“العامل الجغرافي وآثاره في تحديد الأنماط الحضارية “
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا:رؤية مجملة عن تعريف الجغرافيا وتطورها
في مواكبة للتقسيم الذي اعتمده ديورانت لتحديد عوامل نشأة الحضارة نتناول في هذه الدراسة عمالا مهما جدا ومحوريا يكاد يفوق العامل الجيولوجي الذي يمثل الأرضية الصلبة لنشأة الحضارات وتأسيس العمران.
فالجغرافيا:” تعريبها: علم المعالم،و هي علم معالم الأرض ،يدرس فيها وصف الأرض من مظاهر عمران بيد البشر وهي: المعالم (جغرافية) البشرية وظواهر الطبيعة و المعالم (جغرافية) الطبيعية. أو بصورة ميسرة: الأرض والظواهر الطبيعية (فيزيائية) وحيَل التعامل معها والمظاهر البشرية وصور العمران عليها . ويعود أصل الكلمة إلى اللغة الإغريقية، ترجمتها بالعربية “وصف الأرض”. وقد كانت كذلك في بدايتها حيث كان الرحالة يصفون ويسجلون مشاهداتهم عن البلاد والأقاليم التي يقومون بزيارتها.
وكلمة جغرافيا في اللغة العربية تعدّ حديثة بعض الشيء، حيث كان العرب والمسلمون يستعملون صورة الأرض أو قطع الأرض أو خريطة العالم والأقاليم أو المسالك والممالك أو تقويم البلدان أو علم الطرق”.
ولقد أصبحت علما كما يرى البعض بعد رحلة الإسكندر الأكبر عبر آسيا إلى الهند ،حيث “أضافت الكثير إلى معلوماتنا الجغرافية.وكان يقيم بمدينة الإسكندرية ،التي أسسها الاسكندر ،العالم ايراتوستينيس Eratosthenes، الذي قام في القرن الثالث قبل الميلاد ببعض القياسات عن الأرض .وكان معروفا أنه في مدينة “سين”Syene (وهي أسوان) حاليا تكون الشمس عمودية تماما في منتصف النهار وقت الصيف ولا يكون هناك ظلال للأجسام.وعلى أساس هذه الحقيقة قام إيراتوستينيس بقياس زاوية ميل الظلال وقت الظهيرة في مدينة الاسكندرية التي يعيش فيها. ولاحظ ان هذ الزاوية تكون مائلة عن العمود الرأسي بمقدار 7ونصف تقريبا ،وبذلك استنتج أن المسافة بين المدينتين تمثل 7ونصف من محيط الأرض ،واستطاع إيراتو سيتينيس حساب محيط الأرض بحوالي 39706 كم.ومن العجيب حقا أنهذه النتيجة قريبة جدا من الرقم المعروف حاليا لمحيط الأرض وهو أكبر قليلا من 40009كم.
وعندما رسم إيراتوستينيس خريطة للعالم المعروف في ذلك الوقت ،فإنه قام بقياس المسافات بين خطين متعامدين يمران بجزيرة رودس،أحدهما في الاتجاه شمال-جنوب ،والآخر في الاتجاه شرق-غرب.
وبعد ذلك قام هيبارخوس Hipparchus بتطوير هذه الطريقة ،وكان من رأيه أن رسم خريطة للعالم يحتاج إلى شبكة مساحية من الخطوط المتعامدة.
وفي القرن الثاني بعد الميلاد رسم العالم الفلكي بطليموس Ptolemy أول خريطة للعالم توضح جميع المعلومات الجغرافية التي كانت معروفة حتى ذلك الحين.ولكن هذه الخريطة كانت بها أخطاء كبيرة.ورغم هذه الأخطاء إلا أنها كانت تمثل تقدما عظيما في عمل الخرائط الجغرافية .وفي الواقع إن الأخطاء الموجودة في خريطة العالم التي رسمها بطليموس كان لها آثار بعيدة المدى في تاريخ العصور التالية”.
هذه هي قصة الجغرافيا عند بعض الغربيين أو لنقل جلهم، مع تجاهل كبير لمساهمة العالم الشهير “أبو عبد الله محمد بن محمد الإدريسي الهاشمي القرشي. عالم عربي مسلم (وُلد عام 1100 م (493هـ ) وُتوفي عام 1166م (559هـ)). ويُعتبر من كبار الجغرافيين في التاريخ ومؤسسي علم الجغرافيا، كما أنه كتب في الأدب والشعر والنبات ودرس الفلسفة والطب والنجوم في قرطبة. استخدمت مصوراته وخرائطه في سائر كشوف عصر النهضة الأوربية. حيث لجأ إلى تحديد اتجاهات الأنهار والبحيرات والمرتفعات، وضمنها أيضًا معلومات عن المدن الرئيسية بالإضافة إلى حدود الدول”
وهو صاحب الخريطة الشهيرة والتي فاقت ما قام به بطليموس وغيره بكثير.
وهي الخريطة التي رسمها الإدريسي لروجر الثاني ملك صقلية عام 1154 م، واحدة من خرائط العالم القديم الأكثر تقدما. في صورة منسقة حديثة، تم إنشاؤها من 70 صفحة مفرودة من الأطلس الأصلي”.
