الضمان المهني والإلزام القانوني : مجال الطب نموذجا
الدكتور محمد بنيعيش
أولا:المهن الإنسانية بين شرط الوفاء والضمان
موضوع الضمان المهني هو موضوع ذو شجون وذو قرون وذو حصون . فالمهن كلها لها اعتبارها وقيمتها الاجتماعية والاقتصادية والمالية والصناعية والتجارية والنفسية . واحترام المهن المنتجة والمفيدة للحياة العامة وما يقتضيه الاجتماع البشري لكي يستقيم حاله هو دليل النضج والوعي والشعور بالوحدة الاجتماعية والوطنية، بل العالمية حينما تصبح بعض المهن مطلبا إنسانيا محضا . ومن بين هذه المهن الشريفة والتي تأخذ الصدارة في الترتيب من حيث الضرورة والسمو والدقة والعلم نجد علم الطب وما ينم إليه بصلة صحيحة وسليمة.
والفقهاء المسلمون قد ناقشوا موضوع الطب والوفاء المهني فيه، ومن ثم أصدروا فتاوى في الموضوع تلزم الطبيب أن يكون متخصصا أولا، ثم بعد ذلك تلزمه بأن يكون ضامنا للسلامة من خلال معالجته حتى ينال أجره! أما إذا لم يبرؤ المريض وفي حالات عادية وليست معقدة فالأجر يبقى معلقا إلى حينه بل قد يؤدي دية الخطأ إذا ترتبت عنه مضاعفات. إذ في الحالات المعقدة يرى ابن رشد أن “أشياء كثيرة من الصنائع يعرض فيها للصناع الشيء وضده مما اكتسبوا من قوة مهنتهم إذ لا يمكن أن يحد في ذلك حد موقت صناعي، وهذا كثيرا ما يعرض في صناعة الطب وغيرها من الصنائع المختلفة” وعن الضمان المهني يقول: “وأصل مذهب مالك أن الصناع يضمنون كل ما أتى على أيديهم من حرف أو كسر في المصنوع أو قطع إذا عمله في حانوته وإن كان صاحبه قاعدا معه، إلا فيما كان فيه تغرير من الأعمال، مثل ثقب الجوهر ونقش الفصوص وتقويم السيوف واحتراق الخبز عند الفران، والطبيب يموت العليل من معالجته وكذلك البيطار إلا أن يعلم أنه تعدى فيضمن حينئذ، وأما الطبيب وما أشبهه إذا أخطأ في فعله وكان من أهل المعرفة فلا شيء عليه في النفس والدية على العاقلة فيما فوق الثلث وفي ماله فيما دون الثلث. وإن لم يكن من أهل المعرفة فعليه الضرب والسجن والدية، قيل في ماله وقيل على العاقلة”.
وهذه الفتاوى تبين لنا أن القانون كفيل بضبط المهن وتوجيهها نحو خدمة المجتمع وتحقيق راحته وازدهاره لا السعي إلى إفقاره وابتزازه وإهدار صحته من غير متابعة، حتى قد نجد في العصور الغابرة كما يؤرخ لها، أنّ في عهد حمورابي البابلي (1728-1686ق.م) كانت توجد القوانين التي تحتوي عليها ما ينظم مهنة الطب، حيث حددت الأجر الذي يتقاضاه الطبيب أو الجراح مقابل العلاج الذي يقدمه وبناء على الوضع الاجتماعي للمريض (أحد النبلاء، تاجر، أو عبد)، كما حددت العقوبة التي توقع على الطبيب إذا فشل في أداء مهمته: “إذا قام الطبيب بإجراء عملية جراحية كبيرة لأحد النبلاء منقذا حياته، فإنه يحصل على عشرة من الشيكلات الفضية أما إذا توفي هذا النبيل فتقطع يد الجراح، أما إذا تسبب الطبيب في وفاة أحد العبيد، فإنه يقوم بتعويض صاحبه بعبد آخر” كما أنه عند المصريين حسب ما يبدو –كما يؤرخ له- “لم يكن الأطباء يطلبون أتعابا لكنهم كانوا يتقاضون باعتبارهم موظفين في الدولة راتبا ثابتا في صورة غذاء وثياب في أغلب الأحيان…”
فالنتائج العكسية للمهن والحرف بشتى أنواعها إذا لم يعقلن سيرها وتقسيمها ويقنن إجراؤها ووظيفتها ستعود مسؤوليتها بالدرجة الأولى على مناهج التعليم في الجامعات وكذلك التوعية في الجوامع ومنابر الإعلام الرسمي والحزبي والجمعوي بشتى أشكاله، كما قد تكون ناتجة عن غياب التكوين الخلقي وضعف ترسيخ العلوم الإسلامية في نفوس الطلبة ذوي الاتجاهات المهنية البحتة في دراساتهم، مما أفرز انشطارية سلوكية متناقضة في ميدانها، رغم أنها في البداية قد تلقن العلوم على اعتبارها ذات بعد إنساني محض، لكنها في النهاية تصير إلى منحى أناني، وبطالة فكرية لا يستطيع معها الشخص أن يتخلص من المحسوسات نحو المعقولات.
