بفاس : الكاتب والصحفي الأستاذ محمد الزوهري يصدر عملا روائيا تحت عنوان …..طائر الجبل
عزيز باكوش
عن مقاربات للنشر والصناعات الثقافية بفاس صدر للكاتب والصحفي الأستاذ محمد الزوهري عمل روائي موسوم ب “طائر الجبل” وهو سيرة روائية تفاعلية تسرد بعمق وانسيابية حكايات من طفولة الكاتب بمنطقة بني وليد بإقليم تاونات.
الإصدار المومأ إليه جاء في 335 صفحة من القطع المتوسط يعتبر الثالث في ريبيرتوار الدكتور محمد الزوهري بعد” ملامح الكتابة الصحفية السمات اللغوية والأسلوبية” 2016 الممارسة الإعلامية الواجب المهني والأداء الفني “2019 “طائر الجبل” 2020 .
وبعد فترة توقف مرتبطة بوعكة صحية ، يعود الدكتور محمد الزوهري حاملا مولودين جديدين، عبارة عن دراستين صدرتا له مؤخرا عن “مركز أفق للدراسات للإعلامية”. المؤلف الأول يتناول “تحولات الإعلام السمعي البصري بالمغرب ورهاناته”، شرع في تاليفه مطلع 2019 وأنهاه في بداية الحجر الصحي، والمؤلف الثاني يقارب “الإعلام الإلكتروني بالمغرب – سؤال الحرية والتقنين”، وبدأه فور الانتهاء من المؤلف الأول.
من حيث الجوهر يتعلق الأمر بمحاولات جادة وهادفة لإغناء المكتبة المغربية الشحيحة بمؤلفاتها الإعلامية،لا سيما الأكاديمية منها ، كما هي أيضا دعوة مفتوحة لعموم المهتمين بالشأن الإعلامي ببلادنا ، لا سيما منهم طلبة علوم الإعلام والتواصل بالمعاهد والجامعات المغربية قصد التفاعل والإنصات الهادئ والرصين مع مضامين إصدارات الكاتب والأستاذ الجامعي . وقد أخبرنا ذ الزوهري عن أعمال قيد الطبع منها مؤلف يصدر قريبا، على شكل يوميات بعنوان “عام كورونا ” كما يوجد تحت الطبع كذلك كتاب” واقع الدكتوراه بالمغرب…دكتور مع وقف التنفيذ ” و عمل روائي آخر تحت عنوان ” حب مدمر بظهر المهراز”..
ولعل استحضار ذلك الدفق الحكائي في رواية ” طائر الجبل ” يحتاج إلى قدرة فائقة على تعصير الذاكرة وتطويع اللغة وتخصيب المخيلة وأيضا الى جرعة كبيرة من الجرأة المقرونة بالراحة الجسدية وهو ما توفر للكاتب وهمس لنا به في مقدمة الكتاب ،بعد ما وجد في نقاهة مر بها بعد وعكة صحية ألمت به شكلت فرصة من ذهب سلطت الضوء بما يكفي عن عتمات الماضي السحيق عبر معانقة فتنة البوح وسحر الكتابة اللايقاوم.
