هذه السجادة فأين الكمامة؟
بسم الله االرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
هذه السجادة فأين الكمامة؟
بقلم : عبد المجيد بنمسعود
لم يخطر على بال أحد من الناس، قبل حلول كورونا، مهما كانت قدرته على التصور والخيال، أو التوقع والاستشراف، ما طرأ على البشرية بعد ذلك الحلول الرهيب، من تحولات في نمط عيشها وحياتها، وفي علاقات الناس بعضهم ببعض، وفي طبيعة نظرتهم للحياة، وما يمكن أن ينبني على معطيات الواقع العام، بحسب المعتاد، من إمكانيات رسم سيناريوهات للمستقبل، على المستوى القريب أو المتوسط أو البعيد، مما يندرج تحت مسمى ” المستقبليات”، التي رفعت إلى مصاف العلوم التي حظيت بقدر معتبر من الاحترام، ومن الاطمئنان و الركون إلى ما يجري من تحاليل واستنباطات، في ضوء ما يتجمع من تقارير عن الواقع في شتى ميادينه ومناحيه.
فما وقع بعد ظهور فيروس كورونا( كوفيد 19)، وانتشاره الكاسح على وجه البسيطة، وما صحب ذلك الانتشار من الذعر والرهاب، وما نتج عنه من ضحايا وأشلاء، أو بالتعبير القرآني، من نقص من الأموال والأنفس والثمرات، على مدى ما يقارب حولا من الزمن، وما إلى ذلك من تداعيات، وآثار عميقة، هزت بنية العالم، وزحزحت كثيرا من المسلمات، بل ومما كان يكتسي في عرف النخب ومن دونهم، طابع اليقين، كان كفيلا( أي ذلك الظهور) بمراجعة الحساب، وإعادة النظر في كثير من المسلمات والقناعات.
وتجنبا للسقوط في التعميم، لا بد أن نميز في هذا المقام بين فئتين من الناس على مستوى نوعية التفاعل مع كورونا ومخلفاتها الحادة والعميقة، مع ضرورة الإشارة إلى أن ذلك التمايز أو الاختلاف، يستمد جوهره وفحواه من التمايز والاختلاف في المرجعية الثقافية والحضارية التي يشكل الدين عنصرها الأساس، أو مقومها الرئيس.
أما الفئة الأولى، فقد كان تفاعلها مع كورونا وتداعياتها تفاعلا يكتسي قدرا هاما من الوعي تمثل في طرح كثير من الأسئلة الوجودية الناضجة، التي لا تخلو من نقد الذات، بل وتأنيبها وجعلها في قفص الاتهام، على أساس أن ما يجري في الكون من زلازل وهزات، ومن أحداث جسام، لا يمكن أن يكون من باب الصدفة أو العبث، لأن هذا الكون خاضع لنظام دقيق، ينطق بالقصد والحكمة، ويدل على إتقان الصنع، أي على وجود إله متصف بصفات الكمال، من حياة وعلم وإرادة وقدرة وسمع وبصر، وكلام، وله الأسماء الحسنى، المأمور بدعائه بها سبحانه وتعالى.
إن المرجعية الصلبة والثابتة والكاملة التي تنطلق منها هذه الفئة، تعصمها من الخبط والاضطراب والضلال، ومن التخرص والصدفة والاحتمال، وتتيح لها إمكانية التصحيح والرجعة إلى الصواب، في الفهم كما في الممارسة والسلوك. إنها مرجعية توحي باليقين بأن ما يجري في هذا الكون، بمقتضى الصفات المذكورة، لا يمكن أن يجري إلا بإرادة من الله جل جلاله، ووفق أمره وتدبيره وحكمته، فهو رب الكون ومليكه، والمتصرف فيه، بمحض مشيئته، فلا يقع شيء فيه إلا بإذنه.
إن مما يرسم إطار هذه المرجعية الثابت، قوله تعالى: ” وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (الزخرف:84).وقوله تعالى: “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (يس: 82) وقوله تعالى:” وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (الأنعام:59 )، وقوله تعالى:” وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” ( السجدة: 21)، وقوله تعالى:” وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” (يونس:107)، وقوله تعالى:” قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ” (الأنعام: 65)، وقوله تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (المائدة: 54).
