صدى السنين: 2 ـ فرسان الأنفاق.. للمؤلف: قاسم رابح واعمر ـ الحلقة 9 ـ
بالتقدير والاحترام
ذات مساء يوم من شهر سبتمبر 1984،بينما كنت بصدد المداومة بسفارة المملكة المغربية بموسكو، حيث كنت أزاول عملي،.. وقد غادرها الموظفون..وكنت أتصفح الجرائد الرسمية السوفيتية التي كنت قد اطلعت عليها في الصباح، إلا أن زمان ذلك الوقت كان يحتم على المرء إعادة القراءة بين السطور.. وقبل أن ألقي بالصحيفة من يدي.. بدا لي كأني لمحت اسم المغرب في عمود صغير في الصفحات الأخيرة من الجريدة… فتحت عيني جيدا وأعدت قراءة العمود الصغير من أوله: كان مفاده أن وفدا مغربيا من عمال الفحم الحجري بجرادة قد زار الاتحاد السوفيتي وأمضى زهاء أسبوع في الإطلاع على التجربة السوفييتية في استخراج الفحم الحجري في حوض “دنباس” وأماكن أخرى…
وقبل أن ينهي الوفد زيارته، وقبل أن يغادر الاتحاد السوفييتي، فقد حل ضيفا علي المركزية النقابية بموسكو…ألخ
وبمشقة كبيرة تمكنت من اكتشاف مكان إقامة وفد عمال جرادة.. بل وكنت محظوظا لأني في الوقت الذي ربطت فيه الاتصال مع مستقبلة المكالمات بالفندق حيث كان يقيم الوفد، وطلبت منها أن تصلني بالمسؤول عن الوفد أو بأي فرد من أفراده.. دعت أحدهم كان جالسا غير بعيد عنها في بهو الفندق الذي زودني بكل المعلومات.
كنت أعرف بعض أعضاء الوفد.. وكانت فرحتي عارمة وأنا أتشرف باستقبالهم بشقتي المتواضعة بقلب موسكو.. ولا شك أن الشعور بالفرحة كان متبادلا.. خاصة عندما علموا بقرابتي العائلية مع العديد من “المحاربين من فرسان الأنفاق” من “أولاد أعمر”.. وكانت فرصة سعيدة جددت فيها اللقاء مع “زوفريا” مناجم جرادة.. بل وكان اللقاء كبالون أوكسجين أنعش ذاكرتي بالعديد من الحكايات، التي كادت ظروف الغربة أن تلفها بضباب النسيان.. ولدى عودتهم إلى جرادة استمر الحديث طويلا عن اللقاء المفاجئ لوفد العمال مع أحد “أولاد جرادة” المغترب بموسكو وخاصة بين أعضاء الوفد والأبطال المنحدرين من أولاد أعمر…
وبعد كل اللمسات الرقيقة والإيحاءآت الملحمية الجميلة.. وبعد كل الأسماء والصفات النبيلة… من أبطال الأعماق وفرسان الأنفاق.. ومقاتلي الأغوار وشهداء الآبار.. الخ.. لم يبق لي إلا أن أقول لهؤلاء العظماء: يا عمال مناجم الفحم بجرادة لكم مني كل التقدير… ولو لم يقدر لي الله أمرا كان مفعولا لكان اسمي رقما بين أرقامكم.. وربما شهيدا منسيا في طيات لوائح شهداءكم… سأبقى أراكم ـ أيها العظماء ـ ما دمت حيا، من خلال صور أفراد عائلتي.. أراكم من خلال وجوه عزيزة علي استشهدت هي الأخرى في الصفوف الأمامية من جبهتكم.. وجه والدي.. وجه عمي الحبيب.. وجه عمي البشير.. وجه ابن عمي أمعمر.. وجه صهري قدور وأخيه وبني أخيه.. وجه عمي بالخير.. وجوه من كل قبائل أولاد أعمر.. وجوه طيبة من كل أنحاء المغرب.. واللائحة طويلة… سأراكم من خلال أبناءكم وأحفادكم من أبناء جيلي بجرادة… فجزاكم الله خير جزاء عن شجاعتكم وصبركم وتفانيكم وتضحياتكم من أجل إسعاد ذويكم وتنمية منطقتكم التي منحتموها قرابة قرن من السعادة والرفاهية..
وبعد كل هذا… ألاَ يَستحق عمال مناجم جرادة أحياءً كانوا أو أمواتا.. ألاَ يَستحقون التفاتة ولو رمزية من أبناءهم وحفدتهم.. من أبناء جلدتهم ومن وطنهم ومن الحكومة ومن المسؤولين.. ومن كل الجمعيات والفاعلين الجمعويين… ألا يمكن التفكير في تخليد أسماء هؤلاء الشهداء الأبطال “فرسان الأنفاق” الذين ضحوا بأرواحهم من أجل ذويهم وتنمية وطنهم..، وذلك بأية طريقة من الطرق بدلا من تركهم أرقاما صامتة تصارع ظلام النسيان…
الفصل الثالث
***
…كنت راضيا في قرارة نفسي عن هذه الرحلة الاستكشافية في مثل هذا الفصل… وفي مثل هذا الجو… وفي مثل هذا اليوم… يكفيني أن أولياء الله مروا من هنا… ولا شك أنهم جلسوا هنا على هذه الصخور التي اتكأ عليها… أو على تلك التي سوف أجلس عليها… واستنشقوا نفس الهواء الذي استنشقه… ولا شك أني وضعت قدمي حيث وضعوا أقدامهم… ولا شك أني سرت على خطاهم…
الجدي الصغير جدا وأمه الكبيرة جدا..
