بدء الوحي وسد باب الكهانة والتلاعب بمصائر الناس”
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا:بدء الوحي واندحار إبليس نحو تكريس الوسوسة والتلبيس
عندما سد الباب الغيبي على إبليس استراقا لم يعد حينئذ لديه من حيلة سوى التقمص والتلبس بالضعفاء روحيا ومن هم أقرب نفسيا وسلوكيا من حاله ،وعلى إثر ذلك كثر التكبر ودب الحسد إلى الأمم وتنوعت مظاهر الدجل والشعوذة والكذب السياسي والاجتماعي كبديل عن الكهانة في الماضي، والتي قد كان فيها نصيب ضئيل بنسبة واحد في المائة من الحقيقة كمضمون ولكنها مكتسبة لغاية الإضلال وتحصيل التبعية لا غير.
فنجد في رواية ابن إسحاق عن النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصفه للكهان بأنهم كانوا :”يصيبون بعضا ويخطئون بعضا،ثم إن الله عز وجل حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها ،فانقطعت الكهانة اليوم ،فلا كهانة”.
وأكثر ما يكون هذا الحجاب في شهر رمضان خصوصا، لأن فيه أنزل القرآن الكريم وكان بدء الوحي، حيث تُصفد الشياطين وتمنع حتى من مزاولة الدجل الأرضي وما يدخل تحته من سحر وشعوذة ،وهو ما يمكن استنباطه كإشارة من خلال الحديث النبوي الشريف عن هذا الشهر وخصائصه بقولهs :”إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين”.
و من ظاهر الحديث فإنه يمكن إدراك المناسبة بين فتح أو إغلاق أبواب السماء وما كان عليه إبليس وجنوده من تطلع لاستراق الغيب واستعداد لتكراره ولو بعد حجبه عند أول ليلة من نزول الوحي. بحيث إنه في فتح أبواب السماء ستكون هناك فرصة للعودة إلى مرحلة الكهانة ،ولكنها لن تتأتى لأن الله تعالى قد وضع القيود على هاته الكائنات المسماة بالشياطين وهم في الأرض فكيف بهم يرتقون إلى السماء ،في حين فيلاحظ و يشاع بأن غالبية السحرة، ومن لهم تواصل بحسب زعمهم مع الجن ،قد يعتبرون هذا الشهر شهرا حياديا وتوقفا مؤقتا عن مزاولة الدجل والكهانة الأرضية والشعوذة بكل أنواعها على اعتبار أن الشياطين مصفدة ومسلسلة ولا تستطيع حراكا !
لكن الأمر هنا ،من الناحية الشرعية ومقتضى معاني الحديث، أوسع دلالة وأكثر أبعادا مما قد يتصوره البعض من سطحيي الرؤية والشرح ، وذلك لما لهذا الشهر والصوم فيه كوظيفة من أثر روحي ونفسي وسلوكي على الصائم خاصة ،قد يحول بينه وبين غواية الشياطين ومؤثرات الشهوات على توجهه وعقيدته وسلوكه ، وأيضا ،وهذا هو الأهم، لما للصيام من خصوصية لتحقيق التوحيد الخالص لله تعالى والمستخلص من سورة الإخلاص :” قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) “.مما يقتضي منا تأملا ووعيا ذوقيا طويل النفس لفهم هذه المعاني التي فيها تبكيت ودحر لإبليس وجنوده عن قلوب العباد بأقسى قوة وأشدها.
إن سد هذه الآفاق على إبليس كتحليل نفسي افتراضي وقياسا على الإنسان طبعا هو- في نظرنا المتواضع- عبارة عن تضييق لتطلعاته وقطع لها بالكامل وإلى الأبد،إذ المعلومات التي كان يستقيها من الاستراق قد كانت ذات تنفيس نفسي وغذاء روحي له بالرغم من أنه مطرود ولعين ،لأنها معرفة،والمعرفة هي لذة وسعادة ،خاصة وهي مسترقة من مصدر قدسي وغيبي أعلى وأغلى ،وما على وغلى حلى .وبهذا – والله أعلم – فلم يكن إبليس مطرودا طردا كليا من الرحمة إلا بعد أن اكتمل الأمر ببعثة الرحمة المهداة خاتم النبيين والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،والتي على إثرها سدت الأبواب والمنافذ والطرق على كل دجال كاهن وشيطان ومتاجر بالدين من يهود ونصارى ومجوس وغيرهم ،ولم يعد بعدئذ لإبليس أية يد أو وليجة لتلبيس حقيقة الغيب بحقيقة الشهادة وتضليل العباد بالسيطرة و تقزيم الإرادة.