إن تمثل هذه المرجعية واستحضار مفرداتها، والخضوع لمقتضياتها، من شأنه أن يثمر اتصالا دائما بالله عز وجل، وظفرا بمعيته وعونه، وتوفيقه وتسديده، وبرحمته ولطفه، وتوبته وغفرانه، وتمكينه ونصره، مصداقا لقوله تعالى:” وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (النور:55).
إنها مرجعية في غاية الدقة الوضوح، تلامس شغاف القلوب، وتعبر عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، ويضمن لزومها الأمن والسلام، والسعادة وامتلاك الزمام، فلا يزيغ الممسكون بها ولا يضيعون في متاهات الحياة ودروبها المظلمة.
إن من يصدرون عن هذه المرجعية، يمتلكون البوصلة التي تضبط اتجاههم وهم يمخرون عباب الحياة، فيمكنون من معرفة المسالك والمهالك، ومن الدراية بمختلف التيارات، وخبايا الكنوز، وبأسرار استخراجها، وكيفية استثمارها في مواطنها، وفق الحكمة التي خلقت لأجلها. فلا غرو أنهم يتلقون كورونا بفهم سليم، ورؤية ثاقبة، وتصرف حكيم، ولو أن أهل القرى طاوعوا أهل هذه الفئة الراقية في مقاربتها في التعامل مع الوباء، لكان شأن الناس على خلاف ما هو عليه الحال.
ذلك أن من مقتضى مرجعية هذه الفئة، تبني الجمع في نسق بديع، بين الأخذ بالأسباب، واليقين بمسبب الأسباب، الذي هو إله الكون ورب الأرباب، ومن ثم فإنه سبحانه وتعالى، هو الذي يأذن برفع الوباء، وكشف الداء، كما أنه هو الذي أذن ويأذن بإنزاله في أي مكان، وفي أي وقت شاء، بدواء أو غير دواء، وحتى في حالة رفع الداء بالدواء، فهو سبحانه وتعالى الذي يودع الدواء خاصية الشفاء. فالمعول على الله عز وجل في البدء والانتهاء، وهذا هو جوهر الإيمان، وصلب العبودية والتوحيد.
وأما الفئة الثانية، فقد كان تفاعلها مع كورونا( كوفيد 19)، وفق معادلة مادية تضع عينها على الأسباب المادية، وتغفل تماما القوة الغيبية التي تخلق الأسباب، وتتحكم فيها إيجادا وإعداما، ومن ثم كان توجهها منحصرا في تجنيد طاقاتها العلمية لمعرفة حقيقة الفيروس، والكشف عن طبيعته، وصولا إلى صنع المصل أو اللقاح الكفيل بتعطيل مفعوله، وإخماد قوته، وذلك في سياق رهان يجعلون خوضه تحت عنوان التحدي الذي يتخذ طابع الحرب الضروس، والصراع الشرس، الذي يتم إشهار نتيجته – في حالة النجاح – في نطاق من التبجح والغرور، الذي يغيب عن حسبان من ركبوا متنه، أن وصولهم إلى ما وصلوا إليه، ما كان ليحصل لولا إذن الله جلت قدرته بذلك، وفق سنة التسخير التي تنتظم ما من به سبحانه وتعالى على الإنسان من مواهب وقدرات.
وهنا لابد أن نتفطن إلى الفرق الشاسع بين المرجعية الإسلامية ذات البعد الغيبي، وبين المرجعية الغربية ذات البعد المادي الإلحادي، على مستوى العمق الفلسفي، واليقين العلمي. فالمرجعية الإسلامية القائمة على الإيمان والتوحيد، تنهض على أساس راسخ، يضمن لها البركة والنماء، واستمرار العطاء، ويشكل لها حماية من التبجح والغرور، ومن التجبر والطغيان، بينما المرجعية الغربية المادية، تفتقد إلى ذلك الأساس، ومن ثم فهي تتحرك على أرضية مائعة، وتقف على جرف هار، بسبب فقدانها للإيمان واليقين، فيكون أصحابها موكولين إلى بضاعتهم المزجاة، وإلى حولهم المحدود، مما يجعلهم مرشحين للانتكاس والانهيار ، بسبب ما يدهمهم من العواصف والأعاصير، التي تفجأهم في أي وقت وحين، بسبب ما يلابس حياتهم من فوضى فكرية، وفراغ روحي، نتيجة اختلال علاقتهم بالخالق الرازق، المدبر لهذا الكون، ومن علاقتهم بأنفسهم، وبسائر المخلوقات، التي تتعرض جراء كل ذلك للظلم والقهر، والفساد والتدمير.
