“الأخلاق والسير” و التغيُّر النفسي عند ابن حزم الأندلسي
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
هذا الكتاب يبدو أنه أكثر تخصصا أخلاقيا منه نفسيا على عكس”طوق الحمامة” كما يدل عليه العنوان نفسه.
1) تأليف الكتاب بين الواقع و الأبعاد
إذا تناولنا ظروف تأليف :”الأخلاق والسير في مداواة النفوس”بالمقارنة مع ما سبقه قد تبدو تقاطعات وتطابقات بينهما في نفس الوقت.
فمن حيث فترة تأليفهما قد توجد فجوة زمنية كبيرة بينهما تفصلهما ،إذ الأول كما رأينا قد ألفه وهو في مقتبل العمر وحداثة عهد بالكتابة العلمية،كما أن ذكريات الشباب كانت مازالت ثابتة في الذهن يستطيع استرجاعها بكل سهولة ودون عناء في التذكار،وهذا ما يميز”طوق الحمامة”من حيث توفره على كثرة الشواهد الواقعية أو التجريبية والمعبر عنها برأيت وشاهدت وكنت وحضرت ولاحظت…
فرغم النكبات التي نالت منه إلا أنها كانت بمثابة صدمة الولادة التي أعطت له الانطلاقة للتعبير عما يختلج نفسه من مشاعر وشجون أفرغها في “طوق الحمامة” على شكل صراخ فطري ومعبر عن حب الحياة وتنفس نسائم الوجود ولذة نغماته.
أما بالنسبة إلى مرحلة تأليف “الأخلاق والسير في مداواة النفوس”فإنه قد أنجزه بعد مرحلة نضج فكري وتحصيل علمي وافر وانصهار في المجتمع بصورة حتمية وضرورة وافتقار،فشاهد ونطق بعدما كان مجرد سامع ومارس بعدما كان سوى منظر،وتعددت المراحل في حياته فتذكر بعضها ونسي البعض الآخر.
لكن كل ذلك لم ينسه الحكم العقلي الذي صاغ قواعده حول كل ما شاهده أو سمعه،فأدمج ملخص معلوماته في كتابه هذا.
كما أن من غريب المطابقات أن يكون تأليف هذا الكتاب قد تم في ظروف شبيهة بما كانت عليه عند “طوق الحمامة”،لأنه إذا كان تـأليف هذا الأخير قد تم بعد النفي والتشريد وإحداث آلام نفسية لدى الكاتب -كما سبق وعرضنا- فإن “الأخلاق والسير”سيتم في آونة متأخرة من حياة هذا الكاتب وبعد أن تـعرضت كتبه للحرق من طرف المعتضد بن عباد،الشيء الذي آلمه بفقد أهم ما كان يحبه،فكانت حينئذ نكبته الأولى بفقد محبوبه الإنسي والحسي الذي ملأ مشاعره وعواطفه،ونكبته الثانية فقد لمحبوبه الفكري والعقلي ألا وهو كتبه الثمينة وعصارة تأليفه وتفكيره.
بحيث لم يخف شدة هذا الألم حتى صاغه في شكل أبيات شعرية متحدية لهذا الإجراء المضاد لروح الحضارة الإسلامية وتشجيعها العقدي والتشريعي والتاريخي للعلم وسعة الأفق للحوار واختلاف الآراء.
يقول عن هذه الحادثة الشاذة في تاريخ الأندلس!!! :
و إن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رق و كاغد
وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعـودوا في المكـاتـب بـدأة
فكم دون ما تبغون لله من ستر
كذاك النصارى يحرقون إذا علت
أكفهم القرآن في مدن الثغر
2)قيمة الكتاب العلمية عند الباحثين والمهتمين
يذهب كثير من الباحثين إلى أن كتاب “الأخلاق والسير”قد ألفه عقب هذه الحادثة السابقة،ومن ثم سيصدر البعض أحكاما حول قيمته العلمية باعتباره”عبارة عن خواطر وذكريات تظللها الكآبة ويسيطر عليها التشاؤم”.
هذا الاستنتاج ربما قد قلدوا فيه الباحث الإسباني آسين بلاسيوس،وذلك حينما ربط منهج الكتاب بتلك الحادثة،واصفا إياه بأنه “أشبه بسجل يوميات دون فيها ابن حزم ملاحظات أو اعترافات تتصل بسيرة حياته،وهذه الملاحظات ترد في الكتاب دون ترتيب يقصد به إلى التعليم والتربية ولم يراع في تنسيقها منطق،ونحن إذ نقرؤه نجد فيه الوقائع كما سجلها رجل يقظ دقيق الملاحظة أثناء تجاربه الواسعة وصاغها في قالب مبادئ عامة وحكم،وهذا الأسلوب الوعظي الحكمي الذي اتبعه ابن حزم يجعل كتابه هذا شبيها بحكم ديموقريط و سنيكا،ولا يخلو الكتاب مع ذلك من الفقرات الطوال…
وأعظم قيمة لهذا الكتاب الأخلاقي الذي صدر عن نفس يشوبها التشاؤم والتصوف هي أنه يقدم لنا صورة حقيقية حية لنفسية مسلمي الأندلس في القرن الحادي عشر وقواعد الأخلاق التي كانت مرعية في مجتمعهم،هذا إلى جانب تلك الفقرات التي تتصل بحياة ابن حزم نفسه”.
