“خصوصية الحضارة الإسلامية بين المرتكزات النارية والنورية”
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا:الحضارة المادية ومتاهات الإشباع والاستهلاك
في عصرنا المسمى بالمتحضر،و الذي يزخر بالتنوع والتسارع الثقافي والعلمي بشقيه النظري والتجريبي، وفي زمن عرفت فيه المدنية أوجا لا يكاد يصفها أو يضبطها الإنسان نفسه، والذي أجرى الله على يديه بروز اكتشافاتها وما واكبها من تنوعات تقنية ومباحث دقيقة وعميقة في شتى مناحي الحياة المادية والإشباعات الذاتية الجسدية خاصة! يطرح سؤال حول مراجعة حصيلة ما توصل إليه الإنسان من حيث هو كائن متميز بوجوده والغاية منه، وهو تساؤل ملح وفارض نفسه فرضا لا محيد عنه، كما أنه مؤرق لأولي النهى من أهل عصرنا، ألا وهو هل حققت البشرية بوسائلها المادية ومعطياتها الفكرية المحضة اطمئنانها المنشود وإشباعها المفقود، ووفت بما ادعته من حتمية الوصول إلى هذه النتيجة بالوثيرة التي انجرفت في متاهات دروبها وألوانها المادية والغرائزية الجسدية؟
إن المؤشرات في البورصات الفكرية وأسهمها الضعيفة من حيث قيمتها، كما أن الملاحظات على عالمنا المتفلت من أجهزة الرصد المستقبلي القريب بله البعيد، والمتسم بسرعة الاتصال والاستجواب وتقديم الحلول الجاهزة على آلات الحاسوب (الأنترنيت والويب) والهواتف المحمولة والأطباق الهوائية والمركبات الفضائية… كل ذلك لا يدل على إمكانية التوصل إلى السعادة المرجوة بهذه الوسائل الدونية بالنسبة إلى خصوصية الإنسان في تحصيل الاطمئنان، بل على العكس من ذلك هو الذي حصل له، إذ أصبح حبيسا وسجين صناديق من البلاستيك وإشعاعاتها المضرة بالأعصاب والأبصار بل بصحة النفس والروح والعقول، رغم ما يستفاد منها من معلومات سرعان ما تؤول إلى الأفول!
وهذا المعنى يكاد يوافق تعريف ابن خلدون للحضارة بعد المقارنة بين طبيعة أهل البادية بحال أهل الحاضرة حيث يقول ” و أهل البدو و إن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري في الترف و لا في شيء من أسباب الشهوات و اللذات و دواعيها فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها و ما يحصل فيهم من مذاهب السوء و مذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة و قبحها فيسهل علاجهم عن علاج الحضر و هو ظاهر و قد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران و خروجه إلى الفساد ونهاية الشر و البعد عن الخير فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر”.
وهو بهذا قد يتوافق مع رجاء غارودي في مقدمة كتابه “وعود الإسلام” حينما قال عن الغرب كحضارة:”الغرب حادثة أو اصطدام ،ثقافته شاذة،وقد بتر من الأبعاد الأساسية “.
“ l’occident est un accident,sa culture est une anomalie,elle a été mutilée de dimensions primordiales”
أي أن الغرب قد انفصل عن جذوره واختلط عليه إرثه وشذت نسبته وتصوراته العقدية والأخلاقية والفكرية والوجدانية ،أو لنقل : ضاعت منه الثقافة المتنورة والموافقة للطبيعة البشرية وخصوصيتها الحضارية وقاسمها المشترك بين الحضارات الإنسانية العامة.
فعوض أن يلتفت الإنسان بالنظر إلى السماء كي يرى ما بها من بهاء وجمال، وهي مرصعة بالنجوم ومصممة بالبروج ذات الدلالات العقدية والتنفيسات الروحية والبصرية الفاسحة لحرية الإنسان عن قيد الأبدان وسجن الأكوان، فقد أصبح حبيس التركيز الضيق ورهينة ما يرصده لنفسه من خلال هواه ومزاجه الفاسد، باثا كان أو مستقبلا على حد سواء. وذلك من خلال ما اصطلح عليه بالأقمار الصناعية التي كانت وليدة فترة الخمسينات وثمرة الدمار والخراب الذي أصاب الإنسان من جراء الحرب العالمية الثانية في عصرنا الحديث. فكانت هذه الأجهزة قد ابتدأت ببساطة الحجم وإرسال الذبذبات ثم تطورت إلى نقل الصور والأصوات والمعلومات، ومن يدري فقد تتحول بالتلاحق والتراتب يوما ما إلى نقل المشاهد والمشاهد بالزر في لحظة الاتصال على سرعة الضوء أو الصوت، وهذا ليس بغريب ولا مستبعد على مستوى الواقع والاعتقاد عندنا نحن المسلمين “يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان” الآية.
ثانيا:الحضارة الإسلامية بين التحدي الناري و الاستثمار النوراني
فلقد ورد في القرآن الكريم حوار سيدنا سليمان عليه السلام مع حاشيته من إنس وجن حول من يستطيع أن يأتي بعرش بلقيس في وقت قياسي فقال “عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين”
فكان هذا العفريت وجنسه من الجن يظن أن له السبق بحسب الطاقة والقوة التي أعطاها الله لهم في مجال الاتصال والانتقال والتحول البيولوجي والكيميائي والمعدني، حتى إنهم كما يذكر القرآن الكريم والأحاديث النبوية قد مهروا في هذه الصناعة التحويلية لذواتهم وللأشياء من حولهم وخاصة ماذكره القرآن الكريم عنهم من مجانسة الماء بالزجاج، لحد أن بلقيس “قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير”
إن هذا التقدم البيولوجي بالتشكل الذاتي والعضوي عند الجن وكذا الفيزيوكيميائي المستند على مبدأ الصناعة التحويلية، وبالسرعة الملاحظة والمرتبطة بعالمهم وخصوصياته، له دلالاته من حيث ربطه بالتقدم الإنساني والحضاري في حصرنا الحالي، والذي ربما جاء متأخرا عن عالم الجن في المجال ذاته . بل إن التقدم العلمي الحديث له صلة وثيقة بالتقدم الذي وصفه لنا القرآن الكريم فيما يخص عالم الجن والعفاريت، وخاصة في عهد داوود وسليمان عليهما السلام، وذلك لأن العنصر الجني من حيث بنيته المادية ناري ،إذ هو مخلوق من مارج من نار، وهو جانب متسام من أجزاء النار باعتبارها مادة حارقة وطاقة، ومن ثم كانت له خفة وسرعة في التحول والطيران والاتصال والانفصال وما إلى ذلك من الاحتمال.