عود على بدء: لقد أشرت في مطلع هذا المقال إلى ما طال حياة الناس من تحول وانقلاب، جراء حلول كورونا بين ظهرانيهم، مما ألقى بظلاله الكثيفة على علاقات الناس وتصرفاتهم، فأصبحنا أمام نمط جديد من السلوك، يتميز بالحيرة والارتباك، وبالترقب والتوجس والارتياب. لقد حل التفكك محل التماسك، والتباعد محل التقارب، والتشتت محل الاجتماع، والتنافر محل الانسجام، وجفاف المشاعر محل الدفء والالتحام، والقلق محل الاطمئنان. بعبارة موجزة مقتبسة من القرآن الكريم: لقد ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وضاقت علينا أنفسنا.
وللاعتبار أقول: إن هذه العبارة ذكرها الله عز وجل وصفا للثلاثة الذين خلفوا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم أجمعين، وكشفا للحالة النفسية الصعبة التي غشيت كيانهم، عقب إدراكهم لهول ما سولت لهم به أنفسهم، بسبب ضعف ألم بهم، وعودة الوعي واليقظة إلى أنفسهم المؤمنة أصالة، إلى أن أدركتهم رحمة الله عز وجل بتوبته عليهم، ليتوبوا، يقول الله عز وجل:” وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (التوبة: 118).
إذا كانت هذه الحالة العسيرة من استشعار الضيق النفسي قد اعترت ثلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما خلفوا، بسبب تراخ منهم، وتهاون في الالتحاق بركبه عليه الصلاة والسلام المتوجه إلى ملاقاة الروم في غزوة تبوك، فكيف يكون أمر أمة وهي تتنصل من اتباع شرع ربها، في تكامله وتمامه، أو إيمانها ببعضه وكفرها ببعضه؟
إن الضيق الذي يعتريها ويلف كيانها، ويخنق صدرها يكون بلا شك أشد وأنكى، وأدهى وأمر.
إنه مما لا شك فيه، أن حالة الضيق الذي تعاني منه الأمة المنتسبة إلى الإسلام، كانت ماثلة في تفاصيل حياتها قبل حلول وباء أو جائحة كورونا، بسبب الانسلاخ عن تطبيق منهج الشرع الحكيم- وإن كانت بعض مظاهر الرخاء، والانسيابية السطحية، قد توهم بنوع من الارتياح والانبساط- غير أن الضيق الذي ران على الناس، وألقى بظلاله القاتمة عليهم، بوفود كورونا قد عم الجميع، فلا تمييز في ذلك بين صغير وكبير، ولا بين غني وفقير، ولا بين حاكم أو محكوم.
وإنه إذا كان تأثير كورونا قد مس حياة الناس في كل الميادين التي تتعلق بمعاشهم، فباتوا جراء ذلك في بؤس وضنك، فضلا عن الأرواح التي فاضت بسبب الفيروس الشرس الذي قاتل بلا هوادة، فإنني سأقف قليلا عند الخسارة الفادحة التي تكبدها الناس في دينهم، بسبب الإغلاق الذي طال بيوت الله التي تشكل ملاذا آمنا للمسلمين، بسبب شهود الصلوات الخمس، وكذا الجمع التي تشكل محطات للتوعية والتذكير، والتهذيب والتشذيب، وما إلى ذلك من أنشطة تجمع الشمل وتوحد الصفوف على الخير والمعروف.
ليس من ريب في أن إغلاق المساجد- الذي جرى لمقتضيات احترازية، أي مخافة التفشي وتوسيع رقعة الإصابات- كان مصيبة لحقت المسلمين على مدى شهور عديدة، من ضمنها شهر رمضان الأبرك، ولقد ظلت الآثار السلبية مستمرة حتى عندما فتح عدد من المساجد على مرحلتين، لأن جماهير غفيرة ممن لم تفتح المساجد المجاورة لهم، والتي اعتادوا ارتيادها، ظلوا محرومين من فضل الجماعة، بسبب موانع العجز والمرض، أو مخافة التزاحم على المساجد التي حظي جيرانها بالعودة إليها.
