اشكالية الظاهرة الضريبية
الجيلالي شبيه
سنحاول في هذا المقال معالجة إشكالية الضريبة في مقاربة شمولية تركيبية جيدة تتضمن الظاهرة الضريبية بكافة أبعادها: التاريخية والحالية، المقارنة والوطنية، التشريعية والتنظيمية، الإدارية والمالية، السياسية والقانونية، الاقتصادية والاجتماعية، المركزية والترابية، التنموية والبيئية، الوقائية والجزرية، التقليدية والإلكترونية···
صحيح، إن الضريبة، كما جاء على لسان العديد من الباحثين والمختصين، من الخبراء والممارسين، الذين ساهموا بأعمالهم القيمة تاريخيا وحاليا في هذا المجال، أرضية هذا المقال، هي فريضة مالية، بالمفهوم الواسع، أي عينية كذلك، وحتى كلفة، بالرجوع الى التاريخ، تقتطع من الذمة المالية للأشخاص، الذاتية والاعتبارية، الداخلية والخارجية، بهدف، مبدئيا، تمويل التكاليف التي يفرضها تنظيم الجماعة وتسيير شؤونها (الجيلالي شبيه، الجوانب المالية للامركزية الترابية بالمغرب، فرنسية، 1997) ·
غير أن هذه الفريضة بعد ما كانت في بداية الدولة، دينية، شرعية، خفيفة، محدودة ومحتملة (ابن خلدون، 1378)، أو محصورة في وظائف السيادة (أدام سميث، 1776)، وفي إطار احتكار العنف المشروع (فيبر، 1921)، أصبحت، مع تحول الدولة أو تطورها، مدنية، علمانية، براكماتيكية، متعددة الأنواع والأشكال، وأذاة لتدخل الدولة (ابن خلدون، 1378- جيز، 1922- كينز، 1936- كالدور، 1955- ميسكراف، 1959)· تمس دخول الأشخاص، أرباحهم، ربائحهم، رؤوس أموالهم ومصاريفهم بشتى أنواعها (نيمو، 2017)، لتتراكم، مع تعاقب الزمن، الواحدة تلو الأخرى، في الظروف العادية وفي الحالات الاستثنائية، كما هو الشأن حاليا بسبب جائحة كورونا (القوانين المالية السنوية، الجيلالي شبيه، مصادر التمويل العمومي، 2020)·
فأضحت ليس فقط أداة تدخل الدولة والجماعات الترابية ومؤسسات وهيئات أخرى في الاقتصاد الوطني، الجهوي، أو المحلي بامتياز، بل الوسيلة الوحيدة، لجل دول العالم، لتغطية مصاريفها واحتياجاتها· وظلت وستظل، إلى أن يحين البديل في الدول المسؤولة والغنية بمواردها البشرية والطبيعية، الأداة المرنة، الفعالة والسهلة، في يد العديد من الدول والمنظمات الحكومية التي صار من واجبها توفير الإيرادات المالية، ورصدها للاستثمار والتنمية، وتوجيه مختلف الأنشطة الاقتصادية (بالتضريب، بالتخفيف أو بالإعفاء)، وإعادة توزيع الثروة، بالضريبة كذلك، إلى جانب عوامل أخرى، للتقليص من التفاوتات في صفوف مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية والسوسيومهنية···(ميسكراف، 1959)· لكن للأسف كثيرة هي الدول الضريبية التي لم تفلح في الوصول الى هذا المبتغى الإنساني النبيل، وضمان العيش الكريم، والتخفيف من عبء الضغط الضريبي وكثرة الضرائب وتنوع أسعارها التي تثقل منذ سنين كاهل مؤديها، بدون مقابل حق (كوبو، 2015)· بل إن العلاقة المتغطرسة والغير المتكافئة تماما بين مجموع الاقتطاعات الإجبارية في الدولة، وحجم وجودة المرافق والخدمات العمومية المقدمة من طرفها يظهر لنا العكس بكل وضوح·
كما إن الأنظمة الضريبية بجميع مكوناتها المؤسساتية والإجرائية والتقنية والاقتصادية والاجتماعية امتداد، لا محال، للأنظمة السياسية والإدارية القائمة في المجتمع بكل إجابياتها وسلبياتها· وعلى هذا الأساس، فقد تكون الضريبة، في أغلب الأحيان، إن لم نقل دائما، انعكاسا واضحا لطبيعة الدولة ومؤسساتها والمجتمع والأفراد: فقد تخدم المصالح الجماعية والصالح العام والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، في الدول الديمقراطية الحقة، كما قد تخدم تماما المصالح الخاصة لفئات معينة، بكل مقوماتها ومظاهرها السياسية والايديولوجية والاقتصادية والاجتماعية، في الدول ضعيفة أو منعدمة الديمقراطية·
