النموذج التنموي: لمْ يُلْقِ موسَى العصا، حَيَّةً تسْعَى؟
رمضان مصباح الادريسي
لماذا خاب ظن البعض؟
اطلعت على التقرير العام لهذا النموذج ، وفي نيتي أن أحيط بكل تفاصيله ومستنداته الممكنة التحميل من موقع اللجنة .
منذ البداية ألح علي سؤال: كيف نقرأ هذا التقرير؟
وهو سؤال يجب أن يطرح لما بين القراءات المتعددة الممكنة من تلوينات: القراءة السياسية، التنموية ،الاقتصادية، المالية، الاجتماعية ،الثقافية..
ان الخيبة التي عبر عنها البعض ،وهم لا يجدون في التقرير ” صعقات” تنموية ،مبتدعة وثورية، تعود الى خلطهم بين هذه القراءات ،على خلفية ساخنة من التوقعات والاستيهامات ،أسستها وغذتها المواكبة الإعلامية لعمل لجنة تنموية أريد لها أن تكون ملكية ؛خارج كل دوائر الحكومة والأحزاب؛ بغض النظر عن انتماءات رئيسها وأعضائها.
وزاد من سخونتها اللقاء الذي جمع بين السيد شكيب بن موسى والسفيرة الفرنسية؛ مما حفز الاعلام الوطني على الشطط أحيانا في التأويل ؛ وصولا الى اعتبار الرئيس قد زلت قدمه وهو يقدم التقرير للسفيرة قبل جلالة الملك؛ مما يؤشر – في نظر البعض – على الحضور القوي لمستعمر الأمس في كل القرارات السياسية الكبرى ،والاستراتيجيات التنموية للبلاد.
وعقدت “كوفيد” الوضع الاقتصادي في البلاد ، واللجنة منهمكة في أشغالها؛ مما جعلها ترقى الى لجنة للخلاص التنموي الوطني؛ خصوصا وقد مُدد لها في الزمن بطلب من رئيسها.
حينما تتهافت القراءة على التقرير ،وهي بكل هذا الشحن المقصود وغير المقصود، فما أسرع ما يرتد الطرف خاسئا وحسيرا.
لقد حدث هذا للكثيرين ،فتعجبوا من كون ما بين أيديهم ،لم يكن غائبا عنهم أبدا، بل حتى على أبسط مواطن؛ فلماذا كل هذه الهالة؟
لسان الحال لا يخرج عن ترديد ،كون الفقير يحتاج الى من ينقذه من الفقر ،أكثر مما يحتاج لمن يشرح له سبب فقره. هذا صحيح ، عمليا، لكن اذا اجتمع الأمران فهذا أفضل ؛بل أدعى لكي لا يحدث أي نكوص تنموي مستقبلا.
ولعل اللجنة توقعت هذا وهي تؤكد ألا حل سحريا بين يديها ؛ لن يلقي موسى العصا ،حية تسعى، وتلتهم تلبيسات السحرة.
هل القراءة السياسية للتقرير أفيد؟
مادام كل ما ورد في التقرير العام من خطوط تنموية عريضة، وتوجهات ، ومعيقات –بنفَس معارض صريح وقوي – لا يخرج عن اختصاصات الحكومة ،ومجالات عملها التنموي؛ فلماذا الحاجة الى لجنة ملكية ،بكل النفير الذي صاحبها ،والانتظارات التي أحيتها أو خلقتها، لكي لا تزيد في نهاية المطاف عن تحصيل الحاصل، وعلم المعلوم، وفهم المفهوم؟
حتى رئيس الحكومة – وما أكثر ما تزِلُّ به كلماته – وبعد أن استمع الى التقرير الساخن ،قال بكل برودة ،حسب ما بدا لي: ستنكب الحكومة على قراءته ،وستعمل به.
هكذا ، ودون انتباه ربما، نزل به من عليائه الملكية – اختيارا ومنهجا وزخما – الى مجرد الروتين اليومي للحكومة. هل الرجل مع موسى أم مع السحرة؟
لا علينا ،وكل أمنيتي ونحن في سنة انتخابات ،ألا يموت هذا التقرير بين حكومة بأيادي باردة ،وكلمات ثلجية كالتي ذكرت.
تسعفنا القراءة السياسية ،التي تشتغل على أسباب النزول، لنفهم القصد الملكي السامي من وراء تشكيل لجنة ملكية تنموية ،رفيعة المستوى، لتقديم الاستشارة المؤسسة علميا ،في أمور اقتصادية وتدبيرية ،هي من صلب اختصاص الوزراء كلهم ؛تدخل في اطار البرنامج الحكومي العام ،وبموجبها تقرر لقطاعاتهم ميزانيات ليست بالهينة ،وتصرف لهم رواتبهم.
طبعا هذا ليس ترفا ملكيا ،وانشغالا وشَغْلا وتشغيلا ،بما لا جديد فيه؛ والحال أن المشاريع الملكية تتْرى ،منذ بزوغ الملكية الجديدة ،مواطنة ،فاعلة ،وبنفس جديد للسلطة.
طبعا تعددت النجاحات ،لكن كحال كل المشاريع الكبرى ،لا نعدم إخفاقات تمسك بتلابيبها؛ لأن تصور المشروع –ولو ملكيا – ليس كتنزيله، حيث يكثر المتدخلون ،وهم ليسوا على درجة واحدة من الكفاءة و النزاهة والمصداقية. أمثلة النجاح والاخفاق متعددة ومعروفة.
