العبد القِنّ والعبدُ الانتخابي
رمضان مصباح
أسواق بيضاء وسوداء:
ما يتناهى إلى العلم ،كلما أزِفت الانتخابات التشريعية والجماعية، وحتى المهنية ، انعقاد أسواق لها، خصوصا في البوادي؛ من هذه الأسواق ما هو مَرَقي “أبيض” ،وما هو مالي أسود.
تُذكر هذه الأسواق برُكَح النِّخاسة القديمة،في مدننا العتيقة بالخصوص، كما وُصفت ؛قبل أن تأتي عليها الحداثة ،ونضال الأحرار في العالم.
تتداخل عوامل عديدة لتحديد الأسعار الانتخابية في هذه الأسواق ؛لكنها على العموم أسعار متدنية بئيسة ،أثناء التحشيد الكبير للصناديق ،ومرتفعة حين الاعداد – بين الناخبين الكبار – لانتخابات الرئاسة.
وقبل هذا تنعقد أسواق للتزكيات الحزبية وتصدُّر اللوائح؛ وهذا الشأن محفوظ للأحزاب تمارسه حسب قوانينها الداخلية ،أو مجرد هوى زعمائها، المحتكم لقانون العرض والطلب؛ والمحتكم –أحيانا – لكناش الحالة المدنية ،بدون أدنى حشمة.
وأسجل هنا أن أغلب الأحزاب أضحت انتخابية ليس الا ؛متخلية عن واجب تأطير المواطنين – كشرط وجدود – وهو واجب دستوري ومؤدى عنه من المال العام، الذي يمتزج به حتى عرق الفقراء الكادحين.
انتهى المناضل الحزبي،الفقير ، ليحل محله أعيان المال ،الذين يدوسون على شرطي النضال والأقدمية.
كل هذا يقع طبعا خارج القوانين الانتخابية الرسمية ، التي يحفظها الجميع ؛خصوصا من أدمن السعي الى تصدر المجالس ،واستمرأ البرلمان؛ حتى بدا له لا يلتئم له شمل بدونه.
ومن المعلوم للجميع أن الخطب الملكية لم تدخر جهدا في التأطير السامي للاستحقاقات، حتى تُفرز النخبة الحقيقية المؤهلة لتدبير الشأن العام المحلي والوطني.
أما سُلم القيم المغربية الأصيلة،فلا درج فيه لشراء الذمم والاستعباد و شهادة الزور ؛في كل شؤون الحياة الفردية والجماعية.
القِنانة والاسترقاق الانتخابي:
الفرق بين العبد القِنّ والعبد الانتخابي- اليوم – يتجلى في كون الأول لم يكن له خيارٌ في ما يعتريه من استعباد ، بيعٍ وشراء، عتق واِباقٍ؛ فهو انسان مستضعف مقهور ،وينتمي لسلالة البشر المقهورين أبا عن جد.
وفي فقهنا ” العبد وما ملك لسيده”.
اليوم ،وقد ولى زمن الرق والاسترقاق ؛للناس خيار في ما يختارون لنفوسهم؛ فحينما يرتضي الواحد لنفسه مذلة العبودية الانتخابية ،مقابل دريهمات،يحكم عليها بهذا النوع من الاسترقاق الانتخابي مادام حيا ؛اذ من المستبعد جدا أن يُحررها ،لأن النخاسين، اليوم، وكما كانوا دائما ،أقوياء بأموالهم واغرائهم وتهافتهم؛ وان كانوا فقراء من حيث المواطنة.
أما العبد القِن فاحتمالات تحريره كانت واردة جدا ،إنسانيا وبتحريض حتى من الشرع.
ومن العبيد ،كما يؤكد التاريخ الإسلامي وغير الاسلامي، من ترأس وملك وقاد الثورات.: مماليك مصر الأقنان ، الى أن أفتى بعدم أهليتهم للحكم سلطان العلماء العز بن عبد السلام؛ وحررهم بيعا ثم عِتقا؛ ولهذا لقب ببائع الملوك.
وعندنا مثال كافور الاخشيدي الذي خلد المتنبي ذكره في هجائيته المشهورة.
والأمثلة متعددة لدى الشعوب الأخرى القديمة.
ومن المحال أن يرقى الى هذه المكانة من استرق رقبته انتخابيا.
من جهة أخرى فالاسترقاق الانتخابي أشدُّ ضررا على المجتمع والوطن ،والتنمية عموما، من الاسترقاق النِّخاسي الزائل؛ لأن البناء المؤسسي الانتخابي – كما تتغياه القوانين – ينهار كلية ؛ ما دام الفائزون من جنس المسترَقين ؛ويكفي أن يكونوا بهذه الصفة حتى تسقط شهاداتهم الانتخابية.
“كما تكونوا يولى عليكم” ،نعم ،ولكن الأصح اليوم :كما تكونوا يكن من تختارون.
كم من قامات وكفاءات ،في هذا الوطن، ترشحت لكن مال النِّخاسة الحديثة دحرها وحرم الوطن من عطائها.
وكم منها تعففت أصلا ولم تتقدم ،عتقا لرقابها من هزيمة المال الانتخابي ليس الا ؛وليس تهربا من التنافس الشريف.
والطامة ألا أحد يسأل عنها؛ حتى وهي منتمية لأحزاب.
وفي المقابل خلا الركح للبوم والغربان ،وقد حولها مالها الى عصافير مغردة، زاهية الألوان.
رؤساء وعُمْدات وبرلمانيون ،أقاموها أسواقا ،واسترقوا الحشود استرقاقا؛ وفازوا ؛ولولا هِنات ألسُنِهم وسوءُ تدبيرهم ما انفضحوا .
ومنهم من كانت له المحاكم بالمرصاد ،لكن بعد أن تصدر ودمر ما دمر.
وهل المحاكمة الفردية تجب ما أصاب البلاد من فساد ؛جراء تصدر رجل نخاس، يحتل مكان غيره من الأكفاء ؟
ورغم هذه النخاسة المستعادة ،تبقى الجذوة مشتعلة ؛ ولو أنها تحرق أعصاب نزهاء هذا الوطن، في كل المجالات والمؤسسات ،الذين يجعلون الافتخار به ممكنا.
وتحية لكل من يناضل من اجل اعلاء صرح النزاهة والشفافية، في تجربتنا الديموقراطية.