كان عيد الأضحى المبارك قد صادف أواخر فصل الشتاء، وكانت التساقطات المطرية لا تكاد تنقطع، والضباب الكثيف الذي يكاد يتحول إلى رذاذ خفيف يمسح الوجوه برقة دون أن يبللها، قد غطى الأفق والجبال،… وبمجرد أن أنهى “قدور” سلخ أضحيته واستقبل بعض الجيران من عائلته الذين جاءوا لتهنئته.. وشاطرهم “بولفاف” وكؤوس الشاي.. حتى قام بحلق ذقنه حلاقة جيدة، و لبس جلبابه الأنيق، وهيأ دراجته كعادته في مثل هذه المناسبات ليقوم بزيارة أهله “بجرادة” و”حاسي بلال”رفقة شقيقتي وقد دعاني لمرافقتهما ولكني اعتذرت بلطف، بدعوى أني سأزور أعمامي.. وبالفعل فبمجرد أن وصلت إلى ديار أعمامي حتى أخبرني بعض الجيران أنهم قد خرجوا قبل قليل لزيارة ذويهم…
وهكذا أدرت بوجهي صوب الجبال التي كانت السحب الكثيفة تغطي أعاليها،.. وبدون تردد قررت أن أزورها،… وأسرعت الخطو في اتجاهها مخافة أن أصادف أحد معارفي فيغير اتجاهي، خاصة وأننا في يوم عيد…
وفي طريقي الطويل والشاق إلى الجبال، استحضرت ذكريات عيد الأضحى المبارك وسط أفراد عائلتي.. في كنف والديَّ، وتذكرت برنامج عمل والدي بالخصوص في صباح هذا اليوم، إذ يصحو باكرا ولا يتناول أي فطور ويذهب إلى المصلى، وبعد عودته يذبح أضحية العيد ويكون فطوره على كبد الأضحية الذي يكون أول شيء تتسلمه والدتي منه بعد سلخ الأضحية، لتقوم بشوائه جيدا على الجمر.. وعندما ينضج تضعه على طبق وتعيده إليه ليقوم بتقسيمه إلي قطع متوسطة يفرقها على الحاضرين بينما يستعمل الباقي في تهييء “بولفاف”…
كانت أعياد الأضحى تمر متشابهة سنة بعد أخرى..إلا أنه وخلال إحدى هذه الأعياد ،سيطرأ طارئ ليصبح عيد الأضحى مقرونا في ذاكرتي بحدث مؤلم في حياتي سأتذكره إلى الأبد…
في قرية “المعدن” بـ”أولاد أعمر” …و في أوج فصل شتاء قارس، توفيت عنزة بعد أن خلفت توأمين إثر مخاض عسير..وقد حاول والدي أن يروم عنزة فقدت ابنها على التوأمين..إلا أن العنزة الثكلى لم يَرِقّ قلبها إلا على توأم واحد، ورفضت الآخر..ومن الصدف الغريبة أن بقرة هي الأخرى أجهضت جنينها غير كامل..فطرحت السؤال على والدي هل يمكن أن نروم البقرة على الجدي اليتيم..؟ فكان جوابه بالإيجاب.. وأن هناك “معلمين” يقومون بذلك.. غير أنهم بعيدين.. لم أترك مجالا لوالدي لكي يعتذر به…فقد اقترحت عليه بأن يركب حماره ويأخذ الجدي اليتيم، المسكين بين يديه.. في حين سأسوق أنا البقرة ونقصد أقرب “معلم” للترويم…
كانت صبيحة يوم أحد، وبدون تريث، امتطى والدي صهوة حماره، بينما أخذت بطرف الحبل المشدود من الجهة الأخرى حول قرني البقرة لأقودها ونتجه صوب “لغراس”.. قاصدين شخصا “معلما” في الترويض يدعى “الفقير أمحند “.. والذي وصلنا إليه بعد صبيحة كاملة من المشي.. تخللتها أوقات حرجة، إذ كنا سنرجع على أعقابنا، نظرا لحالة الجدي الصغير الذي خيل لوالدي ولمرتين متتاليتين أنه توفي..
وفعلا فقد كانت أولى ملاحظة “لمعلم” المروم أن الجدي ضعيف وقد لا يقوى على الصبر حتى تجود عليه البقرة بحنانها وحليبها.. ومع ذلك فقد طمأننا بأنه سيقوم بكل ما في وسعه لتنجح العملية.. “والكمال على الله”… وابتدأت العملية التي حبست أنفاسي من البداية وحتى النهاية…
أخذ الجدي الشبه غائب عن الوجود، ومرره عدة مرات على فرج البقرة الذي كان لا يزال يحتفظ ببقايا دم النفاس، ثم حمله إلى أنف البقرة التي أشاحت عنه بوجهها في البداية،.. أعاد الحركة لعدة مرات.. وفي وقت من الأوقات بدا لي وكأن الجدي استأثر باهتمام البقرة التي بدأت تشمه .. ثم أخذ الجدي وقربه من ضرع البقرة التي أبدت بعض الرفض، وبمساعدة والدي تمكن المروم من وضع إحدى حلم ضرع البقرة في فم الجدي الذي رغم ضعفه بدأ يتلمسها ويحاول استيعابها بفمه الصغير..