وحينما تضيق النفس ستسعى إلى التنفيس عند أقرب متنفس لديها ،وليس لإبليس في هذه المرحلة والحال إلا أن يفرغ مكبوتاته على الإنسان أو بني آدم الذين قد كان أبوهم سبب طرده ولعنته إلى الأبد.
وحيث إن خاتم النبيين والمرسلين sقد كان هو آخر وأعظم سبب في سد هذا الباب على إبليس فإنه سيصبح هذا الرسول الكريم بالتأكيد من ألد أعدائه، ومعه ضرورة أصحابه وأتباعه من أمتهs، وهذا ما سيتشخص بأجلى مظاهره عند بدء الدعوة وانتشار الإسلام سرا، وسيزيد عند إعلانه جهرا ، ثم سيتكثف من طرف قرابته وعشيرته وعلى رأسهم أبو لهب وأبو جهل عمرو بن هشام ثم البقية …
فهؤلاء الصناديد المعارضون من كفار قريش سيكونون بمثابة صيد إبليس الثمين لتوظيفهم في إفراغ مكبوتاته والتعويض عن سقطه وسخطه وخسارته التي ما بعدها من خسارة ،كان من أهمها أن أصبح مفضوحا عند هذه الأمة المحمدية التي نالت حظا وفضلا من الكشف والمعرفة أوفر من سائر الأمم قبلها .
هذا الكشف سيكون من أهم آلياته وغاياته تخليص الأعمال والأقوال والمعتقدات من تلبيس إبليس، وهو ما نجد دراسته وتفاصيله بشكل مكثف في كتب الصوفية وسائر المتنورين والصلحاء من هذه الأمة ،كان من أبرز موضوعاتها مسألة الفراسة ومعانيها وسبل توظيفها والتي ورد فيها قول النبيs:”اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله” .
ثانيا:النموذج الواعي بتخليص الخطاب الديني من التشويش وصيد الأفاعي
وكنموذج ثابت في الموضوع أذكر من بين الصحابة ،الذين كان لهم حظ وافر من هذا المعين المعرفي التمييزي،الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال في حقه النبيs:”إيهًا يا ابن الخطاب ،والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غيره”.
يذكر ابن هشام في السيرة وخاصة عند مسألة بدء الوحي والبعثة،موضوع دراستنا هاته، عن ابن إسحق قال :”وحدثني من لا أتهم ،عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان أنه حدث ،أن عمر بن الخطاب بينما هو جالس في الناس في مسجد رسول اللهs ،إذ أقبل رجل من العرب داخلا المسجد يريد عمر بن الخطاب ،فلما نظر إليه عمر رضي الله عنه قال:إن هذا الرجل لعلى شركه ما فارقه بعد،أو لقد كان كاهنا في الجاهلية .فسلم عليه الرجل ثم جلس ،فقال له عمر رضي الله عنه :هل أسلمت ؟قال :نعم يا أمير المؤمنين.قال له:فهل كنت كاهنا في الجاهلية؟فقال الرجل:سبحان الله يا أمير المؤمنين !!! لقد خلت في واستقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت ما وليت،فقال عمر: اللهم غفرا،قد كنا في الجاهلية على شر من هذا نعبد الأصنام ونعتنق الأوثان،حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام،قال:نعم والله يا أمير المؤمنين،لقد كنت كاهنا في الجاهلية .قال:فأخبرني ما جاءك به صاحبك،قال :جاءني قبل الإسلام بشهر أو شيعه ،فقال:ألم تر إلى الجن وإبلاسها ،وإياسها من دينها ،ولحوقها بالقلاص وأحلاسها “.
هذه القصة تومئ إلى أن متعاطي الكهانة قد تبقى عليه آثارها إلى مدى بعيد ،نظرا لتعلقه بها باعتبارها متنفسا كشفيا لديه ربما يحن إلى التلذذ به و يود لو يحتفظ به ،هذا مع من مارسها وفي مدة وجيزة فما بالك بمن رافقته سنين وقرونا وعبر مراحل زمنية و مكانية قد تطول بطول الدنيا ومسيرتها ،كما هو حال إبليس وكثير من الشياطين الذين يقال بأنهم يعمرون أكثر من الإنس بكثير !
