بين “اندرومان” لعز العرب و”ليلة القدر” لبنجلون
أحمد الجبلي
عندما أرسل لي أخي وصديقي الفنان والمصور المحترف الأستاذ بوعياد إيموناشن ملصق فيلم “اندرومان” أرفق معه تعقيبا يقول لي فيه: “هذا الفيلم سيفاجئك”.
وعندما شاهدت الفيلم كدت لا أصدق أنه فيلم مغربي وأن هؤلاء الممثلين الذين يتحركون فيه ببراعة واحترافية هم مغاربة نسجوا بحركاتهم وسكناتهم وتعايشهم داخل إحدى قرى الأطلس، بولمان تحديدات، لوحة فنية أقل ما يقال عنها أنها أيقونة قد أبدع فيها المخرج المغربي المتميز عز العرب العلوي.
“كل إناء بما فيه ينضح”، وكل كاتب يترك بصمة فكره ومواقفه في روايته، إن كان أديبا، وفي السيناريو، إن كان كاتبا سينمائيا.
عندما شاهدت فيلم أندرومان، وفهمت مضمونه الحساس، في شقيه: الشق الذي يتعلق بالمرأة في مجتمع ذكوري لا يرحم، يقدس الموروث الثقافي التقليدي بشكل أعمى وبعيدا عن أي قانون أو شرع، والشق الذي يتعلق بالإنسان المغربي المهمش الذي لا يملك أي حق من حقوقه غير بطاقة التعريف الوطنية ودفتر الحالة المدنية.
فالموضوع الرئيس جعلني أتذكر رواية للطاهر بنجلون “ليلة القدر” وكلاهما تناول نفس الموضوع: “المرأة التي فرض عليها التدثر في لباس الرجل نزولا عند رغبة أب مجنون خاضع لقناعات معينة”.
إن فيلم أندرومان ورواية ليلة القدر في بدايتهما يكادان يلتقيان في الجهل الذكوري والتسلط الأبوي، كما يلتقيان في تحرر وهروب الأنثى/ الذكر أو الكائن الممسوخ كما يحلو لبنجلون أن يسميه.
ولكن يختلفان اختلافات جدرية في تفاصيل وسردية القصة والتي تؤطر المكنون الداخي لكل من “زهرة” و”أندرومان” في تداخل تتصارع فيه الأنوثة/الأصل والذكورة/ التقليد الإجباري.
وتتمايز الدروب والاختيارات وفق ثقافة كل مخرج ومرجعيته التي يؤمن بها ويحتكم إليها، فيختار بنجلون ما يتماشى وفرنكفونيته التي تختزل التحرر الأنثوي في الجنس واللوحات المخزية الفاضحة وفي قبح شنيع سخرية بالدين مصدر القيم والأخلاق والضوابط، فجعل من زهرة زانية لا تدرك أنوتثها إلا بلمسات الرجال وسيلان مائهم على فخضها،
في الوقت الذي ينحى عز العرب، كابن مغربي أصيل لمنطقة الراشيدية الأخلاق..الراشيدية الدين..الراشيدية القيم، فيجعل الفتاة تعبر عن أنوثتها من خلال لوحات فنية غير مخجلة، في قالب من الأخلاق والقيم الأصيلة والمتجذرة في كينونة المغاربة. فأن تطلق شعرها وتسدل لباسا أنثويا على جسدها، أو أن تتلمس وجهها بعدما تنظر إليه في بركة ماء صافية أو في المرآة، أو بعدما تضع شقيقتها، وهي تمرح مرحا طفوليا بريئا، لونا في شفتيها…كل هي المشاهد كانت كافية وزيادة لتعطي للمشاهد المعنى المطلوب ليجد نفسه لا شعوريا متعاطفا مع “أندرومان” التي تعيش عذابا وجحيما آت من عقلية قروسطوية ذكورية تقدس الموروث الثقافي والعرف وتضعهما في مقام الشرع والقانون.
تنتهي فتاة بنجلون بالوقوع في جريمة قتل عمها وبالتالي الدخول إلى السجن لأزيد من 15 سنة، وداخل السجن ستتعرض لعملية قيصرية انتقامية شنيعة من أخواتها بتواطئ مع حارسات المعتقل. ولكن في أنرومان بكل عفة وطهارة ونقاوة السريرة ستحقق الفتاة انتصارا باهرا له قيمته على مستوى العرف والتقاليد نفسها التي جعلت منها ذكرا رغما عن إرادتها، فرجحت بانتصارها وتحقيق ذاتها كفة التحكيم لصالح المرأة وتثبيت حقها في الإرث والأراضي السلالية.
ففي ليلة القدر تتنكر زهرة لأبيها وأمها كرد فعل لما مسها وانتصارا للذات التي تم العبث بها، وهذا لا نجده إلا في المجتمع الغربي الذي يعتبر بنجلون أحد المعجبين به. وفي أندرومان تأبى الفتاة المساس بأبيها، ولا تسمح لأمحند اليتيم أن يذكره بسوء، كما أنها فضلت الصبر على ما هي فيه ولم ترد أن توكل أمرها لرجال القرية خشية أن يفتضح أمر أبيها، وهذا سلوك مغربي لا تقوم به سوى الفتاة المغربية الأصيلة التي تتحمل أي شيء إلا أن يمس السوء أباها رغم جهله وظلمه لها.
عندما شاهدت الفيلم، ظللت أفكر فيه لأزيد من شهر، وفي موضوعه والطرق الفنية الباهرة التي اعتمدها المخرج إخراجا وتصويرا وموسيقى وتوضيبا، رغم صعوبة المكان، وضعف الإمكانيات، وهزالة المبلغ المخصص له، وفي الأخير لم يكن في الأمر بد من أن أتصل بأخي وصديقي بوعياد إيموناشن لأخبره بقولي: ” فعلا..لقد فاجأني الفيلم”.