أحضر المروم إناء وبدأ بمعالجة ضرع البقرة ودلكه برفق بين أصابعه، محاولا استدرار حليبها، وبعد إعادة المحاولة عدة مرات، بدا و كأن البقرة قد استأنست بهذه الحركات.. وأن المروم قد استطاع أن يخرج شيئا من اللبأ الأصفر، أي الحليب الذي يفرزه ضرع البقرة بعد الولادة،ثم أخذ بإصبعه قطرة اللبأ وأدخلها في فم الجدي.., ومرر الباقي براحته ومسح بها رأس الجدي وظهره.. وقربه مرة أخرى من البقرة التي بدأ اهتمامها بالجدي واضحا.. إذ أنها بدأت تشمه من كل جانب وكأنها تريد التهامه..
أعاد “لمعلم” الجدي إلى ضرع البقرة.. بدأ الجدي بالبحث عن حلمة ضرع البقرة.. يبدو أن فمه الصغير لا يستطيع استيعاب حلمة الضرع إلا بمساعدة المروم.. ثم عاد من جديد إلى محاولة استخراج اللبأ الشبه جامد..
وهكذا أعاد العملية عدة مرات.. وكلما قام الجدي بملامسة ضرع البقرة بفمه الصغير، كلما حاول المروم إخراج اللبأ، وإطعام الجدي ودهنه بالباقي.. ويبدو أن البقرة لم تعط الجدي حليبها فحسب، بل أهدته حبها وحنانها كذلك.. وعلامة ذلك أنها أخرجت لسانها ومررته برفق على ظهر الجدي،.. وكان لقيام البقرة بهذه الحركة الوقع السحري على المروم الذي كاد يقفز من الفرح.. بحيث استدار إلى والدي وقد تملكته نشوة عارمة وأومأ إليه أن العملية تمت بنجاح إن شاء الله… أما أنا فقد كدت أطير بدوري إلى رأس المروم لأقبله من شدة الفرح…
دعانا “الفقير أمحند” إلى خيمته التي كان الطريق الذي سلكناه يمر بجنبها.. وأطعمنا الخبز والزيت مع الشاي بـ”الشيبة”…
كانت الفرحة التي تملكتني والتي لم أستطع إخفاءها حتى عن “لمعلم” جعلتني لا أهتم إلا بـ “الجدي الصغير جدا الذي رزقه الله أما كبيرة جدا”.. وقد ضحك المروم ووالدي طويلا من اهتدائي إلى هذه المعادلة.. التي ستلوكها الألسن لمدة طويلة.. وكنت كلما صادفت المروم في السوق الأسبوعي، يسألني عن حالة “الجدي الصغير جدا وأمه الكبيرة جدا..”
عدنا إلى المنزل، ولم أدخر جهدا في إشاعة النبأ السعيد بين الجيران وزفه إلى أصدقاء الدراسة.. استفاق الجدي الضعيف من غيبوبة الجوع وسوء التغذية.. وكان لا يقوى حتى على حنان البقرة.. التي كانت تمرر بلسانها على جسده النحيف فتحركه كدمية خفيفة.. وبدأ يقف بالكاد… وبدأ يخطو بخطوات محتشمة ولم يمض إلا أسبوع حتى أصبح يبحث عن الضرع بمفرده.. وبعد أسبوعين أو ثلاثة أسابيع لم يعد في حاجة إلى مساعدة من يحمله إلى ضرع البقرة.. وبسبب الجدي الصغير والضعيف جدا الذي وقف مرارا بين الموت والحياة بدأت البقرة تدر حليبا ممتازا كنا في أمس الحاجة إليه وخاصة خلال فصل البرد الذي يصبح فيه الحصول على هذه المادة ضربا من الخيال.. ومن جهتنا لم نبخل على البقرة بشيء.. فبالإضافة إلى حصتها من التبن والبرسيم اليابس الذي كان يشكل غذاءها اليومي، فقد خصصنا لها كمية من الشعير من الدرجة الثالثة: أي الشعير المختلط ببقايا أغصان السنابل وبذور النباتات الطفيلية… كما أن والدتي لم تتورع في إطعام البقرة خلال الأيام الأولى للإجهاض الذي تعرضت له.. وخاصة عندما تبنت الجدي ورامته، لم تتورع في إطعامها بالشعير الجيد والذي أدفأته على “الفراح” الساخن ومزجته بقليل من مسحوق الملح الحجري..
حل فصل الربيع، وعاش الجدي، وكان لتأثير حليب البقرة عليه، أنه كبر بسرعة خارقة، وأصبح وهو ابن خمسة أشهر يضاهي في حجمه ووزنه حجم ووزن تيس ابن سنة أو يزيد.. وأصبح جديا عملاقا، أصبح يستأنس باللحسات القوية لأمه المرضعة.. بل وأصبح يتلذذ بهذه اللحسات آلتي كانت تمشط بها شعره الغزير ذي اللون الأزرق الباهت، إلى أعلى لينفرد بتلك التسريحة لشعره بين كل الجديان..