لكن هناك رأي آخر قد يبدو مخالفا للسابق ملخصه:أن الرسالة -أي الأخلاق والسير-تبدو كأنها :”نوع من المذكرات والخواطر التي دونت على مر الزمن وكانت حصيلة التجربة المتدرجة ولعل أكثرها دون في سن كبيرة،لأنها تشير إلى الهدوء والنضج في محاكمة الناس والأشياء ،وتمثل مفارقة وتكملة لطوق الحمامة ،وخروجها على بعض الأحكام التي جاءت في الطوق أو تطويرا لها،ففي هذه الرسالة يقدم ابن حزم نفسه”.
هذا الرأي قد يبدو أقرب إلى الموضوعية من النصين السابقين الذين قيَّما الكتاب من خارج وليس من داخل،بمعنى أنهما ربطا حكمهما بالظرف الذي كان يمر به ابن حزم في حياته العامة ولم ينظرا بتمعن كبير في البنية الداخلية للكتاب الذي لا يتضمن أي مظهر للتشاؤم وإنما يضم أحكاما موضوعية في مجالات أخلاقية أوردها برفقة تعليلات منطقية خالية من العواطف واستشهاد واقعي من خلال الممارسة الفعلية والملاحظة الدقيقة،وهو ما سنوضحه من خلال عرض المنهج المتحكم في الكتاب.
فالملاحظ أن له صلة وثيقة ب”طوق الحمامة”رغم الفارق الزمني والظروف التي سبقت الإشارة إليها،مع أن هذا الأخير لم يكن كتاب أخلاق بالدرجة الأولى.
فلقد حدا هذا الترابط بكثير من الباحثين إلى الإشارة تلميحا أو تصريحا فيما ذهب إليه ماجد فخري عند تعريفه لكتاب “طوق الحمامة” ب:”أنه كتاب غني بالتحليل النفسي وهو يشتمل على تأملات أخلاقية وتأملات ذاتية وربما أمكن لهذا الداعي ربطه بكتاب أخلاقي آخر بلغنا من مؤلفاته يفضله تنظيما هو: كتاب “الأخلاق والسير”.
إن هذا الكتاب لم يكن جديدا من حيث العنوان الذي حمله،إذ أننا نجد كتبا قد ألفت في هذا المجال وتحمل نفس العنوان تقريبا،وهي ذات قيمة علمية قد لا تقل عن كتاب ابن حزم ،لكنها في أوجهها وصيغها تكاد تكون صورا طبق الأصل لبعضها،وتسير على تقليد متكرر من حيث المواضيع التي تطرقت لها وطرق معالجتها وذلك بحسب الاتجاهات التي طبعت منهجها.
لكن كتاب “الأخلاق والسير”كانت له نغمة خاصة به وأسلوب جديد في عرضه للقضايا الأخلاقية،ولهذا فقد اختص بعناية كبيرة من طرف الباحثين وذلك لاعتبارات شتى منها العلمية المحضة ومنها الإقليمية وغيرها.
إذ كل باحث سيعلل اهتمامه بهذا الكتاب وسيبرز خصائصه من وجهة نظره على ضوء المحتويات التي تضمنها في جوانحه.
بحيث إن أهم مستوى للعناية التي أوليت له هو إدراجه ضمن قائمة الروائع العالمية،وذلك بشهادة هيئة اليونسكو الدولية له بذلكوترجمته إلى اللغة الفرنسية،كما نجده ضمن قائمة عيون التراث في المطبوع الذي أصدرته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة الإيسسكو تحت عنوان :”الأخلاق ومداواة النفوس لابن حزم”.
كما قامت ندي توميش بترجمته إلى اللغة الفرنسية وإدراجه في منشورات”اللجنة الدولية لترجمة الروائع”وذلك في سنة 1961،فكانت الطبعة مزدوجة،بحيث تتضمن النص العربي والفرنسي في طبعة واحدة،معتمدة في ذلك على نسخة إستنبول .
يقول إحسان عباس بخصوصها،أنه قد وجد “طبعة القاهرة (1325-1908)تزيد فقرات لم ترد في مخطوطة إستنبول أو في الطبعات الأخرى على تعددها مما يدل على وجود أصل أتم لها”ولهذا فإنه في إعداد هذه الطبعة راجع”نص الرسالة على مطبوعة السيدة توميش لأنها أفادت كثيرا من زيادات طبعة المحمصاني”لكنه لم يتقيد بترقيمها للفقرات أو ببعض ما لم يره صوابا من القراءات”.
هذه الزيادة المفقودة من كتاب “الأخلاق والسير” قد تبدو ضئيلة ولا تمثل بترا يخل بالمنهج والمضمون العام للكتاب أو يسقط من مواضعه الرئيسية ما يؤثر على قيمته.
في حين قد يبدو أن اهتمامات الغربيين بالكتاب في أوائل القرن الماضي كانت لا بأس بها،خاصة إذا قارناها بالاهتمامات التي أولوها لكتابه السابق “طوق الحمامة”.
فقد درسها آسين بلاسيوس وترجمها إلى الإسبانية وعلق عليها ونشرها في مدريد سنة 1918،ودرسها نيكل في مجلة اللغات والآداب السامية الأمريكية.
هذا وقد عرف الكتاب بأسماء مختلفة ومتقاربة،فمن الباحثين من عنونه ب”أخلاق النفس”كما ذكره المقري في” نفح الطيب”والحافظ الذهبي ذكره تحت عنوان “السير والأخلاق”،كما توجد عناوين أخرى مثل “كلمات في الأخلاق”و”الأخلاق والسير في مداواة النفوس”كما هي عليه طبعة دار الآفاق الجديدة التي تبنت العنوان الذي طبع عليه بالقاهرة سنة 1325 بعناية أحمد عمر محمصاني.
ومن هذا الاختلاف والتنوع في الصيغة كانت قيمة الكتاب ودرجة الاهتمام به من طرف رواد العلم والأخلاق والفضيلة.