فالضريبة في الحقيقة التجريبية وفي الواقع السوسيواقتصادي ليست المصدر الوحيد والفعال لتمويل ميزانيات الدول، وليست الدول كلها ترتكز في تمويل اقتصادها على الفريضة الضريبية، بل هناك مصادر مالية أخرى ذات أهمية بالغة، ودول عديدة غير ضريبية· فمن حيث مصادر التمويل العمومي نجد الموارد والكفاءات البشرية لتدبير الشأن العام الوطني والترابي والمرفقي، بحيث إن أهمية جودة التدبير، تمثل مصدرا ماليا أساسيا في كل دولة واعية بهذا المورد الفعال· كما إن استثمار واستغلال الخيرات والثروات الطبيعية وغير الطبيعية، الفلاحية والمنجمية والتحويلية والطاقية والصناعية والخدماتية والسياحية، الخاضعة لقانون العرض والطلب، مقابل ثمن عادل، موردا ثانيا هاما لا نقاش فيه· ناهيك عن تشجيع الاقتراضات المتمرة والاستثمارية، داخليا وخارجيا، كمورد ثالث، من جهة، والحث أو التحفيز الواعي والمسؤول، من جهة أخرى، على العطاءات والإمدادات والتبرعات والهبات والوصايا، كمورد رابع، من الأشخاص الميسورة، الطبيعية والمعنوية، الوطنية والدولية، مصدرين من مصادر التمويل لا يستهان بهما·
ومن حيث الدول التي ينبني اقتصادها على موارد غير ضريبية نجد خاصة الدول المنجمية والفلاحية والساحلية التي تستثمر وتستغل ثرواتها (بترول، غاز، دهب، ماس، فضة، فوسفاط، أورانيوم، حديد، كاكاو، قهوة، موز، سمك، نقل···)· ونلاحظ ثانيا الفراديس الضريبية، أي الدول التي ينبني اقتصادها على ضرائب ضعيفة للغاية أو منعدمة لجلب رؤوس الأموال الأجنبية واستثمارها واستغلالها عقلانيا داخل أقاليمها· ثم نسجل ثالثا فئة أخرى من الدول التي يرتكز اقتصادها أساسا على طاقاتها ومواردها البشرية ذات الكفاءات والمسؤولية والنزاهة والأخلاق لتدبير شؤونها ومؤسساتها تدبيرا كيفيا، سليما وفعالا، قد يساهم، (هذا التدبير)، بما يعادل نسبة 50 بالمئة من الموارد والإمكانيات الموجودة (الجيلالي شبيه، مصادر التمويل العمومي، آنف الذكر)·
ومن خصائص ونجاعة جودة التدبير كذلك نلاحظ أن مصدر التمويل العمومي القائم على الفريضة الضريبية هو ذاته في أمس الحاجة إلى تجويده وترشيده وعقلانيته، بما يعادل 50 بالمئة مما هو عليه الآن، لا من ناحية علاقة الفاعلين بعضهم البعض (حكومة، برلمان، إدارة، ملزم···)، ولا من ناحية تقنية التضريب (وعاء، تصفية، تحصيل، إجراءات، مراقبة، منازعات···)، ولا من ناحية الاحتواء الضريبي لجميع القطاعات الاقتصادية (الأول والثاني والثالث والرابع)، ولا من ناحية المشروعية الضريبية وتهميش المعني بالأمر بالدرجة الأولى، وخاصة المكلف المرغم، الذي أصبح الآن يتحمل السياسة الضريبية بكل اختلالاتها أكثر مما يساهم في صنعها·
وأضحى هذا التناقض بين الضغط الضريبي الإلزامي المبرمج ووظائف الضريبة المشروعة (الخدمات والمرافق العمومية) من جهة، وبين مصدر التمويل الوحيد (الضرائب) وكثرة المصادر في الواقع (جودة التدبير، استثمار واستغلال وبيع الخيرات الوطنية، اقتراضات استثمارية، متمرة، هبات ووصايا مواطنة من كبرى المقاولات والأشخاص الميسورة) جليا، في الوقت الراهن، لكل الأعين· بل يمس في العمق التضامن الاجتماعي، والإنصاف الاجتماعي، والمبادئ والأحكام الدينية والأخلاقية والفلسفية، التي كان من المفروض أن تتحلى بها السياسة الضريبية والأنظمة الضريبية، خاصة، والسياسات العمومية المالية والاقتصادية، عامة·
الجيلالي شبيه، أستاذ التعليم العالي في العلوم القانونية والمالية والضرائب ومنهجية العلوم، جامعة القاضي عياض، مراكش