سميته “سعدون”.. وكانت حاسة سمعه قوية جدا ..كنت أبتعد عنه بعشرات الأمتار، وأناديه بصوت لا يكاد يسمع،.. ومع ذلك كان يسمع ندائي ويأتيني مسرعا، ليرفع رجليه ويضعهما على كتفي، ويبدأ في التفرس في ملامح وجهي بينما آخذ رأسه بين كفي وأمسح شعر ووجهه ورقبته… كنت أطعمه ومرضعته أجود ما تجود به الحقول من النباتات الجيدة المغذية للحيوانات.. كانت أمه من الرضاعة عندما يمتلئ بطنها، تجلس وتبدأ باجترار ما أكلت.. كنت أحمل إلي فمها رزما من الكلأ الجيد، فكانت تشمه وتمد إليه لسانها، لتلتهم منه الجزء الأعلى.. أي الجزء الذي يحمل البذور النباتية وتَعْرِضُ عن الباقي.. ربما كان ذلك قمة في التبذير أو الاستهلاك أو الشبع المفرط حتى عند الحيوانات… فعندما يكون المرء جائعا، يكون مستعدا لأكل أي شيء، وعندما يشبع لا يتناول، بل لا يتذوق إلا الشهي من الأطعمة…
كبر الجدي وأصبح يضاهي كبار “العتاريس” رغم صغر سنه.. وكنت ألاحظ يوميا التطورات التي تطرأ عليه، والتي كان يحمل مشاتلها في جسمه كغريزة حيوانية،… كان يداعب الجديان الذين هم في سنه ومن أقرانه… وكانوا يهابونه بدون استثناء، أما الإناث فكن يتوددن إليه… في حين لم يكن هو ليعيرهن كبير اهتمام… حتى أني أسأت به الظن في يوم من الأيام، وقلت في نفسي ربما تكون له ميول عاطفية غريزية نحو جنس الأبقار،.. الذين تربى وترعرع على خيرهم.. ولكن”سعدون” لم يكن بلغ الحلم بعد، وكان همه الأكل واللعب ومداعبة أقرانه من صغار الماعز… وكان جديا ماعزيا أصيلا..
***
“سعدون”… أضحية العيد
كان “سعدون” قد ملأ الفراغ من حولي.. كان بالنسبة لي بمثابة مجلد ضخم مفتوح أمام عيني، يتكون من فصول متعددة.. كنت أقرأها على مهل ودون استعجال.. كنت في بعض الأحيان أخمن في مستقبل الجدي الضخم ماذا سيحدث له؟ وإلى متى سيستمر على رضاع حليب البقرة ؟.. إلا أن والدي استعجل الأحداث وقرر وضع نهاية مأساوية لهذا الموضوع.. فقرر بأن يقدم سعدون أو الجدي الحنيذ كأضحية خلال عيد الأضحى المبارك.. وقد أخبرني بذلك بيوم أو يومين قبل العيد.. ثرت في وجهه في البداية.. ولكن الحجج التي ساقها والمتعلقة بالخصوص بظروفنا المادية إذ أن أغلبية قطيعي الماعز والغنم اللذين كنا نرعى لم تكن في ملكيتنا.. إلى درجة أننا كنا لا نملك أضحية محترمة.. بالإضافة إلى الخطاب الديني الذي تذرع به، ومن بين ما جاء فيه تلك الصورة الجميلة التي رسمها لـ”سعدون” عندما يبعثه الله يوم القيامة بهيئة أجمل مما هو عليه، بقرنين من ذهب وبأظلاف من فضة براقة ومغطى بشعر من النور، غير الشعر الذي يكسوه.. إنه بمقدور الإنسان أن يحرم نفسه من أجر وثواب الأضحية ولكن لا يمكن له أن يحرم الأضحية مما كتب الله لها من فضائل.. خاصة وأنها بهيمة من بهائم الأنعام كتب الله عليها أن تذكى تقربا إلى الله.. كان أسلوب والدي مقنعا إلى حد ما.. فسكت على مضض.. وغادرت المنزل حتى لا أشاهد “سعدون” وهو يذبح.. صبرت رغم أنفي.. إلا أن حالتي النفسية سوف تتدهور عندما عدت إلى المنزل.. وعندما استنشقت رائحة “بولفاف” بل ورائحة اللحم عامة الذي امتنعت عن أكله.. مطبوخا كان أو مشويا أو مقليا وامتنعت عن تناول أي شيء فيه رائحة اللحم… وكان هذا الامتناع رغم أنفي.. وتحت ضغط وإصرار الأهل.. فقد حاولت مرارا الانصياع لرغبتهم.. إلا أني كلما اقتربت من اللحم أو كلما هممت بأكله كنت أصاب بحالة من الغثيان… لقد لازمتني هذه الحالة لعدة سنوات قاطعت خلالها اللحوم.. وكنت لا أستطيع تحمل روائح الشواء.. و كل ما يسبق أو يواكب عيد الأضحى المبارك من طقوس.. ويكفي أنني كنت أبتعد خلال هذا اليوم عن الديار حتى لا أشم الروائح..
