فرونسواز..قبائل الجبال هبة الله لمواشيها؛فما “ليوطي”؟ الحلقة الثالثة
رمضان مصباح الإدريسي
الحلقة الثالثة:
مقدمة عامة:
سيتحرك هذا العمل الروائي،عبر حلقات متعددة،لتصحيح العودة إلى الماضي ،من أجل توظيفه ،سليما غير مشوه،في بناء المستقبل المغربي الفرنسي – في الواجهة- والإسلامي الفرنسي،في عمق الصورة .
بمعنى تصحيح العودة إلى الماضي ،من أجل تصحيح الرهان على المستقبل.
العمل لا يقف على الصفيح الساخن للأحداث ،اليوم،بل انطلق منذ سنوات ؛منذ أن بدا أن فرنسا تتعثر كثيرا في محاربتها لإرهاب إسلامي ،حنبلي بالخصوص ، غدا مواطنا فرنسيا،بكل أوراقه الرسمية. أسباب التعثر متعددة ؛ومنها كون المقاربة الأمنية القوية للدولة ،لا توازيها مقاربة تاريخية صادقة،عميقة وفعالة.
الإرهاب عموما،من إنتاج أجيال متعاقبة ؛ميراث عابر للقارات؛وقد ساهمت فيه كل الدول والشعوب.
فشل فرنسا يعود إلى نظرة تبسيطية مغرضة؛تسكت عن عشرات السنين من تفريخها لأجيال من الإرهاب الكولونيالي، وعرقها دساس ،لكي لا ترى غير الجيل الحالي منه؛وهي لا تتصوره إلا إسلاميا ولا تواجهه بغير برامج “حذر” المدججة بالسلاح فقط.
هل سيتمكن الحب الذي برعم في قلبي الطالبين ” فرونسواز” وطارق المغربي ،من تصحيح الماضي لتصحيح المستقبل؟
قراءة ممتعة..
وجبة من الذكريات:
مرت أيام لم تفارق فيها صورة الكولونيل العجوز ذهن طارق؛يستعيد كلامه الخافت و المقتضب ،ويستعيد بصفة خاصة اختفاءه بسرعة خلف قصب البامبو ،بعد أن ودعهما واعدا بلقاء قريب .
يتمنى صادقا ،وبفضول علمي بعيد عن الانتهازية ، ألا تُقبض روحه، قبل أن يساعدهما على القبض على حقيقة ما جرى للإنسان بسهول وقمم الأطلس وفي كل المواقع التي قصفتها مدافع التطويع ،ذات زمن أهوج.
يتصوره خزانة ثرية بالمعارف ،وعلى وشك أن تلتهمها النيران.
ألا يلتهم الحاضر الليبرالي المتوحش،والمعرفي التسطيحي، كل بارقة تاريخ إنساني، قد تغير مساره بعيدا عن آلهة السوق الجديدة؟
يلتقي بفرونسواز،يوميا تقريبا، في المدرجات ،وأحيانا تدعوه لبعض مقاصف الحي في فترات الاستراحة؛فيقبل على مضض لأن ميزانيته لا تسمح إلا بالحد الأدنى للأساسي،ولا يستسيغ أن يكون عالة على سخائها ،رغم كون أسرتها ميسورة الحال.
يكون أكثر شعورا بالحرج ،حينما ينضم إلى طاولتهما بعض أصدقائها من الطلبة الفرنسيين ،أو الأجانب ،فيبادر أحدهم إلى أداء الفاتورة بعفوية.
تتمنى عليه شهامته ،ونفسه السخية، أن يفعلها بدوره ،لكن هذا فوق إمكانياته،ويبقى مؤجلا عنده،كما الحب.
في انتظار المنحة لا تصله غير حوالات الوالد ،المقتطعة من معاشه،ومن مصروف العائلة.
لكن مع هذه المبالغ الهزيلة يصله حنان كبير من الأسرة كلها ،يكمل به مصروفه اليومي ،حينما تحل وجبة الذكريات،والاشتياق إلى دفء الأسرة وحرارة الوطن.
