تأسيس الدعوة على مقام الصديقية و تفوق أبي بكر
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا:أوجه التقارب النفسي والسلوكي بين الشخصية المحمدية والصديقية
إن الخبرة ،أية خبرة ،دائما ما تكون قوتها بحسب نهل مبادئها وأصولها من المصدر الرئيسي وتلقيها من الخبير الأصلي الحي ،الذي يعرف جيدا كيف يصرف الموضوع ومتى يوظفه وأين ولم ؟بدقة متناهية ومتناسقة ومناسبة معرفية ذوقية عقدية وسلوكية .
والخبير هنا ليس سوى رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، سيد الخبراء وأقدرهم على فهم الخطاب الإلهي القدسي وتنزيله في قلوب العباد والدعوة به وإليه بجرعات مناسبة لكل واحد بحسب استعداده ومؤهلاته، وعلى مستويات ،وكذا عوارضه ومثبطاته وتردداته.
من هنا فإن المرشح الأول للاستفادة من هذه الخبرة قبل غيره والمرتقي بها إلى مقام الصديقية والإدراك الشفاف للحقيقة من غير مواربة أو هنة أو مراجعة سيكون هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ،والذي ينسب إليه القول المشهور في نظرية المعرفة “العجز عن درك الإدراك إدراك”.
فالتهيؤ الروحي والنفسي والاجتماعي قد كان حاضرا بقوة لديه، كما أن التناسب بينه وبين النبيs سيكون أقوى من كل شخص آخر غيره ،ولهذا فقد كانت بينهما خلة وصداقة ووفاء وتضحية قبل البعثة ،لتناسب المعدن ،وحينما يكون المعدن الأصل حاضرا فإن الفرع سيصبح أكثر ارتباطا به وتثمينا له واندماجا به لغاية أن لا يستطيع المرء التمييز بين الأصل والفرع عند التقييم:” تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا”حيث يتبوأ أبو بكر رأس الأخيار هنا بلا منازع.
ولهذا فقد اعتبر أول من صدق الرسولs من الرجال بالرغم من أنه يمكن أن يكون هناك من سبقه بحكم الزمن الظاهري كزيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.إذ الأسبقية عند أبي بكر هي أسبقية مقام بالدرجة الأولى ومناسبة ظاهرية وباطنية نفسية واجتماعية قد تتناسب مع خلق الأمينs قبل مبعثه،وأيضا تتناسب مع جمال طلعته وجاذبيته الروحية لاستمالة الآخر إلى التآلف معه واستئمانه والتناسق معه روحا وفكرا وسلوكا ومظهرا مجسدا ، حتى إن اسمه رضي الله عنه كما يذكر ابن هشام قد كان “عتيق” وعتيق لقب لحسن وجهه وعتقه”وهذا له دلالة سميائية وتناسبية مع حسن وجه النبيs والذي كان حسنا ما بعده من حسن لم ير قبله ولا بعده أجمل منه!
فحينما يضاف إلى حسن صاحبه وملازمه فسيزيده حسنا على حسن ونورا على نور ،وذلك بحكم التعدي والإيجابية الروحية والنفسية ،أو بعبارة حديثة ،التلازم بين الظواهر النفسية والجسدية التي تشكل محور التحليل النفسي وضبط السلوك.
فقد يزداد هذا الأمر جمالا حينما يمتزج مع السلوك والأخلاق والإدراك لحال النفس والآخر الذي لا يرضى إلا بأن يكون ظاهره عنوانا على باطنه ،وذاك هو كمال العارف والصدِّيق.
قال ابن إسحق:”فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ! ودعا إلى الله وإلى رسوله،وكان أبو بكر رجلا مؤلفا لقومه محببا سهلا ،وكان أنسب قريش لقريش ،وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر .وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف ،وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه و تجارته وحسن مجالسته”.
وهنا تبدو قيمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومؤهلاته ومقامه ،حيث الصدق والتصديق وكمال الصديقية،كما قد تتجلى ابتداء دقة رؤية النبيsوعظمة خبرته في انتقاء صحابته وترتيب مقاماتهم الواحد تلو الآخر ،حيث لا تالي في القائمة ،وإنما هم نجوم للهداية بأيهم اقتديتم اهتديتم.وكيف يكون فيهم التالي وهم من نتاج الخبير والسراج المنير العارف بالله تعالى بغير وسائط والمصطفىs من بين سائر الخلق أولهم وآخرهم؟.
فأبو بكر الصديق قد كانت لديه مؤهلات ومحفزات يمكن أن تكون هي الباعث له إلى طلب الزعامة والريادة في قومه ،بل السعي إلى سيادتهم بأي ثمن ،خاصة وأنه ذو خلق وذو مكانة وذو مال وذو آمال وجمال ! ،أي أنه كان يتمتع بشخصية(كاريزمية إن صح التعبير) مستقلة كل الاستقلال ومستغنية كل الغناء عن فضل الآخر ومنِّه وإطماعه.