***
عيد الأضحى بجبال سيدي بالقاسم
وإن كنت قد عدت إلى أكل اللحم بطريقة محتشمة، وخاصة لحم البقر، بعد الأزمة النفسية التي لا أذكر كيف تخلصت منها، فإني لم استطع إخفاء الحنين الذي كان يدفعني إلى اللجوء إلى قمم الجبال في مثل هذا اليوم العظيم،.. وهذه المرة ليس فرارا من التلوث البيئي فحسب، ولكن ومن تلوث نفسي عميق.. ولا أدل على ذلك من وصولي إلي جبال “سيدي بالقاسم” وتواجدي القريب جدا من قممها ولأول مرة منذ أن وصلت إلى جرادة.. وذلك خلال هذا اليوم الذي يخصصه الناس لزيارات بعضهم البعض لإحياء صلة الرحم.. بينما كنت أحيي هذا اليوم بطريقتي الخاصة، التي كانت عائلتي تعتقد أنها غريبة.. لكوني كنت أمضي اليوم بالجبال ولا أعود إلى المنزل إلا وقد قلت روائح الشواء..
لقد سلكت إلى قمة “جبال سيدي بالقاسم” طرقا ملتوية.. ولم أبلغ القمة إلا بعد الظهر.. كانت متعة لا تضاهيها متعة.. كنت أمد يدي لألمس السحاب أو الضباب المهرول في اتجاه الرياح… وأمد بصري في كل الاتجاهات.. لم أشعر كيف قطعت هذه المسافة الطويلة.. من دوار “أولاد أعمر” إلى “جبال سيدي بالقاسم”.. ويبدو أني قد انخرطت بكل كياني في إعادة شريط ذكريات حكاية مؤلمة هي حكاية الجدي “سعدون” التي بصمت طفولتي بألم كبير..
جبال “سيدي بالقاسم”.. اتخذت هذا الاسم، نسبة إلى ولي من أولياء الله الصالحين.. شريف من الشرفاء الأدارسة.. وهو القطب الرباني “سيدي بالقاسم أزروال” الذي اتخذ بهذه الجبال خلوة للتعبد في وقت من الأوقات عندما كان عائدا من تلمسان ونزل ضيفا على قبائل بني يعلى.. ويبدو أن هذه القبائل لا تزال وفية لهذا الولي الذي تقيم على شرفه موسما سنويا..
وعلى ذكر قبائل بني يعلى.. أذكر أني كنت قد قرأت في بعض كتب التاريخ أن أصلها من الجزائر من جبال “بني سنوس..” ومن رحم قبائل بني يعلى ستخرج مجموعة من القبائل الأخرى ومنها “قبائل أولاد أعمر”،…
كانت قمم الجبال شاسعة.. ولم أتمكن من معرفة أية قمة أو أية مغارة أو صخرة كانت تأوي “سيدي بالقاسم أزروال” أو صديقه “سيدي بوكلتوم” كان علي قبل المجيء إلى هنا أن أتزود بالمعلومات الكافية.. ورغم ذلك فقد كنت راضيا في قرارة نفسي عن هذه الرحلة الاستكشافية في مثل هذا الفصل… وفي مثل هذا الجو.. وفي مثل هذا اليوم.. يكفيني أن أولياء الله مروا من هنا.. ولا شك أنهم جلسوا هنا.. على هذه الصخور التي اتكأ عليها، أو على تلك التي سوف أجلس عليها.. واستنشقوا نفس الهواء الذي أستنشقه… ولا شك أني وضعت قدمي حيث وضعوا أقدامهم.. ولا شك أني سرت على خطاهم..
كان الهواء العذب يدغدغ رئتي.. وكانت قطرات الرذاذ المتراكمة على رأسي وعلى ملابسي تكاد تتحول إلى بلل خفيف.. ومع التخفيف من سرعة الحركة وسرعة المشي، والوقوف هنا وهناك لتأمل المناظر الرائعة واللوحات الطبيعية الخلابة.. والتسبيح لمبدعها وشكره على أن ساعدني حتى زرتها وتمتعت برؤية جمالها.. فإن حرارة جسمي بدأت تعرف انخفاضا متواصلا.. وبدأ العرق الذي تصبب من جسدي والذي كان قبل قليل يفور حرارة، يتحول شيئا فشيئا إلى بارد لا يحتمل.. أكملت دورتي حول قمة الجبل.. وبدأت في النزول عبر شبه أدراج طبيعية في اتجاه جرادة.. ورغم بعض الرياح الضعيفة فإن سحابة التلوث الرمادية كانت لا تزال جاثمة على صدري المدينتين جرادة وحاسي بلال،… ولعل في حالة الطقس التي تنبأ بهطول أمطار محتملة، ما يبشر بزوال بعض التلوث وبعض أوساخ بني أدم الذي أهداه الله كوكب الأرض الرائع الجميل، لينتفع به ويستغله بكل عقلانية، لا ليحمله ما لا طاقة له به ويملأه بشروره وجرائمه وآثامه…
كانت العودة من أعالي الجبال إلى سفوحها أهون من تسلقها، ولهذا فقد أطلقت ساقي للريح.. ولم أكن لأتوقف إلا لأمر مهم.. وقد أزيد من سرعتي لأمر أهم..وكذلك كان، عندما لاحظت ـ وأنا بصدد قطع وادي صغيرـ أن الأرض الرطبة علي حافتي الوادي الجاف، وسط الأشجار قد أصبحت مقلوبة رأسا على عقب.. وكنت أعلم أنها علامة على وجود الرتوت.. وبدلا من التوقف لبعض الوقت ولو من باب الفضول لمعرفة ما في الأمر.. فقد تملكتني حالة هستيرية من الفزع.. جعلتني أضاعف من سرعتي لأبتعد عن مناطق الخطر…
***
الخنزير..