ثانيا:الوظيفة المهنية ومظاهر الاستغلال بحسب الحاجة والطلب
وعلى هذا النموذج الطبي قس ما بقي من مهن وحرف، إذ كل ذي مهنة أو حرفة إلا ويحتكرها لصالح منفعته المادية الصرفة، وبالتالي يتطاول فيها على اختصاص غيره –إلا من رحم الله- وتتحول الحرف إلى حفر لإسقاط الآخر على أم رأسه، فكم من سيارات عطبت وكم من ثلاجات وتلفزات عطلت، وكم من بنايات ومنشآت شوهت وهدمت، بسبب التسيب المهني وبسبب غياب الفكر السليم الذي يضع الأمور في مكانها المناسب ويراعي الخصوصية والتخصص، ومن ثم وقع المجتمع في بطالة فكرية وعطل مزمن رغم ما يبدو من مظاهر التقدم والنمو حسب زعم المتسيسين والإعلاميين، ولكنها مظاهر فئوية مزيفة ومصنوعة بالإخراجات التلفزية والسينمائية، كخدع وتمويهات ليس إلا، أما الواقع فإنه يخفي مرارة وأزمة طاحنة تحتاج إلى إعادة الهيكلة الجدرية وصياغة المفهوم الحقيقي للعلم النافع والسياسة الجادة حتى يتم التكامل والتواصل وتصير مجتمعاتنا ذات مساهمة فعلية في صنع الحضارة الثابتة والمستعدة لكي تدخل التاريخ الذهبي جديدا من بابه الواسع.
إن ترسيخ الشره المادي عند ذوي المهن المرتبطة بالمجتمع وما تعم به البلوى كما يقول فقهاؤها سواء كانت في المجال القضائي كالمحاماة مثلا أو الصحي كالطب والصيدلية وأيضا في مجالات الماء والكهرباء وإنتاج المواد الاستهلاكية مع خوصصتها بغير قيود قانونية وأخلاقية ملزمة، قد يترتب عنه شعور نفسي شاذ ومريض ربما يصير معه الشخص عدوا للمجتمع في قرارة نفسه وباطنه من حيث يدري أو لا يريد، إذ سيصير سلوكهم رغم اختلاف وظائفهم على نمط سلوك بائع الكفن، لأن هذا الأخير في عمق نفسه يتمنى أن يكثر الموتى في البلد حتى ينفذ ما لديه من أثوبة معدة للتكفين!
وهو نفس الشعور الذي قد ينتاب المحامي مثلا، إذ قد يتمنى أن تكثر الخصومات وتتعقد المسائل حتى يكون له دور البطل في حل القضايا واكتساب الموكلين وما يأتي معهم من رزق، تتفاوت مقاديره بحسب مستوى كبر أو حجم القضية.
وأيضا فإن الطبيب ينتابه نفس الشعور، وهو تمني حصول الأمراض وكثرة ظهورها وانتشارها حتى يجد ما يعالج ويتعيش بمداخيله على حساب المرضى، وربما قد يتحول الطب إلى شعبذة كما أشرنا قبل من أجل استدرار الأموال بغير مبرر أخلاقي أو صحي معقول.
ونفس الشيء قد يحدث عند منتجي المواد الأولية للاستهلاك في المجال الفلاحي أو الصناعي، إذ الإنتاج يبقى رهينا بالعرض والطلب ولكن بصورة شاذة وغير أخلاقية، أي أن الطلب سيصبح مفتعلا بالاحتكار ثم يأتي بعده العرض ولكن على حساب الطاقة الشرائية للمجتمع، من أجل تحقيق الاغتناء الفاحش وتحقيق الفوارق الطبقية بغير توسط.
وهذه الشذوذات المهنية ذات خلفيات قانونية وسياسية مدروسة بتأثير بطالة فكرية، ربما قد تتعمدها بعض الحكومات من أجل افتعال المشاكل داخل المجتمع وشغله بما يلهيه من الضرورات وسد الحاجيات والخصومات وأداء المستحقات، مما يعني اعتماد الخزينة العامة على حساب تلك الاختلالات الاجتماعية والالزام بواسطتها قانونيا، فتكون تلك الحكومات بمثابة بائع الكفن الذي يتعيش على حساب الموتى، أي أنها تبني اقتصادها على المظالم والباطل الذي ليس وراءه طائل.
وبالتالي كما يقول ابن خلدون “الظلم مؤذن بخراب العمران” ويلخص هذه المعاني كلها قول النبي صلى الله عليه وسلم : “الظلم ظلمات غدا يوم القيامة”. يقول الله تعالى : “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” صدق الله العظيم