ولكن مع الأسف هذا هو عيب كثير من البحاث الغربيين ممن لا يلتزمون بموضوعية البحث العلمي ونسبة الفضل إلى أهله كتعصب خارج عن مقتضيات الدراسة النزيهة والمحايدة.
ثانيا:العامل الجغرافي وآثاره على المزاج والأنشطة العامة
ولا نريد هنا أن نخوض في علم الجغرافيا كتخصص فهذه لها أهلها ولكن قصدنا هو الدلالة على هذا الجانب باعتباره عاملا مهما من عوامل نشأة الحضارة والذي قد تترتب عنه تصورات وأفكار ومشاعر متأثرة بالمناخ والموقع.أو بعبارة تقليدية موافقة الهواء ومجمل الإسطقسات للأمزجة وتأثيرها على نمط عيش الشعوب والأمم ومظاهر تحضرهم ومميزات عمرانهم.
والأسطقس لفظ يوناني بمعنى الأصل، ويرادفه في العربية لفظ العنصر، وجمعه أسطقسات، وهي عند القدماء العناصر الأربعة : الماء، والأرض، والهواء، والنار.
سميت هذه العناصر الأربعة بالأسطقسات لأنها أصول المركبات من المعادن، والنباتات، والحيوانات.كما كان يصطلح عليه في الماضي .
ومن هذا الاعتبار المادي والتفاعل بين العناصر سنجد ابن خلدون يؤسس للعامل الجغرافي كأهم المؤثرات في نشأة الحضارة بعدما يستعرض نظريته حول نشوء الحضارات المعروفة في التاريخ ولحد عصره فيرى بأنها جلها قد تمركزت عند حوض البحر الأبيض المتوسط ،من البوغاز حتى بلاد الرافدين .وعند هذا الامتداد ستبنى الحضارات الكبرى ويكون اللون واللغة والجمال والأشكال البديعة والاعتدال في القامات والأحجام وما إلى ذلك .رابطا كل هذا باعتدال المناخ وخصب الأرض وغناء التضاريس المؤهلة لتأسيس العمران وارتفاع الحضارات.
بل قد ذهب إلى أبعد من هذا فحصر بعثة الأنبياء والرسل في تلك المنطقة وخاصة ما بين الشام وبلاد الرافدين، حيث كانت هناك كثافة في حضور الأنبياء والرسل .
وهذا التصور قد كان مبنيا على الاعتبار الذهني لما يعرف بخط الاستواء ،والذي عليه يتأسس الحكم على هذا الجنس البشري وأنشطته أو ذاك فكانت الأقاليم السبعة من جهة الشمال أو من جهة الجنوب ،والمقابل منها يتوافق في الظواهر وأنماط السلوك والتفكير والمعاشات…
حتى إنه قد أفرد لهذا الموضوع المقدمة الثالثة والرابعة وهي ذات صبغة أنتروبولوجية وملاحظات اجتماعية ونفسية دقيقة مما يجدر بنا أن نستعرض المقدمة الثالثة خاصة لما لها ارتباط بموضوع العامل الجغرافي بوجه ما.
ثالثا:الرصد الميداني للعامل الجغرافي وآثاره على سلوك أهل الأقاليم
“المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم و المنحرف و تأثير الهواء في ألوان البشر”
“قد بينا أن المعمور من هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراط الحر في الجنوب منه و البرد في الشمال. و لما كان الجانبان من الشمال و الجنوب متضادين من الحر و البرد وجب أن تندرج الكيفية من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلاً فالإقليم الرابع أعدل العمران و الذي حافته من الثالث و الخامس أقرب إلى الاعتدال و الذي يليهما و الثاني و السادس بعيدان من الاعتدال و الأول و السابع أبعد بكثير فلهذا كانت العلوم و الصنائع و المباني و الملابس و الأقوات و الفواكه بل و الحيوانات و جميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال و سكانها من البشر أعدل أجساماً و ألواناً و أخلاقاً و أدياناً حتى النبؤات فإنما توجد في الأكثر فيها و لم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية و لا الشمالية و ذلك أن الأنبياء و الرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم و أخلاقهم قال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس و ذلك ليتم القبول بما يأتيهم به الأنبياء من عند الله و أهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم فتجده على غاية من التوسط في مساكنهم و ملابسهم و أقواتهم و صنائعهم يتخذون البيوت المنجدة بالحجارة المنمقة بالصناعة و يتناغون في استجادة الآلات والمواعين ويذهبون في ذلك إلى الغاية وتوجد لديهم المعادن الطبيعية من الذهب و الفضة و الحديد و النحاس و الرصاص و القصدير و يتصرفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين و يبعدون عن الانحراف في عامة أحوالهم و هؤلاء أهل المغرب و الشام و الحجاز و اليمن و العراقين و الهند و السند و الصين و كذلك الأندلس و من قرب منها من الفرنجة و الجلالقة و الروم و اليونانيين و من كان مع هؤلاء أو قريباً منهم في هذه الأقاليم المعتدلة و لهذا كان العراق و الشام أعدل هذه كلها لأنها وسط من جميع الجهات”.
