أطفال صغار يقضون عطلتهم الصيفة في ممارسة أعمال شاقة بأسواق مدن الجهة الشرقية لضمان لقمة عيش أسرهم
عبدالقادر كتـــرة
انقضّ الطفل سعيد الذي لم يكن يتجاوز عمره العشرة سنوات على غريمه الذي يكبره بسنتين أو ثلاثة، ودخل معه في تشابك بالأيدي وتبادل باللكمات بقوة وقسوة وحقد ويسبقه لبيع أكياس البلاستيك للمتبضعين من المواطنين بالسوق الأسبوعية بحي كولوش بمدينة وجدة، قبل أن يتدخل أحد المواطنين لتفريقهما وفض النزاع…
غير بعيد عنهما، توقف طفلان مُتْعبان من دافعي عرابات حمل بضائع المواطنين،عادل ويونس، ليأخذا دقائق من الراحة لاسترداد أنفاسهما قبل الإنطلاق وراء المتبضعين لكسب دراهم قليلة تفرح الأسر المعوزة وتسد رمق أفواه أفرادها المتعددين… بكل براءة وعفوية كأنه متيقن من قدر وضعية أسرته وقدر وجوده بالسوق بدل مكان آخر، بل كان يتحدث مؤمنا بحتمية عيشه وظروف حياته القاسية والسوداء سواد أكياس البلاستيك التي كان يتأبطها…
آلاف الأطفال الصغار مثل عمر وعزيزة وعادل ويونس وحورية وحسن وغيرهم…يملؤون أسواق وجدة المدينة الألفية وأسواق مدن الجهة الشرقية ولا شك أسواق المدن المغربية، اليومية منها والأسبوعية، ومفترقات الطرقات ويزورون المقاهي، يصرخون ويصيحون ويقاتلون ويحاربون ويناضلون ويتشاجرون، خلال ممارسة جميع الأنشطة التي كان يمارسها الكبار منذ سنوات خلت، يطوفون بين الدكاكين والخيام المنصوبة بالسوق وأكوام البضائع المعروضة على الأرض، في سباق محموم بين الأقران للظفر ب20 سنتيم أو 50سنيتم أو درهم أو أكثر أو أقل، أنشطة معيشية وحيوية كبيع أكياس البلاستيك وحمل قفف المتبضعين ودفع العربات وجرّها وبيع “كلينيكس” وبيع الحلوى وقطع من الشكولاطة (هو أقرب إلى التسول) وكتيبات حول كيفية الذكر أو الوضوء…، أو الصراخ والصياح مناداة على الزبائن طيلة اليوم و…و…في جميع الفصول، تحت رحمة الأمطار والبرد القارس أو تحت أشعة الشمس الحارقة ولهيبها…
أنشطة وأعمال تصنف كلها في خانة الأشغال الشاقة التي تتجاوز طاقة تلك الأجساد الفتية والهشة والرهيفة العاجزة عن تحَمُّل ما أُجبروا على تَحمُّله… أطفال صغار لا حق له في أن يصرحوا بمعاناتهم ولا خوفهم من قسوة غابات الأسواق وساكنيها من الوحوش الأدمية وحتى الحويانية من الكلاب الضالة كبارها وصغارها، المدمنين منهم على الخمور وعلى أنواع المخدرات المعروفة والمجهولة والمتسكعين واللصوص والمكبوتين وأصحاب السوابق والقتلة…
أطفال مجبرون على قضاء عطلهم سواء الصيفة أو الشتوية، إن كانت لهم عطل، في خوض حرب شرسة، وكل وسائل الدفاع والهجوم مسموح بها، حين يتعرضون لشتى أنواع الاعتداءات اللفظية والبدنية وحتى الجنسية، فيها البقاء للأقوى…
أطفال صغار يوضعون في مواقف وظروف تحتم عليهم سلوكات شتى وسبل الدفاع للنجاة والمحافظة على سلعهم مورد رزق أسرهم وحفظ كرامتهم ، يَضربون ويُضربون، يعتدون على غيرهم من أقرانهم ويعتدى عليهم، يسبّون ويشتمون ويتلقون من السب والشتم والقذف ، فينهلون من قواميس السوق الرديء من المفردات والعبارات النابية والذميمة والمنحطة ومن الأساليب اللغوية المعروفة والمختلقة، ويتسلحون بما يملكون من الحجر والعصي وحتى السكاكين الصغيرة…