مع لجنة النموذج التنموي الجديد ، نكون إزاء مستجد من هذه الطموحات الملكية الكبرى؛ ومن رآى فيها مجرد تكرار للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وما تفرق في تفاصيل تنموية جهوية أخرى – خصوصا في صحرائنا المستعادةو المغاثة – لم يقارب التقرير سياسيا .
أسباب النزول:
في نظري، لم يكن مفهوما أن تتوالى الانتقادات الملكية للأداء الحكومي، في مجالات عدة ،خصوصا التدبير الإداري؛ دون أن يلمس المواطن الا النزر القليل من التحول الارتقائي الذي ما فتئ جلالة الملك يطالب به.
بل حتى بعض خطب العرش ،ركزت على تقويم التدبيري اليومي ؛في وجود وزراء منتصبين له في مكاتبهم.
كيف ينتقد الملك الحكومة، وهي قلما تستجيب؟ سؤال لم تكف عنه أسئلة المواطنين ؛ويردفون: اذا كان هذا مع ملك البلاد ،فكيف مع المواطن؟
وفي هذا الاطار يمكن ادراج الغضبات الملكية الشخصية، التي تواكب زيارة جلالته التفقدية للمشاريع ؛والخوف المرضي الذي أصبح يلازم المسؤولين ،وهم في غمرة هذه الزيارات تحسبا لهذه الهِنة أو تلك .
لماذا يُضطر الملك الى تكرار انتقاداته المباشرة للحكومة في خطبه؟
لماذا يضطر الى الغضب الشخصي ،في وجود تراتبية مؤسسية ،كفيلة بحل كل إشكالات التنزيل ؟
لا شك أن هناك اختلالات تدبيرية حكومية، تتسبب في كل هذا ؛ولا أدل من برنامج” الحسيمة منارة المتوسط” ،الذي أسقط وزراء ،و لا يزال يُشقي أسرا ريفية عديدة ،بتحمل أبنائهم السجناء تبعات فشل هؤلاء الوزراء؛ والحال أن لهم شرف فضح الفساد ؛ولو بتهور.
ان الحلقة الغائبة في كل هذا هي المرجعية المؤطرة للأداء التنموي العام؛ بعيدا عن التجاذب بين الاختصاصات والقطاعات.
مرجعية ملزمة للحكومة، ومستجيبة للطموح الملكي ،ومريحة لشخص الملك ،والمؤسسة الملكية.
وان شئنا مرجعية تخرج الغضب التدبيري، من الملك ودائرته، الى الوزراء ودواوينهم
، ومديرياتهم الجهوية والإقليمية. حتى لا يُضطر الملك الى الغضب ،والوزير منشغل بمكانته الحزبية ومستقبله السياسي.
مرجعية تستند اليها حتى الخطب الملكية ،في التدبير الاستراتيجي ،وليس التفصيلي اليومي.
هذه المرجعية –وقد تأتت مغربية خالصة، بفضل كفاءات وطنية مُكنت من فرصة العمل – هي مبنى التقرير ، وخطابه الثاوي .
اذا اشتغلت بهذه الكيفية التي بينت، فسيتأكد المواطنون والمتتبعون بألاَّ تكرار في النموذج التنموي الجديد ،ولا ترف ولا الهاء.
وكأن المؤسسة الملكية، وبعد أن انتقدت وعارضت –أكثر من أي حزب معارض- جاءت ببرنامج عمل ،في غاية الوضوح ؛منهجا ،تأسيسا ،وتنزيلا. ولهذا دلالاته في سنة شهرها الثالث عشر هو الانتخابات.
فليسكت كل شعراء الأحزاب ويتبعهم الغاوون ،فبين أياديهم ميثاق تنموي ،يحتاج الى رجال وسواعد ،وحجم الأطالس من الوطنية والإخلاص.
حتى لا تتفرق البرامج شذر مذر، يجب التنافس في سبل التنزيل.
ان دولة يغضب فيها الملك، لا يمكن الا أن يكون فيها مسؤولون مقصرون .
ان التفاصيل التنموية معلومة، ومطروحة في الطريق –كما قال علماء البديع عن المعاني- وحتى المثبطات يعرفها الجميع ،وهناك من يساهم فيها بقصد أو دون قصد.
ويبقى الجديد الذي يحبل به كيس موسى، وليس عصاه، هو هذا التصحيح المنهجي الملكي لأداء حكومة ،سرعان ما تنسى برنامجها ،المصوت عليه برلمانيا، لتسترق السمع مولية آذانها صوب المؤسسة الملكية .
سيكون على الحكومة المقبلة –وأتمنى ألا تكون بأيادي ثلجية – أن تيمم وجهها صوب “ميثاق النموذج التنموي الجديد”؛ فهو معيار المحاسبة، ومستند الغضب المؤسسي وليس الشخصي لجلالة الملك.
ومستند الفرح أيضا.
هي سنة انتخابات، لكنها أيضا سنة تحول المغرب الى قوة إقليمية ،تسمي الأشياء بمسمياتها؛ وتنتظر من محيطها الأوروبي بالخصوص، تحيين معلوماته، بتشذيبها من كل نزعاتها الاستعلائية.
نموذج تنموي جديد لمغرب جديد؛ فهل من رجال جدد؟
ولا نموذج بعد هذا النموذج الا إذا كان ارتقاء في معارج النجاح.