ثانيا:خاصية الاندماج الروحي عند أبي بكر وسر أسبقيته
لكنه مع كل هذا لم يقف عند تلك الظواهر ولم تشفع لأهواء نفسه ومغرراتها كل هذه الامتيازات والأوسمة حتى تحجبه عن مصدر الجمال وحسن المآل،وإنما انسكب وذاب وانصهر في أصل معدنه الذهبي الخالص ففنا في حب النبيs وغيَّب وطرح حظوظه عند حظه فنال الرضا كل الرضا من ربه،ومن ثم استحق هذا الوسام وتحلى بحلة هذا المقام الذي قلده إياه حبيبه ومربيهs بقوله:”ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد ،إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة ،ما عكم عنه حين ذكرته له وما تردد فيه”.
أبو بكر الصديق هذا سيكون المفتاح الأقوى والأسهب والأنسب لنشر دعوة الإسلام في بداياتها ،وعند حياة النبي s وبعد وفاته،وذلك لخاصية القبول التي وهبه الله تعالى إياها،ولطف الجانب وجمال الظاهر كما هو الباطن، أشرنا إليه من قبل ،سنجد النبيs يقعد لهذه الخاصية بقوله إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحببه فيحبه حبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض..”. وهذا القبول لا يتأتى إلا من المقبولين ومن هم في لائحته عند الله تعالى، حيث الرضا والأمن والأمان والبشارة والفوز العظيم.
ومن هنا فإن معظم المبشرين بالجنة من الصحابة العشرة قد أسلموا على يديه ،وأصبحوا يمثلون منذ البداية دعائم الدعوة الإسلامية وأشد حرصا على سلامة بيضة الأمة والأكثر تعرضا للبلاء والمحن،يذكر لائحتهم ابن إسحق على التوالي:”عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب،والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ،وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن الحرث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ،وسعد بن أبي وقاص ،و اسم أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي،فجاء بهم إلى رسول اللهs فأسلموا وصلوا “.
وهؤلاء الصحابة الأوائل كما يبدو نسبا ينتهون إلى جدهم كعب بن لؤي ،وهم بهذا يلتقون مع النبي s عند عدنان ثم إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام، حيث يمثلون العشيرة الأقربين والعضد والعصبية القوية لشد الدعوة وخدمتها بإخلاص وتفان ما بعده من مستوى . كما أنه بهذا الجيل ستتوالى الاستجابة تفريعا من هذه الكوكبة النيرة وهذه الأعمدة القوية التي ستساهم بالمال والجاه والصبر والجلد وكل ما تقتضيه المرحلة من مؤازرة ومناصرة.
وعلى قواعد هذه الأسبقية فقد بقي أبو بكر لا ينازع ولا يجارى أو يبارى ولم يعرف عنه في سيرته أنه نزل درجة أو نقص من عمله وتفانيه ذرة ،بل كان دائما في معراج روحي ،وبهذا فقد حصل على وسام الصحبة بامتياز ،وذلك بالنص القطعي الدلالة والثبوت (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) وحتى قال النبي s في حقه ،عقب ما طرأ بينه وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما من خصومة عابرة وخلاف بشري طبيعي ،وهو يوجه الخطاب إلى كافة الأمة بحكم العام لا الخاص :”إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت ،وقال أبو بكر:صدق،وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟” فما أوذي أبو بكر بعدها.
وهذا الحديث – كما فسره ابن كثير – يعتبر كالنص على أنه أول من أسلم رضي الله عنه .وقد روى الترمذي وابن حبان من حديث شعبة عن سعيد الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد ،قال: قال أبو بكر رضي الله عنه :ألست أحق الناس بها ،ألست أول من أسلم ،ألست صاحب كذا؟”.
لسنا الآن بصدد التفصيل والتفضيل في ذكر مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهذا يحتاج إلى دراسة مستقلة وإسهاب كبير بحسب المقام والتخصص في علم الأعلام ، ولكن غرضنا هنا هو التأكيد على أن هذه المحطة من سيرة النبي s قد كانت بداية الإشراق القوي والانعتاق الكلي لهذه الأمة على قواعد نورانية ونفسية واجتماعية لترسيخ اطراد التقدم والمسير ،إذ البناء لا يمكن أن يكون قويا إلا بحسب تجدر أسس وشموخ أعمدته ، وهذا هو حال الصحابة الأوائل الذين دخلوا الإسلام ابتداء من أبي بكر الصديق ثم البقية الآتية رضي الله عنهم جميعا.