والكتابة عند محمد الزوهري الذي رأى النور 1973 بقرية بني وليد بتاونات ليست مجرد تعبيرعن الذات، وتنفيس عن الخاطر، واستبطان للمسكوت عنه فحسب، بل هي كذلك تجربة حذرة ومغامرة مسلية، وهي فعل يتجاسر على الملل ويصيره إمتاعا، و طقس يسمو بالنفس ويرويها شغفا، إنها سمو رفيع بالذات وهي بالجملة والتفصيل لذة لا تنازعها إلا لذة القراءة، ووجع لا يوازيه إلا وجع الولادة… ” والكتابة عند الزوهري ليست فعلا من أفعال الهدم، حسب “بيكاسو”بهدف التقويض والإزاحة والإحلال، بل هي بناء وخلق وترميم للذاكرة المشتركة. هي أيضا بمنظور “رولان بارت”، تشكيل جمالي للغة، وبوح وجودي، وامتلاء عاطفي يفتح الآفاق على مكان الذات الجماعية وذاكرتها المشتركة. يقول الكاتب في تقديم خاص قبل أن يقرر تقاسم حكايات الصبا في قريته “بني وليد”؛ ويشرك أصدقاءه براريها وبساتينها ومساكنها وطرقاتها وحجراتها المدرسية، بنفس سردي صادق وتلقائي، دون أن ينتابه في سبيل ذلك أي إحساس بالتحفظ أو الحرج ” إذ بات مقتنعا أن استحضار تلك الحكايات، ببراءتها وشقاوتها وتحدياتها، يحتاج إلى قدرة على تعصير الذاكرة، وتحفيز الرغبة، وتطويع اللغة، وتخصيب المخيلة، وأيضا إلى جرعة كبيرة من الجرأة… وقد وجد في نقاهة مرر بها بعد وعكة صحية ألمت به الظرف السانح والفرصة المواتية . ومن قراءتنا للرواية نقتطف هذه الشذرات
** حروف الجامع ص 15 “..كنا ننطلق نافرين ،نخلع أحذيتنا البلاستيكية الخفيفة من أقدامنا النحيلة المتشققة ، وندخل أكفنا فيها ، ثم نطلق سيقاننا للريح ”
** أول يوم في المدرسة ص19″… دلفت للقسم مسرعا وسط زحام شديد، وقصدت الطاولة الأولى في أقصى الصف الأيمن ،أردت الجلوس لكن أحد الأطفال صدني بعنف، فحصل شد وجذب ،وعندما لاحظ المعلم إصراري طالب الأطفال الأربعة الذين كانوا يجلسون جميعا فوق مقعد الطاولة بالالتصاق أكثر فيما بينهم كي أنضاف اليهم”
**أطفال لا يشبهوننا ص27 ..تهاطلت تساقطات مطرية وثلجية مهمة على قريتنا ما دفع إدارة المدرسة الى الغاء تلك الرحلة إلى إفران ،كان قرارا مفاجئا وصادما أصابنا بالخيبة والإحباط حينها خاطبنا المعلم ساخرا : الثلج جا عندنا ،آش دانا نمشيو لعندو حتى لإفران”
لا يتوقف الأستاذ الباحث والصحفى السابق في هذا البوح الشفاف عن الحفر والنبش في مرافئ الطفولة باحثا عن لذة الجوهر، محتارا في القبض على كنه المعنى في ذكريات الصبا، بأماكنها وأزمانها وشخوصها ومشاهدها وألوانها وخلجات أحاسيسها، إذ يكشف عن إواليات الهمس لدى الطفولة التي تتخذ شكل نقوش صامدة في وجه عواصف الأيام، لن تمحى لأنها ترسخت في الأعماق بقوة الخيال النابض، واحتلت مركزا مهما في النوستالجيا الفردية والجماعية.
على ظهر الغلاف نقرا له ” عندما كنا صغارا تمنينا لو صرنا كبارا، وعندما كبرنا تمنينا لو عدن صغارا… كانت طفولة مختلفة تماما عن ما هي عليه اليوم، لقد نما أغلبنا في غفلة من الجميع، مثلما تنمو ثمار الصبار في واد مهجور. كانت الأمور تترك للمشيئة الأقدار، ولم يكن هناك مجال لوضع الخطط، ولا تحديد الرغبات، ولا مراعاة الطوارئ… ورغم كل ذلك، كانت ثمة عيون تحرسنا وتحضننا.” ونتابع جني الفاكهة من بستان الذاكرة الزوهرية بهذا الإدراج الشيق من قلب الرواية :
**جوع وشواء ص63 ..مازالت صور الخرفان المصففة بعناية وهي تشوى على مهل فوق الجمر، راسخة في الذاكرة ”
**سراديب المستعمر ص67..عن بطش الحاكم الفرنسي بالمنطقة الذي أمر باعتقال ثلاثة مقاومين فأودعهم تلك السراديب دون أكل وشرب لأكثر من أسبوع بعد أن حاول أحدهم مهاجمته ،أي انهم ظلوا على قيد الحياة ما دفع المسؤول الفرنسي الى تقييد ارجلهم وارغامهم على الاشتغال في ورش تشييد بنايات إدارية بالقرية ”
**أنيس مبكر ص81 ..في القسم الثاني قرأت أقصوصة “الكنز المفقود” وفي القسم الثالث قصة أهل الكهف وقصة “النبي يوسف” وفي القسم الرابع قرأت مؤلف “الأجنحة المتكسرة” لجبران خليل جبران ورواية “أولاد حارتنا “لنجيب محفوظ وفي القسم الخامس قرأت السيرة الذاتية” الأيام “لطه حسين ومؤلف” الخبز الحافي” لمحمد شكري “.
