الناس معادن،وعند “كورونا”الخبرُ اليقين”
كمال الدين رحموني
مما ميّز الوباءَ في رحلته المريرة بعد نزوله المفاجئ بقدر ربه، أنه أزاح الغطاء، وكشف المستور من كثير من قيم الناس، التي كان المساسُ بها، أو الخوضُ فيها من قبيل الاستهجان، أو التأنيب أو التنديد والتقريع، لكنها في زمن “كورونا” صارت شيئا طيِّعا للتقبُّل. فأي شيء تغيَّر: هل معادنُ الناس، أم القيمُ نفسُها، أم طبيعةُ الزمن الموبوء، أم آثارُ الوباء الثقيلةُ على النفس، والمناخ، والوطن، حيث غدا الوباء بفعلها يحصد الأرواح، وكاد يأتي على منظومة مجتمعية بُنيت على جُرُف هارٖ فانهار بها في مستنقع آسن، فهاهي العلاقاتُ الإنسانية تضررت، والأعرافُ الاجتماعية تغيرت، ناهيك عن منظومة الاقتصاد والتعليم والشغل التي تخلخلت، وغيرها من مجالات الحياة التي ظلت رتابتها تغطي واقعا تتناقض فيه عوامل الوجود البشري، فلما تعرّضت لامتحان الوباء الحالي، أفرزت سلوكاتٍ وردودَ أفعال، وتصرفاتٍ كان من المفروض أن تصاحبَ الوباء بشكل إيجابي، وتحافظَ على مناعتها الذاتية، فإذا بنتيجة الاختبار الوبائيِّ تُسْفِر عن نتائجَ غريبةٍ مُباينةٍ لطبيعة القيم الإيجابية التي كان المتوقَّعُ أن تبقى حية، لا ينالها ما نال الأرواحَ من الموات. ولأنّ الطبيعة لا تقبل الفراغ، فحين غابت هذه القيم الإيجابية في زمن الوباء، فُسِح المجال لظهور قيم سلبية، انطلاقا من التعاطي مع الوباء في بداياته الأولى، وحالة الفزع الذي عمّت، وطريقةِ التفاعل معه. لكنْ، كلما امتدّ زمن الوباء واعتاد الناس حضوره، وأصبح التعايش معه حاصلا بوعي أو بغيره، كلما نتج عن ذلك حالةٌ من التَّبَلُّد أصابت أحاسيس بعض الناس. وهكذا لم يعُدْ خبرُ الإصابة بالوباء أمرا مريبا أو مفزعا، بل حتى حالات الوفيات التي تتوالى تَصاعُدًا، لم يعد الاكتراثُ بها بالهلع السابق، فغدت أخبارا عادية، بل وفي حالات التفاعل مع أهل الموتى بالوباء: تعزيةً ومُواساةً، تعوّد الناس تقديمها بالاتصال غير المباشر، ومنهم من يزهد فيها، تحت مبررات الاحتياط اللازم، بل إن مفهوم الموت نفسَه ونبَأهُ لدى بعض الناس، غدا يُتلقّى بالبرود. لكنّ أخطر الأسى، ليس فقط في كثرة الموتى أرواحا وأجسادا، فإنما ذلك مُقدَّر بكتاب وأجل “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا”، فلا يموت أحدٌ إلا بقدر الله، مُستوفياً رزقَه، مُستكمِلاً أجلَه، بالأسباب المقدَّرة، و”كورونا” واحد من الأسباب. الخطر -إذن- حين يستصغر بعضُ مَنْ لم يتفاعل مع الوباء تفاعل الراضيِّ بالقدر، المُسَلِّمِ لصاحبه بالتقدير. الخطرُ المرعبُ حقيقة، حين لا يزلزل الوباء الهائل قلوبا استحْلت حياة الرغد وبحبوحة العيش، وتُصرّ على الاستمرار في التماهي مع المعتاد مما ألفتْه النفس، فتظل السلوكات هي نفسها، والتصرفات هي ذاتها، بل تنقلب المعايير السوية، فبدل أن تكون محطةُ الوباء فرصةً لمساءلة الذات وقرْع الضمير، ينحدر اليلوك الرتيب إلى دَرَكٍ أسفلَ من القيم التي كان الإخلالُ بها، أو التفريطُ فيها في الزمن الطبيعي مُتفهَّما، بالرغم من الإنكار، فكيف بهذه القيم في زمن الشدة والمحنة
