيث إدراكه لمستوى قربه من الله سبحانه وتعالى وشعوره برضاه ومحبته.وذلك ما يمكن فهمه من خلال الآية الكريمة :”الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب”.
فيكون هذا التجاوب بمثابة طريقة أقرب للاستدلال على الله،و يكون الذكر ممثلا لوظيفة عملية ذات بعد وجداني ذوقي ونظري في آن واحد .
فلقد وردت عن الصوفية عدة آثار تبين التآلف بينهم وبين شر المخلوقات في الكون ،وكذلك بينهم وبين وحشيها ،سواء أكانت مضرة أم نافعة ،كعنوان على التكيف من غير إخلال بقوانين الوجود حسب الناموس العام الذي يؤسسه عنصر ذكر الله تعالى.
يقول الصوفي حامد الأسود:”كنت مع إبراهيم الخواص في سفر،فجئنا إلى موضع فيه حيات كثيرة فوضع ركوته وجلس وجلست،فلما كان برد الليل وبرد الهواء،خرجت الحيات فصحت بالشيخ،فقال:اذكر الله تعالى فذكرت فرجعت ثم عادت فصحت به فقال:مثل ذلك،فلم أزل إلى الصباح في مثل تلك الحالة،فلما أصبحنا قام ومشى ومشيت معه،فسقطت من وطائه حية عظيمة، قد تطوقت به،فقلت ما أحس بها،فقال:لا،منذ زمان ما بت ليلة أطيب من البارحة !!”.
في حين أن التكيف قد ينعدم أو قد يتم بصورة مضادة لانعدام عنصر الذكر عند الطرف الآخر الذي يحارب الإنسان عن إرادة وقصد كمثل الشيطان الذي هو عدو الذاكرين ومجال الذكر على كل حال كما وصفه الله تعالى بقوله:”استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله،أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون”.
ولهذا فقد يرى الصوفية أن الذكر إذا تمكن من القلب و دنا منه الشيطان صرع كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان فتجتمع إليه الشياطين فيقولون:ما لهذا؟ فيقال: قد مسه الإنس!”،وفي هذا السياق نفسه يحكي ابن عطاء الله السكندري عن حاله مع شيخه عباس المرسي:”قال:وكنت كثيرا ما يطرأ علي الوسواس في الطهارة،فبلغ ذلك الشيخ،فقال:بلغني أن بك وسواس في الوضوء،قلت نعم!فقال رضي الله عنه:هذه الطائفة تلعب بالشيطان لا الشيطان يلعب بهم!. ثم مكثت أياما ودخلت عليه فقال :ما حال ذلك الوسواس؟قلت:على حاله،فقال:إن كنت لا تترك الوسوسة لا تعد تأتينا!فشق ذلك علي وقطع الله ذلك الوسواس عني،وكان رضي الله عنه يلقن للوسواس:سبحان الله الملك القدوس الخلاق الفعال،”إن يشأ يذهبكم ويأتي بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز”…”.
فهذه أمثلة مختصرة تثبت شرعا وعقلا رقي منهج الصوفية في اتخاذهم باب الذكر أعظم الطرق إلى الله تعالى.وكذلك تبين سبقهم للنظريات الحديثة في علم النفس حول وظيفة التكرار،وكيف أنهم سموا بهذه الوظيفة على كل اعتبار حتى نالوا صفة المتكيفين مع الوجود كله،لا مع البيئة الاجتماعية فقط.
ومن هنا فقد كان الذكر لديهم منتجا حالا خاصا ووجدا فياضا يطرأ عليهم بحسب شحنتهم الروحية وبقدر استعدادهم ومستويات أشواقهم التي يعبرون عنها بلغة راقية في سماعهم الذي يصوغونه على شكل أشعار وأسجاع كلها تحمل معاني التوحيد والمحبة لله ولكتابه ولرسوله وسنته ولأوليائه وطريقتهم في الوصول إليه.