خطاب العقل والأمل..
اسماعيل الحلوتي
بنفس الحكمة والصراحة المعهودتين في الخطب الملكية السامية، التي تعتبر بحق نبراسا يستنار به في دروب الحياة الزاخرة بالمتاعب والمحن، ومنهاجا في التعاطي مع أهم الأحداث الآنية سواء من حيث عمق مضامينها ووضوح عباراتها وأساليبها، أو في تشريح الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع ما يستلزم ذلك من ترتيبات وحلول استراتيجية…
وبتجاهل تام لما دأب عليه النظام الجزائري من معاكسة لمصالح المغرب واستفزازات متواصلة، كان آخرها إصدار رئاسة الجمهورية يوم الأربعاء 18 غشت 2021 بيانا غريبا ومريبا تعلن من خلاله عن إعادة النظر في العلاقات مع المغرب، بدعوى الأفعال العدائية المتكررة واتهامه بالتورط في إشعال حرائق الغابات المدمرة التي اجتاحت شمال البلاد…
أبى الملك محمد السادس إلا أن يعود مجددا مساء يوم الجمعة 20 غشت 2021 إلى صوت العقل والحكمة، حيث جاء خطابه بمناسبة الذكرى الثامنة والستين لثورة الملك والشعب مفعما بالرسائل السياسية القوية، للتذكير بالقيم والثوابت التي مهدت السبل أمام المغرب ليصبح ملاذا للسلم والأمن والاستقرار في سياق دولي مضطرب، وفي ذات الوقت تلقين أعداء المغرب وخصوم وحدته الترابية دروسا في ضبط النفس ومعاني الصدق والصراحة، التعاطي مع القضايا الكبرى وتجاوز الأزمات، بعيدا عن أي اندفاع أخرق أو تشنج أحمق.
إذ أثار الخطاب مجموعة من القضايا الراهنة، الداخلية والخارجية، ولعل أبرزها أن تخليد هذا الحدث التاريخي الهام، جاء هذه السنة على بعد بضعة أيام من إجراء الانتخابات، وبتزامن مع مرحلة جديدة من الإصلاحات والمشاريع، في إطار تنزيل النموذج التنموي الجديد وتفعيل الميثاق الوطني من أجل التنمية. وأوضح أن ما يميز هذه الاستحقاقات أنها ستشمل في نفس اليوم انتخابات تشريعية وجهوية ومحلية، مما يؤكد عمق الممارسة الديمقراطية ونضج البناء السياسي المغربي. وأشار في هذا الصدد إلى أن الانتخابات ليست غاية في حد ذاتها، بقدر ما هي إحدى آليات إقامة مؤسسات وطنية ذات مصداقية، من شأنها خدمة مصالح المواطنين والدفاع عن قضايا الوطن. معتبرا أن الدولة القوية هي تلك التي تستمد قوتها من مؤسساتها ووحدة وتلاحم مكوناتها الوطنية، باعتبارها أنجع الأسلحة الكفيلة بالدفاع عن البلاد في أوقات الشدة والأزمات والتهديدات. فأين نحن من مثل هذه الحكمة ورجاحة العقل لدى أولئك الجنرالات من حكام قصر المرادية الذين يستهويهم الحرث في الهواء، استعراض العضلات الفاشلة والركض خلف الضباب والسراب؟
كما لم يفته التطرق إلى ما يتعرض إليه المغرب في الأسابيع الأخيرة من تشويش ومضايقات متواترة، من خلال بعض الحملات الإعلامية الممنهجة والمؤامرات الخسيسة، التي يتم التجنيد لها بكل الوسائل الممكنة، الشرعية منها وغير الشرعية، واستعمال أضخم أدوات التأثير قصد محاولة توريطه في المشاكل والخلافات مع بعض الدول. لا لشيء سوى أنه استطاع أن يتحول إلى قوة إقليمية صاعدة ويتمتع بنعمة الأمن والاستقرار، إلى جانب كونه دولة عريقة تمتد لأزيد من 12 قرنا، وأن لها تاريخا أمازيغيا طويلا وتتولى أموره ملكية مواطنة منذ أكثر من أربعة قرون. وأكد في ذات الوقت على أن بعض الدول وخاصة الأوروبية، التي تعد من الشركاء التقليديين تخاف على مصالحها الاقتصادية وأسواقها ومراكز نفوذها بالمنطقة المغاربية، لأن قياداتها لم تستوعب بعد أن المشكل ليس في أنظمة بلدان المغرب الكبير، وإنما في أنظمتها التي تعيش رهينة الماضي وترفض أن تفهم أن قواعد التعامل تغيرت، وأن بلداننا أضحت قادرة على تدبير أمورها واستثمار مواردها وطاقاتها لفائدة شعوبها…
وبخلاف ما ظل يأمله الحاقدون الذين يسعون جاهدين إلى محاولة عزل المغرب وتعميق خلافاته مع بعض شركائه التقليديين، من أن تستمر الأزمة السياسية مع إسبانيا قائمة إلى ما لا نهاية، لاسيما أنه لم ترد أي إشارة لها في خطاب العرش، فإن خطاب “20 غشت” شدد على أن المغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، وأنه تغير فعلا في اتجاه ما ينسجم مع مبادئه وقناعاته، وليس كما يريد له الآخرون، حيث أنه وبقدر ما يرفض المس بمصالحه، يحرص كذلك على إقامة علاقات قوية، بناءة ومتوازنة. إذ علاوة على إشارته لما يربط المغرب بفرنسا وبينه ورئيسها إيمانويل ماكرون من علاقات الشراكة والتضامن والصداقة والاحترام، يمكن اعتبار حديثه عن الأزمة السياسية التي هزت الثقة المتبادلة بين المغرب وجارته الشمالية إسبانيا، مؤشرا إيجابيا على رغبتهما في طي صفحة الماضي، حيث أكد على أن المغرب اشتغل مع الطرف الإسباني بكامل الهدوء والوضوح والمسؤولية، ليس بهدف الخروج من الأزمة وحسب، بل ليجعل منها أيضا فرصة مواتية لإعادة النظر في الأسس والمحددات التي تحكم هذه العلاقات مع الحكومة الإسبانية ورئيسها بيدرو سانشيز من أجل تدشين مرحلة جديدة، مما ينم على أن هناك انفراجا وشيكا بين الجارين على أساس الثقة والشفافية والاحترام المتبادل والوفاء بالالتزامات، كيف لا وهو الذي تابع بصفته الشخصية والمباشرة مجريات الحوار وتطور المفاوضات؟
إننا إذ نثمن عاليا ما تضمنه خطاب 20 غشت لهذه السنة من رسائل سياسية صريحة وواضحة، تبعث على الأمل في المستقبل وتشحذ الهمم صوب المزيد من التلاحم والتضامن بين الملك والشعب، فإننا نأمل أن يلتزم المواطنون عامة والفاعلون السياسيون خاصة بروح الوطنية والحس بالمسؤولية لرفع التحديات، وجعل استحقاقات 8 شتنبر القادم عرسا ديمقراطيا حقيقيا وفرصة ملائمة لتكريس الخيار الديمقراطي والتغيير الإيجابي المنشود…