لا شك أن صاحب هذا الحال سيبقى متشبثا به أضعاف غيره وسيسعى إلى الكيد والمكر والخداع على أشد وأعنف صورة من ذي قبل ،والتي قد ازدادت إلى غايتها ومنتهاها عند إبليس ببعثة خاتم النبيين والمرسلين سيدنا محمدs ،حيث ابتدأت معها أصعب المحن والابتلاءات وزرع الفتن بين المسلمين وما زالت بشكل لم يسبق له نظير ،فتسلطت عليهم الأمم وتداعت منذ البداية، ونال منهم الكفار والمشركون بكل تنكيل وإذاية وعن جهل ودراية ،ودخل إبليس على الضعفاء من هذه الأمة فأزرى بهم كنكاية لإشعال نار الفتن بينهم وبين أمرائهم وتسفيه أحلام وأقلام وأفهام علمائهم ،والنيل والقدح في صلحائهم وأوليائهم،وهكذا تتابع الحال في مسلسل لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه !
إن هذا الأمر قد لا يتفطن له كثير من المسلمين ،ولم يعدوا له عدة مناسبة للعداء الراسخ لإبليس نحو أهل التوحيد والدين الخالص لله تعالى ،فتركوا الفجوات ومنافذ التسربات والترسبات لجراثيم إبليس وأعوانه،وغفلوا عن ذكر الله تعالى وإيتاء الزكاة وإقامة الصلوات والعدل بين الناس والذات،حتى تراكم عليهم التلبس واستوطن في مرابضهم إبليس وأعوانه ودخلوا في حال الشك والريبة والبغضاء والحسد وتبادل تهم الإفلاس والتيئيس…
هذه المحطة كان لا بد وأن نقف عندها لكي يسهل علينا تفسير ما سيأتي بعد من مظاهر ذات صور متنوعة ومقامات وأحوال ،منها المتناسق والمتماهي مع مطلب الكمال والجمال ،ومنها المتنافر والمتناثر عبر اضطراب الخيال وضيق وعقم الحال ،قد يبدو عند النظرة الأولى كأنه نقص ما بعده من نقص لكنه عند التحقيق نجد أنه يمثل عين الصواب والكمال وضرورة وجودية سجالية بين أهل الحق والباطل ستبقى حاضرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون).
ولهذا فمن الغلط كل الغلط ،ومن اللغط كل اللغط، أن نفسر ما تعرض له المسلمون وما يتعرضون له في الحال والاستقبال بأنه نقص في دينهم أو ضلال في عقيدتهم وشريعتهم بمجرد التفسير المادي والنفسي أو الاجتماعي لحالهم ،إذ هذا لا يكفي إلا إذا أضفنا العنصر الغيبي المتربص بهم على أشد ما يكون التربص والترصد ،ومعه التنصت ! واستراق السمع والنوايا،الذي سيكون متعاونا مع العناصر الظاهرية المعادية للأمة الإسلامية ولنبيها ورسولها سيدنا محمدs،وللأسباب والخلفيات التي سبق وأشرنا إليها ،يؤكدها النص القرآني الكريم بكل دقة وقطعية في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ).
كما سنجد أحاديث نبوية واضحة في الموضوع تبين كيف أن الصحابة الكرام منهم من كان يشتكي من ضغوط نفسية ووسواس متسلط قاصد حتى أوقعهم في حيرة التعامل فلجأوا إلى الطبيب الخبير s لكي يخلصهم من الظاهرة ،فيما يروي أبو هريرة رضي الله عنه قال:”جاء ناس من أصحاب النبي s فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به.قال:وقد وجدتموه؟ قالوا:نعم .قال:ذاك صريح الإيمان ! “.
وبالمناسبة يذكر حديث – إن صحت روايته مع أنه صحيح المعنى – في حاشية الرهوني على شرح الزرقاني بمختصر خليل”أنه جاء يهودي إلى النبيs فقال:يا محمد ،نحن نعبد بحضور القلب بلا وسواس الشيطان ،ونسمع من أصحابك أنهم يصلون بالوسواس .فقال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر رضي الله عنه أجبه . فقال:يا يهودي ،بيتان :بيت مملوء بالذهب والدر والياقوت والأقمشة النفيسة ،وبيت خراب خال ليس فيه شيء من المذكورات ،أيقصد اللص إلى البيت المعمور المملوء من الأقمشة النفيسة أم يقصد إلى البيت الخراب؟ فقال اليهودي:يقصد إلى البيت المملوء بذلك، فقال أبو بكر رضي الله عنه:قلوبنا مملوءة بالتوحيد والمعرفة والإيمان واليقين والتقوى والإحسان وغيرها من الفضائل ،وقلوبكم خالية من هذه فلا يقصد الخناس إليها .فأسلم اليهودي .فظهر أن الشيطان قاصد ولكنه غير واصل إلى مراده ،فإن الله يحفظ أولياءه”.يتبع.