** الغشاش ص168 …منذ الصغر دأبت على مرافقة الوالدين إلى الحقل في مواسم الحرث والحصاد فأشاهد عن كثب ارتباطهما العضوي بالأرض..”
** سقط الحمار في الدراسة ص203 ..كنا خمسة أفراد وأكثر ، ننطلق كالجراء الهائمة عشرة كيلومترات تفصلنا عن المنبع، لكن كنا نقطعها راجلين في ساعتين أو اكثر بسبب ما كان يعتري رحلتنا من شغب ومرح .نصف المسافة كنا نسلكه عبر طريق معبدة والنصف الآخر كنا نجتازه عبر واد خال وشعاب مليئة بالأوحال بفعل مياه السواقي المتدفقة من كل اتجاه”
** الطاحونة وروح سيزيف ص255 .. أتخيل وكأني أمام صور فرعونية لبناء أهرامات مصر فمثلما عجز الباحثون عن تفسير كيف استطاع الفراعنة رفع صخور في حجم الجبال لرص بنيان الأهرامات من القاعدة إلى القمة أعجز أيضا عن تفسير كيف استطاع الأهالي بتلك الأدوات البسيطة أن يرفعوا رحى حجرية هائلة من سفح جبل إلى قمته أو جرها لكلومترات عديدة عبر مسالك عذراء مستعصية ”
هكذا تورط ذ الزوهري في مغامرة العودة إلى الجذور وينغمس في متعة الحكي عن سيرة طفولته بكل جوارحه . ولما كانت البداية عفوية على جداره الخاص بالفايسبوك، فقد توالت حفريات السيرة بفيض متوثب، دون أن يضع في ذهنه خطاطة أو تصورا لهذا البوح ، لتتدفق القريحة وتجود بعطائها السخي، يقول المؤلف في هذه الإنعطافة بالذات ” وظل هدفي دائما هو ألا أسقط في الإسهال الذي يصيب الكتابة بلوثة الإسفاف، أو أحس بوجود استثقال على المتلقي باستمراري في البوح؛ لإيماني بأن الملل شعور إنساني يولد مع التكرار، والابداع مطلب وجودي يأتي مع التجديد…”
ويحفز الكاتب ذاكرة القارئ بذكاء ويجعلها في حيرة من امرها ، وهو يستحضر جانبا من طفولته لا سيما لحظة البحث عن نموذج باهر للاقتداء أو طموح خارق يخطط للوصول إليه، ليخلص إلى القول أن نموذجنا الأسمى هو ذاك الذي نحتناه من صخر بيئتنا الصامدة، وكان مبلغ طموحنا هو تلك العزة التي تغذينا عليها مع رغيف صبانا.” كانت الحياة بسيطة بساطة احلامنا، لا تجزنا مشاغلها للمكوث في الخلف، ولا تستحثنا هواجسها للقفز نحو الأمام. كانت التربية مهمة الجميع، وعملا مشتركا بين أفراد العائلة والمدرسة وسائر اهالي القرية.”