غير أننا لا نملك إلا أن نقول، بأن عودة من استطاعوا من المصلين إلى مساجدهم، لم تكن عادية البتة، بل كانت في غاية الغربة والغرابة، لما لابسها من وضع جديد غير مألوف، فلم يعد مسموحا بدخول المسجد إلا بسجادة في اليد، وبكمامة على الأنف والفم، ولا بمجاوزة عتبته إلا بعد الخضوع لقياس الحرارة، وتعقيم اليدين، يكلف بهما قيم أو قيمان، حرصا على حماية المسجد والمصلين من أي احتمال لانتقال العدوى بالفيروس، من شخص يفترض فيه حمله من أي مكان. فكل مصل متهم بحمل كوفيد 19، حتى تثبت براءته من عرضه الأساسي على الأقل، الذي هو ارتفاع الحرارة. وما سوى ذلك من الأعراض فأمره موكول إلى لطف الله العلي القدير.
لم يعد التجهز للصلاة إذن رهينا بالوضوء، ثم الاتجاه بتلقائية وطمأنينة إلى المسجد، ثم الولوج إليه بتلقائية وطمأنينة كذلك، مع تلاوة الأذكار والأدعية المسنونة، ثم اختيار المكان الذي تؤدي فيه تحية المسجد حيث تشاء، ولكنك مضطر إلى مراعاة جميع تفاصيل البروتوكول الصحي، ومراعاة هندسة تقسيم المسجد إلى أماكن ونقاط يجب الالتزام بها واحترامها، وذلك عن طريق وضع علامات بقطع من الشريط اللاصق، يوضع الحد الخلفي لكل سجادة فوق إحداها، بحيث يكون الحد الأدنى للمسافة بين السجادة وأخواتها عن يمين وشمال، وخلف وأمام، لا يقل عن المتر الواحد.
و ما أكثر ما جرى- وخاصة في المرحلة الأولى لتطبيق الهندسة الجديدة – من سوء فهم أو تفاهم حول سلامة التطبيق، بحيث يكون هناك إخلال بالمسافة الواجبة المراعاة، أو بالصف الذي ينبغي أن توضع فيه السجادة، مما يخل بجو السكينة التي ينبغي أن تعم المكان. ناهيك عن جو الترقب والتوجس والاحتمال، الذي قد لا يسلم من استشعاره بعض المصلين، نتيجة الحالة النفسية الاستثنائية التي أحدثها رهاب كوفيد 19، بسبب ما أحاط به من تحذير، ودق لناقوس الخطر، الذي ظلت حدته تزداد باستمرار، مع تزايد عدد من قضوا نحبهم نتيجة مضاعفات المرض في أجسامهم، خاصة ممن صادف فيهم هشاشة بسبب ما يعانونه من أمراض مزمنة، قد يصح معها القول بأنه شكل القشة التي قصمت ظهر البعير. هذا على العموم، وإن كانت كورونا قد أودت بنسبة من الناس، وهم في كامل قواهم، أو في ريعان شبابهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
لم تعد الصلاة هي الصلاة، إذن، ولا السكينة هي السكينة، ولا الطمأنينة هي الطمأنينة، ولم تعد الصفوف هي الصفوف، ولا التلاحم هو التلاحم، سبحان مبدل الأحوال، أصبح المطلوب من المأمومين هو التباعد، بعد أن كان المطلوب قبل زمن كورونا هو التقارب والتراص، ووضع الرجل عند الرجل، والكتف عند الكتف، تعبيرا عن الوحدة وصلابة الصف.
ماذا يقول لأنفسهم هؤلاء الذين كانوا يجفلون، عندما يقترب منهم جيرانهم في الصلاة، حرصا على التراص المأمور به شرعا، ويحرصون على ترك فجوة بينهم للشيطان، مستسلمين لأهواء أنفسهم، بل إن الأمر قد يصل ببعضهم إلى وكز جيرانهم بأرجلهم، إذا ما وجدوا منهم إلحاحا على التراص والالتحام.