– زمنِ الوباء- تُستباحُ عبر بعض المواقف الشائنة التي تُفصِح عن طبيعة النفس الكامنة، حين تفقد وازع الدين والخُلُق، فتَسقط في حمأة الأنانية والذاتية المُكَبِّلة، ولو كان ذلك على حساب المتاجرة بالألم والفزع والهلع الذي ينتاب الناس في زمن الوباء. وهنا تُطلّ بعض الممارسات المقيتة الغريبة عن مجتمع يشكل الإسلام هويته وثقافته. إن حالة الجشع التي طرأت في الأيام الأخيرة على بعض المؤسسات الصحية الخاصة، رغم قلة عددها، يستنفر أسئلة قديمة جديدة بِجِدَّة الزمن الحالي، فكيف يُفَسَّرُ هذا الشَّرَهُ الطاغي، وكيف تُستساغ مساومةُ أهالي الموتى في هذه المصحات والإصرار على دفع مبالغ خيالية، مقابل تمكين الأهل من أجسادٍ نَخَرَها الوباء، وأتى على حياة ظلت مَحَلَّ تَرقُّبٍ وأمَلٍ، فلم يشفع لهؤلاء المكلومين من أهالي الموتى شعورُ الأسى والحزن في أن يلتمسوا مُسحة من الحُنوّ والإيناس، وهم المحتاجون إلى من يخفف عنهم ألم الفراق، وأسى الوباء الذي قدّر الله أن يكون سببا لنهاية حياة مهما طالت فهي قصيرة. ما الذي يحتاجه أولئك الذين لم يستطيعوا أن يقدموا نموذجا سليما في التعبير عن تقاسم الألم، ومشاركة المحن، كما فعل رجالٌ أشاوس آخرون من الذين انخرطوا في مواجهة الوباء منذ البداية ولا زالوا، ومنهم من استرخص نفسه، وأهله وأبناءه، من أجل أن يحافظ على قيَمه نابضةً بالحياة، كقيمة الوفاء التي نُشِّئ عليها، فما الذي يميز هؤلاء عن أولئك، سوى التشبع بالقيم والاقتناع بخيرية العمل الذي يبذلون. وعلى النقيض من أولئك الصالحين بفعل صلاحهم في زمن الوباء، تنبري كائنات أخرى، من الجسم نفسه، انتفت لديها صفوة القيم، وانزاحت عنها جِذوة التربية الواعية، وانقطعت بينها وبين القيم النبيلة أواصر وصِلات، لست أدري، أبِتقصير الأسرة، أم بسوء التعليم،أم بضمور الدين المهذِّب، فاستوى لديها الزمنان: زمنُ الوباء، وزمنُ العافية، هؤلاء الذين استعبدهم شرهُ الغنى فاستعجلوه، وهيَّجهم الثراءُ السريع فطلبوه، وظنوا أن زمن الوباء زمنُ غفلة ودهشة، وانبهار وذهول، وزمنُ حرص شديد من الناس على السلامة والنجاة، والاطمئنان على البدن، فراحوا يلتمسون التحاليل الواقية من الوباء، فلم تُسعفهم الظروف، فإذا بهم يقعون ضحايا الاستنزاف والارتزاق، ولعمري لو كانت ذَرّةٌ من حياة وحياء في النفس، لكان في وسعها أن تتساءل عن مصداقية عمل مثل هذا، أو مشروعية دَخْلٍ ماديٍّ من ورائه. لقد كشفت “كورونا” نفاسةَ المعادن من غيرها، ففيها الذهب والفضة والحديد، وطبعا، فيها ما لا طائل فيه ولا منه.