ذكرني أثر الخنازير بجبال سيدي بالقاسم، بفاجعة يشيب لها الولدان ـ فاجعة مداهمة والدتي وأختي الصغيرة من طرف خنزير بري ـ وكنت قد أشرت إليها في الجزء الأول من “صدى السنين”.. ونظرا للأثر السلبي البليغ الذي خلفته هذه الحادثة في نفسي، فإني أستسمح القارئ الكريم من إعادة ذكرها، مع تفاصيل إضافية، ولعل في الإعادة إفادة…
في أوائل الستينات، وخلال يوم أحد من أيام نهاية فصل الربيع ،كنت أرعى الغنم خلال عطلتي الأسبوعية، ليتمكن أخي الأكبر الذي كان يرعاها، من مساعدة والدي في القيام بأشغال أخرى،.. كان اليوم مشمسا وجميلا.. وكان الكلأ متوفرا للماشية، وكانت جبال المعدن وتلاله عبارة عن زرابي مزركشة بمختلف الألوان الزاهية.. وفي الواقع لم تكن متابعتي وسهري على قطيع الغنم والماعز بالعمل المضني في مثل هذا اليوم الجميل، بقدر ما كانت متعة تنزلق خلالها النفس المهمومة لبعض الوقت خارج الحسابات المادية.. كنت غارقا في تأملاتي ولم يجعلني أعود للواقع إلا صراخ وعويل الساكنة.. ونباح الكلاب الذي لا يكاد يسمع خلال النهار.. ولم يكن بإمكاني من جبل “إش أزكاغ” خلف الضفة الشرقية لـ”وادي المعدن”، السماع أو الرؤية الواضحة، أو تبيان أسباب هذه الضجة.. التي دامت لأكثر من ساعتين وواكبها منظر الأهالي الذين خرجوا من منازلهم عن بكرة أبيهم،.. بل ومنهم من ذهب مسرعا في اتجاه المنطقة التي يوجد بها منزلنا.. لم أتمكن من استنتاج أي شيء.. فتمنيت خيرا وصبرت على مضض، خاصة وأن وقت منتصف النهار يكون قد مر بقليل،.. وحان الوقت لأعود بالقطيع إلى المنزل ليستريح قليلا ويجتر بعض ما جمعه في معدته طيلة هذا الصباح ولتتخلص الشياه كذلك مما جمعته من حليب في ضروعها.. لأنها سوف تحلب قبل أن تنطلق لترعى في جولتها المسائية…
لم أكد أقترب من المنزل حتى قابلتني أختي فاطمة التي زفت إلي النبأ الصاعقة وبدون مقدمة: والدتي وأختي عائشة تعرضتا لمداهمة مفاجئة من طرف خنزير بري الذي ألقى بهما أرضا ورفسهما، وخاصة والدتي.. وذلك لعدة مرات حتى سواها بالأرض..
وكانت النتيجة أن والدتي أصيبت بجروح خطيرة برأسها.. وكسور ورضوض كثيرة بمختلف أجزاء جسمها… أما أختي عائشة التي لا تتجاوز سنتها الأولى فقد أصيبت بجراح خطيرة برأسها.. وجراح مختلفة بجسدها.. الأم وبنتها في حالة نفسية صعبة..
كان الخنزير البري قد تعرض لطلقات نارية في إحدى الدواوير المجاورة فأصابته بجروح بليغة جعلته يفقد صوابه.. ويعلن الحرب على بني الإنسان الذين يصادفهم في طريقه إلى الغابة آلتي سلك إليها أقرب طريق وهي التي تعبر قرية “المعدن” من شرقها إلى غربها وتمر وسط المنازل… وكانت والدتي خارجة من بيت جارنا العجوز “بوجمعة” مع زوجته “تالخيرت” كانت قد حملت إليهما اللبن الطري كعادتها.. وكان صراخ التحذير يملأ الأرجاء من جار لجار حتى لا يستفز أحد الوحش المجروح وألا يقف بالمقربة منه أو في سبيله..