إنه لوضع صعب، حقا، هذا الذي آل إليه المسلمون مع شعيرة هي عماد الدين، وهي بمنزلة مدرسة قائمة الذات، عند إقامتها في بيوت الله تعالى، حيث تتطهر أرواحهم في نهر الصلاة المتدفق الرقراق، بل وتغتسل أجسامهم تحت شلالاتها النقية الصافية.
إنها محنة حقا، تجعل كل مسلم حقا يشعر بهول المصاب، وتحيله على مظهر من مظاهر الإصابة في الدين التي هي على رأس ما يتعوذ منه المسلم عند ما يسأل الله عز وجل قائلا:” ولا تجعل مصيبتنا في ديننا” ، لأن كل ما دونها من المصائب يهون مهما كان من الشدة.
إن سيد الموقف في ظل هذه المحنة الشديدة هو الارتباك والحيرة، خاصة في ظل مناخ يفتقر إلى إحلال الجانب الروحي والشرعي مكانه الذي يستحق، أي إعطائه الأولوية في التعامل مع الكوارث والأوبئة، على ما سواه من العوامل، دون إهمال هذه الأخيرة، بمعنى أن يكون الجانب الروحي والشرعي، هو الفيصل، وهو البلسم، وهو المعيار الذي يشكل وحدة القياس، ويشكل الميزان الذي به توزن الأشياء، وتعالج الأدواء.
هذه السجادة، فأين الكمامة؟ جعلت هذه العبارة عنوانا لهذا المقال تعبيرا عن حالة الاضطراب والنسيان التي تكتنف حياة المسلم وهو يعايش كورونا، ويخضع صاغرا لما تفرضه من قيود وإجراءات، تكبل حريته، وتكسر تلقائيته، فلا يكاد يلتزم بقيد مكرها أو كارها حتى يذهل عن قيد آخر. ويقاس على تلك العبارة، عبارات أخرى، تحمل نفس المعنى، وتعبر عن نفس الإحساس، من قبيل: هذه الكمامة فأين السجادة، وقد تتعدد هذه العبارات بحسب تنوع أحوال المصلين وأوضاعهم الصحية، فقد يكون لسان أحدهم: هذه السجادة وهذه الكمامة فأين التيمم، فمن المعلوم أن كورونا قد شطبت أحجار التيمم من المساجد، تحرزا من العدوى، أو قد يتعلق الغياب أو النسيان بالنسبة لصنف من المصلين المرضى أو المعطوبين بالكراسي، فيكون لسان مقال بعض المصلين، هذه السجادة، وهذه الكمامة، فأين الكرسي؟ فمن المعلوم أن الكراسي التي كان يستعملها المرضى قد أبعدت هي الأخرى لنفس السبب.
لقد أصبح الناس يتوقون إلى عهد ما قبل كورونا على علاته، فلم تكن كثير من النعم تظهر لهم بسبب تبلد الإحساس الناجم عن آفة الإلف والعادة، أو بسبب الجحود، علما أن عهد ما قبل كورونا لا يشكل المثال بالنسبة لمجتمع المسلمين، لما يعاني منه من تشوهات واختلالات، ومن خروق وانحرافات، مما يحتم على الناس ليس القناعة بالرجوع إلى محطة ما قبل كورونا، ولسان حالهم قول القائل: ” وداوني بالتي كانت هي الداء، وإنما مراجعة الذات بالصرامة اللازمة، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وإعلان توبة نصوح، تجب ما قبلها من واقع بائس مرير، يتمثل في البعد عن الله عز وجل بالبعد عن شريعته ومنهجه، واستشعار القناعة الجازمة، بأن أعظم مصل أو لقاح تلقح به النفوس والأجسام والأرواح، وتلقح به النظم المريضة والمسمومة والمهترئة، إنما هو لقاح الإيمان القوي بالله جل جلاله، رب هذا الكون ومليكه، وملك الناس إله الناس، ولقاح الإقبال الصادق على تطبيق شرعه الحكيم، فذلك هو اللقاح، فذلك هو اللقاح. وصدق الله القائل:” أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ” (الحديد:16) .
وجدة في 29 – 11- 2020