عزيزي طارق يقول الوالد ،ويكرر كلما كان هناك تواصل :
اصبر فأبوك فوق شجرة الصبر كما تعرف؛وتذكر دائما أنك في مهمة نبيلة من أجل مستقبل وطنك ،ومستقبلك طبعا.
لقد سعدت يا طارق حينما وجدت عندك رغبة كبيرة في تصحيح التاريخ ،من أجل بناء المستقبل؛لكن قبل هذا لا بد من الدرس والتحصيل وامتلاك مناهج بحث جديدة ،تشتغل على المنسي من مآسي الناس ،صغيرها وكبيرها ،لتُركب تاريخا إنسانيا صادقا، كفيلا فعلا ببناء المستقبل.
ويضحك حتى يخاله طارق بجانبه في الغرفة:
عليك أن تساهم في جعل التاريخ يكتبه الضعفاء والمنهزمون وليس المنتصرون فقط ،الذين لا يسعون إلا في خراب الإنسانية.
يا ابني لولا المرضى ما تقدم الطب ،حتى غدا جينيا توقعيا كما تعلم.
لولا بؤساء” فكتور هيغو” ما كنا لندخل إلى خرئط الفقر ،و عتمات النسيان في المجتمع الفرنسي.
كم يؤثر في يا طارق قوله في مقدمة روايته هذه:
“تخلق العادات والقوانين في فرنسا ظرفا اجتماعيا ،هو نوع من الجحيم البشري..طالما هناك اللامبالاة والفقر ،فان كتابة هذا الكتاب تكون ضرورية دائما”
وهل التاريخ يا ابني هو تاريخ الملوك والقادة فقط؟
وهل هناك ظلم أكثر من مداهمة قبائل الجبال المغربية،مثلا، وهي هبة الله لمواشيها – كما قال الحكيم هامباتيبا عن بُهل مالي وأبقارهم – الراتعة في القمم والمنحدرات؛لاتكاد تفهم معنى لدولتها حتى تفهم لماذا يغزوها النصارى؟
وقبل هذا لماذا كانت تغزوها حرْكات المخزن ،كلما تناهى إلى علمها أن لديها فائضا من زرع وضرع.
ولماذا اختفت الحركات حينما حلت فيالق ليوطي؟
ثم ينتهي التواصل بتفاصيل حياة الأسرة ،تنقلها إليه جمل متقطعة من إخوته وأخواته ،بالتتالي ؛أما الأم فتسأل غالبا عن قهوته وطعامه وجوعه وشبعه ،وكأنه معها في المطبخ كعادته .
يا طارق إني أحن إلى ابني وهو يشرب قهوتي ويأكل خبزي.
هكذا قالتها أم الشاعر الفلسطيني درويش،فسرقها منها ،ونظمها في رائعته.
إلى اللقاء.
فيض من حنان الأسرة ،ومن خلاله الوطن ،ودفق من أسئلة الوالد التحفيزية.
ولن ينسى أبدا يوم قال له : كل كتبي المنشورة ،الورقية والرقمية،لا تغطي ولو ثمن سلة خضر.
نحن أمة لا تقرأ ؛ وحتى إن قرأنا غالبا لا نشك ولا نسأل.
نحن أمة أغْرينا – بجهلنا وتخلفنا – المستعمر بنا ،وقد يكون من حقه، هو أيضا، أن يُحمِّلنا مسؤولية كل ما حصل من دمار لنا وله.
لقد احتلنا الجهل قرونا قبل “ليوطي” ؛وغادر الماريشال وما غادرنا جهلنا؛ انه شهدُنا الذي نغري به.
كان رد طارق يومها: صدقت والدي،ولا زلت أذكر يوم تحديتني في شارع محمد الخامس ،عارضا علي مبلغ خمسين درهما إن أنا ضبطت أحدهم متلبسا بحمل كتاب .
جلت ببصري،متحمسا ومتحفزا ، في كل الأرجاء وبين كل العابرين ،فتأكد لي أن الجميع قرر ألا يُضبط متلبسا بشبهة القراءة؛ لا علم تحت الشمس.
ولما اقتربنا من خزانة الفجر،بنفس الشارع، قلت لي : هاكَها واختر كتابا واحمله بيمينك حتى يراه الجميع.