وحينما نقارن هذا العالم بعالمنا نحن البشر نجد أن هناك تقاربا كبيرا بين مظاهر الحضارة الإنسية والجنية في هذا المضمار، إذ أسس الحضارة الحديثة بمفهومها الصناعي والتقني جلها إن لم نقل كلها، تستند على العنصر الناري من حيث مظاهر استعمالها وتوظيفها، وما كان يصطلح عليه عند الغربيين بعصر الأنوار فليس في حقيقة معناه سوى النسبة إلى وظيفة النار لا النور، لأن استعمال الآلة البخارية واكتشاف الكهرباء فيما بعد ثم المتفجرات وما ترتب عن ذلك من تلاحق في البروز والظهور لكمونات طاقية فوق الأرض وتحتها، وكذا من الهواء والشمس والماء، كل ذلك عبارة عن أشعة لنار كان قد وظفها وما يزال كائنات نارية بطبيعة خلقتها، اصطلح عليها الشرع بالجن أو العفاريت، ولهذا فالانبهار والوقوف الكلي عند الحضارة النارية المحضة يعتبر رجعية وتأخرا ذهنيا وفكريا عند الإنسان، كما أنه نزول بقيمة ذاته التي كرمه بها الله تعالى إلى ما تحت مصاف الجن الذي طالما لاحقه نوع سلبي منه اصطلح عليه القرآن الكريم بالشيطان، وذلك عبر العصور والأزمان لكي يوقع به في شراك أوهامه النارية، لغاية أن يفقده خاصيته النورية “استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون”
فقد يلاحظ أن جل الاكتشافات العلمية ذات الطبيعة النارية تبدو عند بدايات استغلالها لصالح الإنسان وفائدته، لكنه ما أن تطلع عليها الشمس وتدخل في حكم الضروريات الإنسانية حتى تأخذ في التحول إلى وسيلة بوار وخراب وهلاك، ربما يصبح أبديا لا يرتجى معه الانجبار أو الاستصلاح. “وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا…” طالما أن مستعملي هذه النار لم يوجهوا بالضابط النوري وهو العنصر في ذاته موصل للنار ومحدد لطبيعتها إيجابا أو سلبا، كما أنه العمدة في تأهيل الإنسان والجان معا لاستغلال هذه النار من أجل صلاح بقائه وسعادته، عوض أن تصبح سببا لفنائه وهلاكه الأبدي في الحال والمآل، “أفرأيتم النار التي تورون آنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤن؟ نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين، فسبح باسم ربك العظيم”
وإذا كانت حضارة النار قد تبدو من حيث الظاهر المعاصر طاغية على وجه الأرض وتكاد تحرق من عليها لتصله بما في باطنها، فإنه لا بد وأن تبقى حضارة النور قائمة ومقاومة بالتصدي ، وأشهر من نار على علم كما يقال في المثل لأنها مؤسسة على الحق الذي لولاه لما ظهرت النار أو تحددت خاصيتها ووظيفتها “قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم” صدق الله العظيم
وقد يبدو هذا التحدي ماثلا وعمليا في جلسة سليمان عليه السلام نفسه بعدما استعرض العفريت ما لديه من إمكانيات في مجال القوة والعنفوان والسرعة، فيقول الله تعالى حكاية عن شخص وصفه بالذي عنده علم من الكتاب “أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، فلما رآه مستقرا عنده قال: هذا من فضل ربي ليبلوني، آشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم”.
فالذي عنده علم من الكتاب كما ذهب إليه بعض المفسرين كان له علم بخاصية الإسم الأعظم، وهو مذهبنا في هذا التفسير، إذ أنه لا قوة أو طاقة يمكن لها أن تخترق الزمان والمكان تسخيرا بهذه السرعة إلا ما كان مؤسسا على قاعدة “كن فيكون” والتي بها تتكافأ الأزمنة حقيقة لا وهما إلكترونيا كما يذهبه إلى ذلك الفيزيائيون المعاصرون، وهذا التكافؤ لا يتأتى بالنار وإنما هو من تصريف النور الذي هو إلهي الأصل لا غير، وهو “الله نور السماوات والأرض…”
وهذا المقال يسعى بصحة البرهان المستنبط من القرآن واستفادة واستعداد الإنسان إلى التنبيه على قوة الإيمان والتوحيد لله عز وجل في العقيدة الإسلامية، وذلك بالدعوة للرجوع إلى مصدر حضارة النور الذي أضاءت به الأكوان وأشرقت الظلمات وتبددت سحائبها، فاستصبح به الإنسان من غير أفول أو نسيان أو احتراق بنار الجهل والطغيان، لأنه إذا لم يتم توجيه النار وضبطها بالنور أحرقت واحترقت بالغم والزور، وامتزج ظاهرها بباطنها، فلم يعد إذاك ضوء ولا مستضيء ولا نائم أو مستفيق.