ذاكرة مدينة وجدة المعرفية: الأستاذ سيدي مصطفى غانم يرحمه الله – الحلقة 101
بدر المقري
لا أجد في ما أدبج به شهادتي في حق الأستاذ مصطفى غانم يرحمه الله أحسن من التنبيه على أنه لم يحد عن إحساسي بتة أنه من أساتيذي الأقران. ولعل أحدهم يعترض قائلا: و كيف يكون من أساتيذك و أقرانك في الآن ذاته و هو ممن تقاطعت معه سبل طلبك العلم في مرحلة الطلب الأولى في الثانوية ثم في الجامعة، رغم تباين الاهتمامات المعرفية؟
ليس ذاك هو ما أقصد إليه، بل قصدي إلى أن عروة المحبة الوثقى لم تنفصم بيننا رغم أمواج الحياة العاتية، منذ رغب يرحمه الله و نحن لا نزال في بداية مرحلة الطلب بالجامعة في أن يهيء الامتحانات في دارنا، رغم أن لكل واحد منا انتسابه المعرفي. و مما لا أنساه قوله لي بلسان عربي فصيح: (سيدي بدر…كأنك كَرِشِي وعَيْبَتِي)، و راح يرحمه الله يشرح لي حديث الأنصار رضي الله عنهم.
كان ذلك سنة 1982 أو 1983…
إن ما ألمح إليه هو أن الأوج في طلب العلم و نشره إنما هو القلب و الوجدان في صفائهما، و هو ما لمسته من كثب في الأستاذ مصطفى غانم مذ عرفته، و لا نزكي في الله أحدا.
و شاء الله بعد العودة من باريس أن تتوطد علائقي الوجدانية بالأستاذ مصطفى غانم من خلال بوابة العلم و المعرفة. فقد تقوت دعائم ما نحلم به معرفيا أيا كان التباين في إجالة النظر و إعمال الفكر. و لعل البنية العميقة لما اشتركنا فيه هي أن المفضى في أي كيان معرفي إلى بناء مشروع معرفي. و مما اشتركت فيه مع الأستاذ مصطفى غانم يرحمه الله، شغفا بتراث المغاربة و الأندلسيين على شرط اعتبار ذلك التراث منظومة مفتوحة من القيم. فليس هذا التراث مواتا، إلا لمن كان منهجه غير لاحب. ولما ألح علي الأستاذ مصطفى غانم الجلوس بين يدي العلامة المؤرخ سيدي محمد المنوني يرحمه الله (1915-1999)، اقتبست من أنواره ما لا أزال مبشرا به إلى آخر رمق من حياتي: تكامل حقول المعرفة. فلا أزال مسترشدا بقول القدماء في ابن رشد الأندلسي الحفيد: (كان يفزع إلى فتواه في الطب، كما يفزع إلى فتواه في الفقه).
وأما الأستاذ مصطفى غانم يرحمه الله فإن ما ابتلي به من علل في حياته، لم يزده إلا سعيا لبلوغ و درك شغف بعلوم الحديث النبوي انتسابا و تبركا. وكلما جالسته في داره، التي كانت لكرم أهلها أشبه بالزاوية، إلا و حصلت في نفسي أنه محقوق بقول ابن دريد الأزدي (توفي سنة 321 هـ):
أهلا و سهلا بالذين أحبهم ☆ و أودهم في الله ذي الآلاء
أهلا بقوم صالحين ذوي تقى ☆ خير الرجال و زين كل ملاء
يسعون في طلب الحديث بعفة ☆ و سكينة و توقر و حياء
لهم المهابة و الجلالة و النهى ☆ و فضائل جلت عن الإحصاء
و مداد ما تجري به أقلامهم ☆ أزكى و أطهر من دم الشهداء
ومما لا أنساه من لطائف الأستاذ مصطفى غانم يرحمه الله أنه أهداني في ليلة زفافي شرحا لأحد علماء شنقيط على صحيح البخاري، زيادة في تحري البركة لي. و لما كان من عادتي إذا زرته في بيته العامر أن أقبل ما بين عينيه، فإنه كان يبادرني قائلا: (في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل). و لما كان يرحمه الله معتقدا في تراث آل المقري المعرفي، فإنه كان يلمح أحيانا إلى كتاب ابن مرزوق التلمساني الحفيد (توفي سنة 842 هـ): (النور البدري في التعريف بالفقيه المقري).
سيدي و أستاذي مصطفى غانم: لعل لي فسحة من خلال السلام عليك و أنت في البرزخ، في أن أردد مع الفيروزآبادي (توفي سنة 817 هـ):
أخلانا الأماجد إن رحلتم ☆ و لم ترعوا لنا عهدا و إلا
نودعكم و نودعكم قلوبا ☆ لعل الله يجمعنا و إلا