أطفال وعوا وعاشوا الفقر والحرمان والحاجة والعجز والجوع والعطش والحرَّ والقرَّ وكان لا بدّ أن تقسى قلوبهم وتشحد أظافرهم وتتسلط ألسنتهم وتتقوى حواسهم وغرائزهم وتتوحش سلوكاتهم… في الوقت الذي يوجد أقرانهم المحظوظون وربما زملاؤهم في الفصل على الشواطئ والمخيمات والمدن السياحية المغربية بل وفي بلدان أوربا…
وفي الوقت الذي يركب أطفال الأسواق الحمير والعربات المجرورة وكراريسهم يحملون عليها بضائع المواطنين ويجرون ما ثقل عليهم، يمتطي الأطفال الميسورون السيارات والدراجات والقطارات والطائرات والدراجات النارية البرية والبحرية ويحلقون في السماء وعلى الأمواج…وفي الوقت الذي تُجلد فيه أجساد هؤلاء الصغار المحرومين في الأسواق والأزقة والساحات، تُدهن أجساد الصغار المحظوظين الممددة فوق الزرابي أو السجادات، تحت أشعة الشمس على رمال الشواطئ الذهبية بأنواع “الكريمات” والزيوت ضد لفحات شمس البحر الحارقة مع توفر الشمسيات والمبردات والمثلجات والسندويتشات…
“كم عدد هؤلاء الأطفال؟ وكم منهم يلج المدرسة؟ وكم من الأسر تستغل أطفالها من الذكور ومن الفتيات، أو قل كم الأسر هي مجبرة على ذلك؟ لا أحد يعلم . لكن حسب ما يشهده الواقع هناك الآلاف من هؤلاء الأطفال الصغار والقاصرين، قد يتجاوز العدد الألف بمدينة وجدة البالغ عدد سكانها حوالي النصف مليون نسمة، ويمكن أن تقيس العدد بعدد الأسر الفقيرة وتنجز عملية الضرب في 4 أطفال أو خمسة…
يرى الباحثون أن تشغيل الأطفال واستغلالهم يعد خرقا للمواثيق الدولية والأعراف الإنسانية والشريعة الإنسانية رغم أنه يمكن تفهم مبررات الفقر والعوز، لكن واجب الدولة أن تحمي الطفل الذي كان من المفروض ان يكون في الدراسة أو يلعب مع أقرانه في دور فضاءات الأطفال والشباب، أو يقضي عطلته في المخيمات. ويضيف أن هذا الواقع المؤلم لمن شانه أن يخلق من هؤلاء الأطفال أشخاصا متوحشين ناقمين على المجتمع كارهين له حاملين بذور الانتقام بحكم نشأتهم ونموهم في أوساط وظروف متوحشة قاسية وصعبة…
لقد أصبح الكل يردد أن تشغيل الأطفال يعد خرقا للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وضدا على حقوق الطفل الذي وقعت عليها بلدان العالم من ضمنها المغرب، من حماية لكرامة الطفل إلى واجب تربيته وتعليمه إلى تحريم تشغيله وتجريم مشغليه. ولم يستطع المغرب القضاء على أشكال تشغيل الأطفال لأن دواعيه متجذرة في واقع الأسر المعوزة المحرومة ووضعيتهم المزرية المنخورة بالبطالة والمرض وانسداد آفاق مستقبل أبنائهم من أطفال وشبان وحتى كبار بسبب السياسات المتبعة التي نهجت الإقصاء والتهميش…
إذن سيبقى واقع هؤلاء الأطفال حقيقة مُرًّة وحياة ملغومة ما دامت وضعية أسرهم غارقة في الفقر لانعدام فرص الشغل لأولياء أمرهم وبالتالي عجزهم عن تأمين أبسط ظروف العيش الكريم وضمان حقوقهم وكرامتهم التي يكفلها الدستور قبلهم إلى جانب حقوق الكبار… إذن سيبقى هؤلاء الأطفال رهينة “جحيم” واقعهم ما دامت أسرهم رهائن الحرمان والفاقة والجهل والتهميش…