موسم الرحل
كمال الدين رحموني
في الموروث الاجتماعي، تعارف الناس فئة منهم تستمد وَسْمَها بالرُّحَّل من خلال السعي في البحث عن مرعىً خصيب يُسمِن من جوع، حيث يُولّي محترف هذه المهنة وجهه نحو أرض “يُعَزِّبُ” فيها فترةمن فصول السنة،فيغدوالفعل محمودا، مادام صاحبه يَتغيّى الربح القائم على التفاني في العمل، ولا يركن لمفاهيم شاعت في زمن رُحَّل اليوم، كلما اقترب موسم الاستحقاقات السياسية التي تُعرّي واقعا بئيسا يجسده بعض هؤلاء ممن يتطاولون على مهنة الرُّحَّل النبيلة، حين يغيب الوعي، وتنتفي المسؤولية، وتنعدم الكفاءة، فيظن الواحد المغمور أنّ المجدَ السياسيَّ ليس له طريق سوى الظَّفَر بتمثيل نيابيٍّ أو جماعيٍّ، حتى ولو كان ذلك على حساب قيم آمن بها زمنا، فلا يجد غضاضة في بيعها في سوق نخاسة كان يُباع فيها الإنسانُ جسدا وقيمة، فاستبدلها رُّحَّلُ اليوم بالبيع في مزاد علنيٍّ تترجمه حالات الهجرة المتناسلة عبر انسحابات جماعية وفردية، واستقالات فعلية، وتغيير لافتات غدت منبوذة ممقوتة، ليس لمصلحة عامة، أو خدمة وطن، وإنما لحاجة في نفس عليلة تظن أنها صاحبة الأسبقية والأهلية.
ما معنى أن يختصر بعض الناس السياسة في مقعد برلمانيٍّ أو جماعيٍّ يوالي ويعادي على أساسه، وقد يكون جمرة تُلهب عمره بعدما عكّرت صفو حياته؟
ما معنى أن ينسلخ المرء من جلده، فيرتديَ لباسا لا يواتيه، ويتبنّى ميثاقا لا يعنيه؟ أليست السياسة بهذا الفعل مستنقعا يعجُّ بالجراثيم، ومع ذلك يتكيّف معها رُحَّلُ اليوم؟ إن هذا الشَّرَه الذي أصاب هؤلاء، ومنهم من انتُخب في ولايات سابقة، أو تقلد مناصب حالية، ومنهم من يريد التجريب لعله يصبح ذا شأن، بعدما توارى أهل العلم والفهم، واختفى أصحاب الأهلية، وتعفّف أهل الفضل، فجاءت المناسبة أمام رُحَّل اليوم، لعلهم يجدون موطأ قدم بين علية القوم، وكأنّ الترشُّحَ غنيمة ومحمدة، وغاب عنهم خطورة المسؤولية، وعِظمُ التبعات، وجُرمُ من نكث الوعد، ونقض العهد، وأخلّ بالواجب، وفرّط في الأمانة، هذا مع افتراض وجود الأهلية، أما الحاصل اليوم من الهجرة الجماعية من هيئة إلى أخرى، فتلك مصيبة هذا البلد، وتلك الشوكة التي لازالت تُدمي جسد الوطن، وتعرقل مشاريع النهوض والتنمية. ما معنى أن يكون المرء في شأن في فترة، فينقلب على عقبيه غدا، ويصبح في شأن آخر؟ ولذلك شاع مثل مغربي دارج معبر عن واقع الحال،”فلان قْلبْ الفيسْتا”، والمفارقة العجيبة أن في أدبياتنا الشرعية، أنّ قَلْبَ اللباس يلجأ إليه العبد في صلاة الاستسقاء اعترافا بالذنب والتقصير، بعد التوبة والنّدم، لعل ذلك يشفع له بين يدي ربه، فيُغاث الناسُ بعد فترة جفاف، لكنّ تغييرَ المعطف عند رُحَّل اليوم، هو الإصرار والاستمرار في سلوك مشين، ليته ظل مستورا عملا بالتوجيه النبوي:” مَن ابْتُلِيَ بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله جل وعلا.” أفلا يعتبر تهافت هؤلاء على هذا العبث -بهذه الصور المبتذلة- من قبيل المؤشرات التي لا تبشر بخير الوطن؟
وأخيرا، ما معنى أن يتنكّرَ المرء لما آمن به -إن كان صادقا- من تصورات وبرامج معينة، فلا يجد حرجا في بيع ما آمن به في موسم انتخابي سرعان ما يمر سريعا، لكن يبقى وزر الفعل مصاحبا ملازما لا يُنسى بالتقادم، ولا يزول دنسه حتى لو “ظفر” صاحبه بما يريد؟