وقفت والدتي هنيهة وهي في طريق عودتها إلى منزلنا..وقفت لتسمع وتحاول فهم فحوى صراخ الجيران الذين كان بعضهم يشير إليها.. وفي هذا الوقت بالذات داهمها وحش ضخم بسرعة فائقة،وكأنه خرج لتوه من فوهة العدم، ورغم محاولتها الإمساك بابنتها فإن المداهمة كانت قوية ومفاجئة جعلت شقيقتي الصغيرة تطير من بين يديها لتقع على كومة أحجار بأرض صلبة.. بينما والدتي ألقت بها ضربة الخنزير المحمومة القوية إلى الوراء على بعد بضعة أمتار، ولم تكد تلمس الأرض حتى التحق بها ورفسها بأرجله الدامية.. وبأنيابه الضخمة، حركها يمنة ويسرة بعنف شديد، وليتغلغل من جراء ذلك أحد الأنياب في كتفها، والآخر سيفتح حفرا برأسها غير بعيد من عينها اليمنى. ورغم قوة الدفع المفاجئ، ورغم الألم الرهيب والدماء التي انبجست من جراحها، فقد راحت تحبو على الأرض تبحث عن طفلتها، ظنا منها أن الوحش قد غادر المكان.. إلا أن انتقامه من جنس بني آدم كان لا يزال مسلطا عليها.. وفي الوقت الذي مدت يدها لتجذب إليها رضيعتها، مد من جديد إليها رأسه ليرسم أخدودا على كتفها الآخر.. وأمام صياح الجيران.. ونباح الكلاب فقد ولى هاربا في اتجاه الغابة… تاركا خلفه لوحة حزينة رسمها بالرعب والدماء: قربت الأم إليها ابنتها باليد التي استطاعت تحريكها.. لكن البنت لم تتحرك.. اعتقدت أنها فارقت الحياة.. فدخلت هي الأخرى في شبه غيبوبة.. وصل الجيران إلى مكان الحادث وعلى رأسهم الفقير “بوجمعة” وزوجته.. كان المنظر مأساويا، وكان موشوما بدماء الأم وابنتها هذه الدماء التي تعانقت على صفحة الأرض التي رفضت امتصاصها احتجاجا على الفعلة الشنيعة للرت النتن.. ولا أحد كان يتصور أن والدتي وشقيقتي ستعيشان وتخرجان من هذه الحادثة سالمتين وتعودان إلى حياتهما الطبيعية… ولكن الله سلم، فله المنة وله الحمد وله الشكر..
***
“ســونة”
وقبل أن أبتعد عن عيد الأضحى كما يبتعد هو الآخر عن الذاكرة، بل ويتلاشى كما تتلاشى روائح الشواء وضباب الدخان المتصاعد من الأمكنة آلتي تقام خصيصا بهذه المناسبة لحرق شعر رؤوس الأضاحي وأرجلها.. بجوار الخيام التي تنصب وتخصص لبيع العلف والتبن والبرسيم اليابس، وسن السكاكين.. هذه الأنشطة التي تواكب العيد ويمتهنها الشباب العاطل، والتي تختفي فجأة بنهايته… أريد أن أشير إلى ظاهرة مثيرة تأتي هي الأخرى خلال أيام العيد ألا وهي الظاهرة التي تسمى عندنا بـ “سـونة”.. وتسمى في غرب المغرب بـ “بوبطاين” وفي جنوبه بـ “بُويلماون” وقد تكون معروفة في مناطق أخرى بأسماء مختلفة…
“سونة”… هذا الاسم الذي لا أعلم له مصدرا سواء في الأمازيغية المحلية أو العربية الدارجة… ولا أحد من معارفي يعلم من أين اشتق هذا الاسم.. الشيء الذي يفتح الباب على مصراعيه على كل التأويلات والتخمينات.. ويطلق هذا الاسم عمليا على شبه مسرحية جماعية يقوم بأدوارها الرجال والشباب خاصة في “أولاد أعمر” خلال أيام الاحتفال بمناسبة عيد الأضحى المبارك.. ويلبس أغلب الممثلين ملابس خشنة ورثة وقديمة.. ويلبسون من فوقها جلود الأضاحي آلتي سلخت حديثا… ربما ليس فقط لإثارة فضول المشاهدين فحسب بل ولمحاولة التعتيم على شخصية الممثل حتى لا يعرف باسمه الحقيقي.. إنها مسرحية أو تمثيلية هزلية في ظاهرها.. ولكن المتمعن في ما يقوله الممثلون، سيجد نفسه أمام دراما حقيقية، استعملت بذكاء ربما للعب على الحبلين.. وذلك لأن الممثلين ينطقون أو يحاولون النطق باللهجة اليهودية المغربية.. ويتكلمون باسم مجموعة من اليهود تعرضوا للاضطهاد من طرف أناس مجهولين.. سلبوهم أموالهم واستحيوا نساءهم وأشبعوهم ضربا.. ولهذا فهم في حاجة ماسة إلى مساعدة مادية.. ويبقى المجال مفتوحا أمام الممثلين لتصور أقسى ما يمكن أن يلحق باليهود من ضرب وشتم وسوء معاملة ومصادرة أموال، ليضفوا على محنة اليهود اللمسة الدرامية آلتي يستعطفون من خلالها القلوب الرحيمة لتتبرع عليهم بما كتب الله…
وإذا كان المجال الموضوعاتي قد حدد سلفا في قصة اليهود.. فإن عدد الممثلين لم يحدد، إذ يمكن لأي فرد يستطيع تقليد اللهجة اليهودية، أن يلبس الأسمال والجلود، ويطلق عنان خياله لينسج قصة خيالية يكون اليهود فيها ضحايا لعدو خيالي، ويحكي ما يريد بدون قيد ولا شرط.. وهكذا يمكن اختيار تاجر الثوب “هارون”، والطبيب الذي يجبر كسر العظام “موشي”، وبائع الحلي “ياهو”، بل وحتى الحاخام “رابين”… الخ هذه المجموعة مع ذويهم يمكن إدماجهم في أحداث قصة درامية.. كأن تكون المجموعة قاصدة السوق فتعرضت لهجوم من طرف قطاع الطرق الذين سلبوهم كل ما لديهم واستحيوا نساءهم..
