من طقوس المدعوين
محمد شحلال
كان أهالينا بالبادية ينتظرون مناسبات الأفراح بشغف كبير،ذلك أن الالتئام بين الرجال كما النساء،يسمح بفتح السجلات المختلفة لكل شخص ليتخلص مما تراكم فيها من أخبار وأحداث،قبل أن يتزود بالمستجدات التي تنكشف مع ارتشاف كؤوس الشاي التي لا تتوقف إلا لتتجدد.
يحرص سكان بلدتنا الذين -ربما لا يختلفون عن نظرائهم في الربوع الأخرى-على التقيد بشكليات عديدة يعتبرون مراعاتها دليلا على قيمتهم لدى صاحب الدعوة.
وهكذا،فإن الدعوة في نظرهم،يجب أن تصل قبل عدة أيام، وعلى لسان شخص ذي اعتبار حتى يتم تلبية الدعوة،بل إن البعض يتحرى في جدولة الدعوة والأشخاص الذين كان لهم قصب السبق،إلى درجة أن من المدعوين من يتجاهل الدعوة لأن جاره حظي بالأسبقية ولو كان الأمر عرضيا !
يبادر المدعوون إلى القيام باكرا ،ثم يتوجهون في الساعات الأولى من النهار نحو ،،دار الفرح،،حيث يتعين أن يتم الاستقبال بحرارة من خلال استنساخ كل أشكال الترحيب الممكنة، ثم يجلس المدعوون الذين الذين وصلوا متزامنين متحلقين لتناول طعام الفطور، ولو أن الضيوف إنما يفطرون للمرة الثانية امتحانا لأريحية أهل الفرح الذين يضطرون لإعداد وجبات الفطور من طلوع الشمس إلى ما قبيل وقت الغذاء.
إن كثيرا من طقوس الأفراح لا زالت تحتفظ بشيء مما توارثناه،غير أن ما كان يسترعي انتباهي في المدعوين،هو طريقتهم الفريدة في تحية الحاضرين.
كان المدعو يلبس الجلباب والعمامة اللذين ينظفان غداة المناسبة،ثم يشذب لحيته ،فإذا وصل حيث يجلس الضيوف،أفشى السلام جهرا،ثم ينتزع نعليه اللذين يضعهما في مكان تحت أنظاره،ليشرع بعد ذلك في مصافحة متميزة.
لقد أشاد القرآن الكريم بالتحية وأوصى بتثمينها من خلال قوله عز وجل :(وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها)،لذلك وصلت رسالة القرآن إلى أهالينا مبكرا فابتدعوا نسخة خاصة بهم.
وهكذا،فإن الرجل ينطلق من أول مدعو عند الدخول، فيصافحه بحرارة،ثم يرفع يده ليبصم على سبابته من خلال قبلة موسيقية يجددها مع كل الحاضرين بغض النظر عن عددهم،ولا يأخذ مكانه في المجلس حتى يوزع المصافحة ولثم السبابة على الجميع.
كنت مشدودا منذ صغري إلى هذا النوع من التحية الذي يعيش آخر بقاياه،وكنت أرى فيه محبة دفينة وعفوية بين الناس،خاصة في هذه المناسبات،حيث يتناسون خلافاتهم،بل إن من هؤلاء متخاصمين يفتحون صفحة جديدة ،حيث يحصل الصلح تلقائيا بفضل سنفونية السبابة وحدها !
كان المدعوون يخصون كبار السن بتقدير كبير،ذلك أنهم كانوا يقبلون رؤوسهم دون إغفال حركة السبابة.
لم تكن مجالس المدعووين تخلو من بعض،،الوجهاء الذين كانوا يطالبون الضيوف بتصريف حركة السبابة عبر تحية جهرية، موجهة للجميع من خلال التلويح باليدين ،ثم الجلوس مباشرة وإعفاء
النفس من عناء توزيع بصمة السبابة.
كان هؤلاء الوجهاء يعارضون التحية النمطية المتوارثة،لأنها كانت تقطع عليهم حبل الحديث الذي شرعوا في نسجه،ولذلك ،تراجع منسوب التحية التقليدية،واختفت معه تلك الحرارة ،،البشرية الصادقة،،التي كنا نلمسها في أولئك البسطاء الذين انتزعت منهم آخر أوراق المشاعر النبيلة.
لم يعد ببلدتنا إلا أشخاص قلائل ممن لا زالوا أوفياء لطقوس التحية،لكن الجائحة التي تطفىء شمعة سنتها الأولى، قد أجهزت على كل تقارب بين الناس،ولا يحتاج المتأمل لكبير عناء حتى يدرك المرارة التي يحس بها الأهالي وهم محرومون من مصافحة أحبتهم، فحكم على المشاعر الإنسانية ألا تجد ترجمتها في الطقوس التي صنعها الأجداد .
نسأل الله أن يعجل باختفاء هذا الوباء الذي ضرب البشرية في كبريائها،أما تحية أهالينا ذات الدلالات الجميلة،فإنها توشك أن تصبح من حديث الماضي.