وعلى غرار ما فعل ديورانت لما بدأ يسرد مواقع المدن وخاصة البريطانية منها والأوروبية في أغلبها فإن ابن خلدون سيدون لنا قبله مواقع المدن والبلدان العربية والإفريقية التي كانت معروفة آنذاك وسيبدي ملاحظاته الدقيقة حول انعكاس التضاريس والمناخ على سكانها .كل هذا كان يبنيه على مبدأ القرب والبعد من خط الاستواء.بحيث يرى أن سكان الإقليم الأول والثاني ثم السادس والسابع أغلبهم همج وأقرب على الحيوانية ،لغاية أن بعضهم يأكل بعض وخاصة أهل السودان،أي ذوي البشرة السوداء الداكنة.ليس بسبب أنهم سود ،حتى لا يقع في عنصرية مقيتة ولكن لأن الكثير منهم قد وافق وجوده الأقاليم المبتعدة أو القريبة جدا من خط الاستواء..في حين سيذهب إلى اعتبار أن السواد سببه طبيعة الحر والمناخ الجاف وليس هو من دعوة النبي نوح عليه السلام على أحد أبنائه ،حتى قد كان البعض يتوهم أنه إذا تجاوز الشخص خط الاستواء نحو الجنوب والصحراء فقد يصبح أسودا لهذا السبب.ولهذا فالحضارة قد عرفها البيض والسود على حد سواء طالما أنهم يوجدون عند الأقاليم المعتدلة بحسب الزعم القديم عند تحديد عواملها.
ولكي نحصر الموضوع في تناول العامل الجغرافي كعنصر أساسي في نشأة الحضارة سأقتصر على بعض الملاحظات الخلدونية ذات الحمولة العلمية والطرافة الأدبية في نفس الوقت وذلك بتفسيره لأثر الحرارة والبرودة مع الموقع الجغرافي على السلوك الاجتماعي والاقتصادي للسكان.
فالحرارة وحياة السهول قد تنتج عنهما أحوال وأنشطة تميل في الغالب إلى الفرح والسرور والغناء والرقص،حتى قد ذهب إلى أن أهل السودان في المناطق الحارة ديدنهم الرقص غريزة ولو أنك ألقيت بأحدهم من السماء لسقط وهو يرقص.في حين سيذكر أهل مصر الذين جمعوا بين الحرارة والرطوبة على نهر النيل حيث يغلب عليهم بدورهم الغناء والرقص كما هو معروف لهذا السبب، هذا بالإضافة إلى سلوك اقتصادي واستهلاكي يتسم بنقطة مقلقة وهي نوع من الخفة والطيش و” عدم التفكير في العواقب مع غياب مبدأ الادخار في حياتهم”.أي ما يأتي بالنهار يستهلك بالليل فيصبحون على الفراغ من جديد.و”عامة مآكلهم من أسواقهم”.ولكن مع هذا فقد تأسست حضارات كبرى لها مقوماتها وآثارها التي لا تكاد تندثر.
وعلى العكس من هذا يرى أنه”لما كانت فاس من بلاد المغرب “وهي موغلة في :”التلول الباردةكيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن وكيف أفرطوا في نظر العواقب حتى إن الرجل منهم ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئا من مدخره.وتتبع ذلك في الأقاليم والبلدان تجد في الأخلاق أثرا من كيفيات الهواء،والله الخلاق العليم” .
وفاس أيضا مع هذا الحزن المناخي قد تأسست بها حضارات وتعاقبت عليها دول وأحداث كان من أبرزها تأسيس الدولة الإدريسية كما يؤرخ لها الكاتب الفرنسي “موريس لومبار” في كتابه “الإسلام في عظمته الأولى” l’Islam » dans sa première grandeur » :”في 788،عند وصول إدريس الفتى –الذي هو ،ولنسجل ذلك،شرقي ،شأن الأغالبة،الفاطميين،الرستميين،وهم بناة آخرون كبار للمدن-كانت الكتلة السكانية الرئيسية هي طنجة،التي تتحكم بالمرور في المضيق نحو الأندلس.في 807،قامت مدينة فاس .
تصور فاس أحسن تصوير إعادة إدخال حضارة مدينية من طرز شرقي في مجتمع ريفي بربري.مدينة بجدرانها ،بأحيائها ،بأسواقها ،بصناعتها ،ببورجوازيتها ،ذات طابع سكاني مزدوج الأصل…”.
وهذا التفسير الجغرافي عند ابن خلدون فيه نسبة كبيرة من الحقيقة ،ولكنه ليس كلها .بحيث لو نظرنا إلى مصر بهذا المنظور فقد لا يمكن أن تنشأ بها حضارة ولكن الحضارة وجدت ،وكذلك الشأن بالنسبة إلى فاس وما شابهها من مدن .إذن، فما هو العامل الحقيقي في ذلك ؟ وللإجابة على هذا فقد يتطلب الأمر سبر كل العوامل حتى يتم الحسم و تنقيح المناط ثم تخريجه وتحقيقه .