الوباء السياسي و” فيروس كورونا”
كمال الدين رحموني
بصرف النظر عن الحدث السياسي الذي تستعد له البلاد، وبغض النظر عن الاقتناع بجدواه والمشاركة فيه، أو اعتباره عبثا ومقاطعته، يبقى هذا الحدث الانتخابي مؤشرا موضوعيا للتقييم المعياري الاجتماعي: دولة منظمة، ولاعبين أساسيين واحتياطيين ممن يخوضون غماره، أو ممن هم عينة من الناس الذين لا يمتلكون الوعي الكافي، أو ممن يمتلكون مؤهلات التفاعل فلا يأبهون به إلى درجة الاستهجان والاستغراب. والمتابع لما يجري يستطيع استخلاص جملة من الأمور، منها التساؤل حول مناسبة الفترة للحديث عن العملية الديموقراطية بما تحمله الكلمة من معنى، أم لازالت الظروف الموضوعية غير ناضجة بعد لاعتبارات أولها:
طبقة سياسية مهترئة: وهنا نتساءل بداية: هل لدينا طبقة سياسية بما للمصطلح من دلالة العلوم السياسية؟ وهل لدينا أحزاب تحترم قوانينها الداخلية، وتلتزم بتصوراتها التي علاها الغبار، ومن أهمها تأطير المواطن وتأهيله للعمل السياسي؟ أظن أن هذا المبتغى يكاد ينعدم، وهو ما تفسره ردود الفعل التي تبديها الأحزاب في كل مرحلة انتخابية، يستوي في ذلك أحزاب الإدارة مع غيرها ممن يمتلك رصيدا من النضال التاريخي، إلى الحد الذي يستعصي معه التمييز بين سلوك حزب ” تقدمي” يتماهى مع المناخ العام ومنطق السوق السياسي السائد، ويقبلُ الانخراط في اللعبة بدعوى أن ” السياسة فنّ الممكن” التي تتجسد في مثل هذه المواسم. وحين يغدو هدف الجسم الحزبي الوصول إلى البرلمان، وحيازة الأغلبية على مستوى الجهات والجماعات مهما كان الثمن، في غياب الميثاق الأخلاقي الذي يحكم الحزب تنظيرا لا واقعا، فساعتها تطفو المبررات السيئة، وتتوارى القيم التي تُدبَّجُ بها قوانين الحزب الأساسية والداخلية. ومن مؤشرات إدانة السلوك الحزبي، ما تزخر به مواقف الأحزاب التي لم تعد تجد حرجا في استقبال الرُحَّل الجدد والجود عليهم بطوق التزكية
ولو على حساب مناضلين شرفاء، ظلوا مرابطين على أعتاب أحزابهم بصرف النظر عن مرجعياتهم السياسية، فيُلفَظُ المناضل الشريف جانبا، ويُحتفى بصاحب “الشكارة” الذي يتعهد بالـ”الفوز” بالمقعد، جملة وتفصيلا، فيستسلم الحزب طوعا أو إغراء لطموحات وافد جديد، ليس له من مفاهيم السياسة، إلا أنه يختصره في “الظفر” بمقعد غير وثير يجعل منه نائبا أو مستشارا جماعيا، والأمثلة على هذا السلوك السياسي المقيت أكبر من أن تُعدّ أو تُحصى، فكيف يُستساغ الحديث عن طبقة سياسية تريد إقناع المواطن بأن يضع الثقة فيها بعد أن داست بأقدامها القيم التي تأسست عليها بدعوى “الغاية تبرر الوسيلة” ؟ أما المواقف فتلك قصة أخرى. وطبيعي حين يكون الهوس بالمقاعد فقط، فإن المواقف تصبح حديثَ خرافة أو فكاهة وتَنذُّر، فمن أراد المقعد فلْيَركَنِ القيمَ جانبا، ولْيَتَبَرَّأْ من كل القيم التي تربّى عليها صغيرا. إنّ وباء “كورونا” كان كفيلا بأن ينزع أوراق الخريف التي ظلت تستُرُ الحقيقة القاحلة، ولذلك ظلت مواقفها وهي تتحسس فرصة الانتخابات غائبةً أو في أفضل الأحوال محتشمةً، مع أن الوباء يستهدف صحة المواطن التي تريد كسب ثقته، فهل يكون هذا المواطن في الموعد معها بعد أن أخلّت بواجب الموقف السياسي والاجتماعي ، وغيرها من المحطات التاريخية ؟ إنّ أخطر ما يصيب البلدان حين تُبتلى بفيروس سياسي، وليس بفيروس وبائيٍّ، لأن الوباء وإن طال واستمر، فإن الأمل أن يتعافى منه الوطن، أما الوباء السياسيُّ فلا ينفع معه دواء، ولا ووصفة، ولا تشخيص سريريٌّ ما دامت “الطبقة السياسية” تمارس السياسة بمنطق المصالح الضيقة، ولا يُهِمُّها أن ينجوَ الوطن أو يغرق. إن الحقيقة المرة أن يبقى الوطن يرزح تحت طبقة لا تستحق هذا الوطن مع استثناء قليل لبعض الشرفاء بالمعنى السياسي، الذين لا زالوا يرابطون على ساحة التدافع السياسي لجعله منارة للتقدم، وليس مغنما لريع السياسة ومغنم المقعد، وليعلمْ كلُّ مهووس بالمقاعد أن الوطن له تاريخ عريق زمنا وحضارة، ويقينا لن يغفر الوطن لكل سياسيّ يتاجر بقضاياه، ويتخذها مطية لتصريف نرجسية الذات، على حساب سمعة الوطن ومواطنيه.