** حرف في البال ص 307 ….الزطاط وهي حرفة قديمة انقرضت ،صاحبها فارس شجاع كان يتولى حماية التجار في رحلاتهم من اجل التبضع بعد ان كانوا يتعرضون لخطر قطاع الطرق وظل الزطاط يحميهم بفضل البندقية التي لا تفارقه ، وقوته البدنية وقامته الفارعة .”
ويلفت الكاتب نظرنا إلى شيء غاية في الأهمية ،وربما هو سابقة في التعامل الطويل المرهق مع فعل الكتابة ، ليس مع مفاتيح الحاسوب المكتبي الفسيح والمريح ، وإنما مع تاكتيل شاشة الهاتف الذكي وحجمه الضيق مقارنة مع الحاسوب . ويكشف المؤلف أن مضامين سيرتة الروائية تم تدوينها بالكامل على شاشة الهاتف النقال، وهو عمل مرهق وحالة عصية ومتفردة كلفته كثيرا من الصبر والجهد والتأني، وغير قليل من المتعة أيضا .
ولعل متعة الكتابة ولذة تدوير النص ، هو ما حفز المؤلف على المضي قدما في التوثيق لهذه التجربة الرائعة ، إذ حينما تجاوزت حلقات الذاكرة مرحلة السيتينيات ، أي 66 حلقة على الفايسبوك ، ارتفع منسوب المتعة وتنامت مشاعر اللذة ليس في الحكي والتنقيب لدى الكاتب،بل كذلك في إحساسه المرهف إزاء من يتابع هذه الحفريات ويتفاعل معها ” يضيف الكاتب الذي لا يخفي ثقل المسؤولية وكذلك الأصداء الإيجابية والتشجيعات التي كانت تصله تباعا عبر الفضاء الأزرق وفي اللقاءات المباشرة من أصدقائه المخلصين وقرائه الأوفياء، فئات من كل الأعمار والأجناس والطبقات ، أدباء وإعلاميون وباحثون، الأمر الذي ظل يحفزه أكثر على مواصلة الحكي، وتدفعه باستمرار إلى تحويل هذه السلسلة الافتراضية إلى مؤلف ورقي…”
ميزة تواصلية أخرى أحسبها متفردة لدى الكاتب، فيما يتعلف بتدوينات وتعليقات متابعيه وهي ضمان حقهم في مشاهدة أرائهم وملاحظتهم محفوظة وبأمانة أدبية بالغة الحرص . إذ ظل طموح إشراك القراء من خلال قرار خاص للكاتب بإدراج تعليقاتهم بأسماء أصحابها ،وذلك على أمل أن يستمر في مغامرته بتوزيع مؤلفه عن طريق وسائط التواصل ذاتها.
وإذا كان الطموح مطلبا وجوديا منذ الأزل، والحلم لا حدود له مع وسائط التواصل الحديثة فقد حرص الدكتور محمد الزوهري منذ البداية على التفاعل وإشراك القراء (جمهور الفايسبوك) في كل كبيرة وصغيرة، ويؤكد الكاتب في تقديمه للكتاب أن أقوى حافز على إقدامه على هذه المغامرة ،و هذه التجربة التواصلية المتفردة هو ما حققته حلقات السيرة من تجاوب ملحوظ، على السوشل ميديا حيث فاق عدد نقرات المعجبين حاجز عشرة آلاف إعجاب، وعدد تعليقات المتفاعلين ثلاثة آلاف تعليق، وعدد مشاركات المتابعين أربعمائة مشاركة.
ولعل أجمل ما يمكن أن نختم به هذه المتابعة الوصفية لمنجز صديقنا الرائع الدكتور محمد الزوهري فقرة نستعيرها من ظهر الغلاف ” كانت الحياة بسيطة بساطة أحلامنا ،لا تجرنا مشاغلها للمكوث في الخلف، ولا تستحثنا هواجسها للقفز نحو الأمام . كانت التربية مهمة الجميع، وعملا مشتركا بين أفراد العائلة والمدرسة وسائر أهالي القرية ..”…