فرنسا تعترف…. لكن لا تعتذر
فؤاد بوعلي
متى ستعتذر فرنسا عن ماضيها الاستعماري؟ أو بالأصح هل تستطيع الاعتذار عن هذا الماضي المستمر؟ قُبلة الرئيس التونسي قيس سعيد على كتف ماكرون كافية لتحديد الإجابات الممكنة ووجهة الولاءات.
فلم تستوعب النخبة الفرنسية، وملحقاتُها في العالم العربي، ضرورة اعتذار الدولة الفرنسية عن جرائمها الوحشية في شعوب المغرب العربي لماضوية الحدث وعدم القدرة على استيعاب رمزيته بالنسبة لمنطقة مازالت تجتر ندوب القهر والتشظي الاستعماريين. فقد أثار تقرير بنيامين ستورا عن الاستعمار والحرب الجزائرية، الذي كلفه به الرئيس الفرنسي حين حلول الذكرى الستين للحرب، وتم تسليمه إلى الإيليزيه في 20 يناير 2021، العديد من ردود الفعل الغاضبة في الشارع الجزائري. حيث دعا التقرير إلى سلسلة من الإجراءات الملموسة أو الرمزية، لكنه لا يوصي بتقديم اعتذار للجزائر. فالموقف الرسمي الجديد لفرنسا، إذن ، هو الاعتراف بالأخطاء أو الجرائم دون الاعتذار عنها. والبادي من خلال النقاشات الجارية في الصالونات والمنابر الإعلامية الفرنسية أن الأمر لا يرتبط بالعلاقة مع الجزائر بقدر ما هو إشكال فرنسي داخلي. فالدولة التي بنت مجدها على أوهام القوة الإمبراطورية وصنعت مخيالا مجتمعيا مبررا لكل الجرائم باعتبارها ضرورة لنشر المدنية بل وأسست إيديولوجيتها على “ترميز” دعاة الاستعباد والميز العنصري وجدت نفسها أمام “ماض” يتحكم على الدوام في تشكيل فرنسا الحديثة. حيث سردية الاستعمار لا تُروى بالطريقة نفسها في كل الجهات والأجيال والنخب. لذا حاول تقرير ستورا الخروج بمجموعة من المقترحات التي تنقذ وجه الإيليزيه من حرج المساءلة والاصطفاف المجتمعي دون الإخلال بتصريحات الرئيس السابقة، حين كان مرشحا للرئاسة، من بينها إنشاء لجنة “الذاكرة والحقيقة” التي ستكون “لتحفيز المبادرات المشتركة بين فرنسا والجزائر حول قضايا الذاكرة”، ومشاركة الأرشيف، وإنشاء أماكن للذاكرة، واعتراف فرنسا باغتيال المحامي والناشط السياسي علي بومنجل في عام 1957 ، ونشر دليل للجزائريين والأوروبيين الذين اختفوا خلال الحرب. هي حلول تقنية يراد منها التغطية على الحقيقة، حاول الرئيس الفرنسي تسويقها والبحث مع نظرائه المغاربيين إمكانية أجرأتها وتنزيلها. والواقع أن ما يجري حاليا هو محاولة للهروب إلى الأمام، لأن السيد الفرنسي غير مقتنع بأن هناك جريمة ضد الإنسانية ارتكبت وينبغي الاعتراف والاعتذار عنها، كما فعلت ألمانيا اتجاهها، وكما فعلت فرنسا نفسها في اعتذارها لليهود. “فالجزائر مأساة فرنسية لا يزال الكثير يرفضون مواجهتها” كما قال أحد الإعلاميين. مأساة تجترها في بحثها عن صناعة صورة الحداثة والعدالة: 132 سنة من الاستعمار، مذابح سطيف في 8 مايو 1945، 40 ألف قتيل حسب الجزائريين، ما بين 2000 و20000 حسب المؤرخين الفرنسيين، قمع رهيب للمظاهرات الأولى من أجل الاستقلال إضافة إلى التعذيب أثناء الحرب. ويرجع تعنت الإدارة الفرنسية، ليس للصراع الداخلي حول الذاكرة فقط، وإنما لأسباب متعددة. فهناك أولا غياب التنسيق بين الضحايا. فقضية الذاكرة الاستعمارية لا تخص الجزائر وحدها، بل هي قضية مغاربية بامتياز. ويكفي ان نذكر ببعض الماضي المغربي الذي بدأ منذ قصف البحرية الفرنسية لمدينة البيضاء في غشت 1907، الذي أدى إلى استشهاد أزيد من1500 مغربي، واستمر مع عمليات القتل الممنهجة، من نفي واعتقال وتعذيب، من ذلك ما شهدته مناطق زيان وبني خيران والسماعلة وقصبة تادلة والبروج ووادي أم الربيع ووادي العبيد وخنيفرة. ويكفينا الإشارة في هذا المقام إلى أحداث 7 من أبريل 1947، حيث أقدمت قوات الاحتلال الفرنسي على اقتراف مجزرة رهيبة ضد ساكني الدار البيضاء، عندما خرجوا إلى الشارع لتأكيد مطالب المغرب المشروعة في نيل حريته. لكن هذه الذاكرة التي يصر البعض هنا، قبل هناك، على محوها وإقبارها دليل على بشاعة الجرم الاستعماري. فهل ستستيقظ الدولة عندنا للمطالبة باعتذار فرنسي؟ وهل سنظل نتحدث عن “ذاكرات” بدل ذاكرة مشتركة تفترض التنسيق بين الأقطار الثلاثة في مواجهة التعنت الفرنسي؟ . فأحداث كثيرة ورهيبة عاشتها المنطقة تفترض تنسيق الجهود من أجل نيل الحق في الذاكرة. لأن جرائم الماضي مازالت تحكم حاضرنا ومستقبلنا عبر ندوب التشظي الجغرافي والهوياتي، وهيمنة وكلاء المستعمر على القرارين السياسي والثقافي لإدامة الحضور والسيادة. لذا فالاعتذار، وليس الاعتراف، هو عنوان انتصار الشعوب في معركة التحرير المستمرة.