ورغم نظرتنا المتحفظة للمرأة ـ أقصد أولاد أعمرـ فإن المهندس الثقافي الشعبي أبى إلا أن يسند للمرأة دورا هاما في شبه مسرح “التروبادور العمراوي” هذا، وذلك بخلق دور “عزونة” دور المرأة الوحيدة ضمن الممثلين.. والملاحظ أن كل الأسماء بقيت مبهمة، ويمكن تغييرها، إلا “عزونة” فهي ثابتة تماما كالمرأة.. يمكن أن تلعب دور الأخت أو دور الأم أو دور الزوجة أو دور البنت.. ولكنها تبقى دائما محتفظة باسمها “عزونة” آلتي يتقمص دورها الرجال… والتي يخاف الطاقم ككل من اختطافها من طرف أفراد مجموعة أخرى لـ “سونة” أخرى..
فقد تنطلق عدة فرق “سونة” من مختلف “الدواوير”.. وكل فرقة تعرض قصتها.. وفي كل فرقة نفس المسرحية وفي كل مسرحية نفس الأدوار تقريبا ولدى كل “سونة” “عزونة” المرأة. وبطبيعة الحال فإن المتقمص لدور “عزونة” لابد له من ارتداء لباس نسائي…
وخلال تواجدي بجرادة فقد قمت رفقة أبناء عمومتي محمد وشقيقه حميد وسعيد وثلة من أبناء “دوار أولاد اعمر” خلال عيد من أعياد الأضحى بتكوين فرقة “سونة” جبنا خلالها أزقة مدينة جرادة… وقد قمت بتمثيل دور المرأة “عزونة” لأني رفضت لباس الجلود والأسمال الرثة، وأصررت بالمقابل على المشاركة في الفرقة.. وهكذا فقد أبقيت علي كسوتي ولبست فوقها “الحايك”، اللباس الخارجي النسائي الذي كان لا يزال رائجا في منتصف الستينيات، قبل أن يحتل الجلباب مكانه… قطعنا خلال يومنا مسافة طويلة.. وقد طرقت بالمناسبة أبواب مساكن بعض أساتذتي الفرنسيين، الذين لم يتمكنوا من التعرف على وجهي الذي كان مغطى بالنقاب الأسود ولا تظهر مني إلا العينان،… رسمنا لأنفسنا مآسي كبيرة، كنا نسأل بها القلوب الطيبة.. لترأف لحالنا.. كنا نتسول بطريقة مقنعة.. لم ندخل الغناء في مسرحيتنا.. فقط لأن لا أحد منا يحسن الغناء.. بينما غالبا ما تلجأ بعض فرق “سونة” بإدخال آلات الموسيقى كـ”الغيطة” و”البندير” وكذلك الرقص في أنشطتها وذلك إمعانا منها في جذب المتفرج، وفي هذه الحالة فإن عزونة كانت تقوم بدور الراقصة… كانت نتيجة تسولنا حوالي خمسة دراهم لكل فرد، بالإضافة إلى كمية لا بأس بها من قطع السكر..
وفي عرف فرق “سونة” أنه إذا التقت فرقة بأخرى صدفة بالشارع، فإن الاحتكام يكون إلى المبارزة.. ليس إلى حد الموت.. ولكن إلى حد الاستسلام.. أي إلى أن تستسلم إحدى الفرقتين للأخرى.. وفي هذه الحالة فإن الفرقة المغلوبة تتنازل للفرقة الغالبة عنوة عن المرأة الوحيدة التي لديها : أي “عزونة”، التي يجب أن تفتديها بكل ما جمعت من تبرعات خلال يومها..
وفي آخر يومنا المضني كنا سنصطدم بفرقة “سونة” أخرى.. لولا حنكة شيخنا ابن عمي محمد، الذي أمرنا بالفرار…
وكما أسلفت في البداية.. فإن هذه الظاهرة غريبة عن مجتمع قبائل “أولاد أعمر” والله أعلم من أين تسربت إليه.. لقد كدت أن أستسلم خلال تأملي لهذه الظاهرة بأنها النسخة العمراوية لشعراء وفرسان “التروبادور” الذين ظهروا في القرون الوسطى في جنوب فرنسا تحت تأثير الأدب العربي الأندلسي وكانوا يتجولون من منطقة إلى أخرى، ويقرعون أبواب القصور والمنازل ليتغنوا بالحب وبالشجاعة ويقرءون أشعارهم التي عرفت بالعفة والشهامة على غرار الشعر العذري الذي يزخر به الأدب العربي.. إلا أن فرقة “سونة” لا علاقة لها حتى بالشعر العامي المغربي فما بالك بالفنون الأدبية الراقية.. والذي يزيد من حيرة الباحث أكثر هو التصاق هذه الظاهرة باللهجة اليهودية… وبقصة اضطهاد اليهود… فهل ستكون قصة “الهولوكوست” أو المحرقة قد قطعت أميالا وأميالا وتلونت عبر الأزمنة لتحل بـ”أولاد أعمر” الهادئة المسالمة خلال العيد لتلبس جلود الأضاحي وتتكلم باللهجة اليهودية.. أفلا تكون قصة “سونة” هذه سلاحا ذي حدين..؟ الأمر محير فعلا..؟؟