خدوش في المدن المنجمية
محمد شحلال
تعتبر جل المدن المنجمية مدنا حديثة النشأة،حيث كان اكتشاف المعادن بها ،سببا لانطلاق العمران والتجمعات البشرية التي ما لبثت أن تحولت إلى مدن تنافس غيرها من الحواضر العريقة.
يعتبر المغرب من البلاد التي يزخر ترابها بالعديد من المعادن التي تدر على الدولة مداخيل معتبرة ،كما هو الحال بالنسبة للفوسفاط على سبيل المثال ،ناهيك عن الثروات الباطنية المحتملة التي تنتظر دورها في الاستكشاف.
تتميز المدن المنجمية في بلادنا بكونها أقطابا تنجذب إليها اليد العاملة من كل جهات الوطن،لتصبح هذه المدن خلاصة للنسيج البشري المغربي كما عشناه في مدينة جرادة.
وتتميز المدن المنجمية بكثير من القواسم المشتركة التي تعفي من البحث عن الخصوصيات ،ذلك أن ما يحصل في ،،خريبكة،،لا بد أن يحصل مثيله في،،جرادة،،أو،،خريبكة،،أو،،زايدة،،ونظيراتها الأخرى.
يتوافد العمال الذين يقايضون قوتهم البدنية بعائدات زهيدة في الغالب،من البوادي وكذلك من بعض المدن التي يعاني شبابها من البطالة.
يجد هؤلاء العمال أنفسهم مضطرين للتدرج عبر مراحل لا مفر منها ،لتحقيق الاستقرار النفسي والمادي. وهكذا يضطر هؤلاء العمال العزاب في غالبيتهم،للعيش في أحياء خاصة تعرف بأحياء،،الزوفريا،،يشاركهم فيها العمال المتزوجون الذين تظل زوجاتهم رهائن لدى الأسرة ،لضمان بعض الدخل الابتزازي، في انتظار أن يفك الحصار عن هؤلاء الرهائن للالتحاق بأزواجهن،وإن كا ذلك لا يتحقق في الغالب، إلا برجات عائلية وعداوات تحوم حولها،،دعاوى الشر،،والسخط المجاني !
إن عمال المناجم،يجدون أنفسهم في مواجهة تحديات لا حصر لها،وكلها تنال من صحتهم ومن نفسيتهم،وهذا ما يضطرهم إلى البحث عن متنفس ولو كلفهم إفلاسا ماديا.
لعل أول ما يستنزف العمال،هي ظروف العمل القاسية في باطن الأرض ،وما تقترن به من جهود بدنية استثنائية لا تخلو من حوادث مأساوية في حالات عديدة،يضاف إليها تعسف الرؤساء ووسائل ابتزازهم التي قد تصل المس بالأعراض.
وإذا عاد العمال ،،الزوفريا،،سالمين إلى أديم الأرض،فإنهم لا بد أن يعرجوا على أحياء عرض اللحم البشري التي تتحول الى معالم مميزة في هذه المدن ،ذلك أن بائعات المتعة العابرة ،يتقاطرن عليها لانتزاع نصيبهن من عائدات العمال إسوة ب،،مول البسيري،،والعائلة التي تنتظر،،الماندا،،!
إن بعض بائعات المتعة لا يقمن بصفة دائمة في مدينة بالذات، بل يترددن على عدة مدن تحينا لموعد ،،الكانزينة،،من جهة،واستمالة زبناء جدد ،فقد صقلت التجارب المريرة مكرهن.
وعلى سبيل المثال،فقد كانت بلدة،،بوبكر،،الحدودية،تعرف أيام توهجها ب،،دوزيام باري،،حيث كان يتوافد عليها عشاق الليالي الحمراء،وما زالت بقايا أحياء المتعة صامدة هناك وتختفي ببطء تحت أكوام التراب المعروف هناك ب،،لاديك،،*!
لم تخرج جرادة عن القاعدة،فقد وفرت ،،للزوفريا،،حيا خادشا كانت تعمره نساء محترفات قادمات من كل جهة الوطن.
وبما أن الموبقات لا تتجزأ،فإن تجار الملذات ،كانوا يوفرون وسائل الترفيه الأخرى،وعلى رأسها،،الراح،،حيث انتشر مروجو الخمور السري والعلني،وحسبنا أن نذكر بحانة الاسباني،،كارمونا،،الشهير بحاسي بلال وغيره بجرادة.
إن ما كان يحدث في جرادة وبوبكر،كان يقابله ما هو أمر في،،تيغزا،،(منجم جبل اعوام)قرب مدينة،،مريرت،،وكذلك في باقي المدن المنجمية.
ربما يتأفف البعض من ذكر هذه النقائص التي تخدش صورة بعض المدن،لكن الواقع لا يسوغ أن نحاربه بالعواطف،حيث إن الرواج الذي كانت تعرفه هذه المدن،كان يجذب كل ذوي الحاجة ليلبوا بعضا من رغباتهم ،عبر وسائل مختلفة،ويستحيل أن تعمم الطهرانية في أي تجمع بشري لأن الحياة لا تقوم إلا على أساس التناقضات والماسي الانسانية التي تتحول لدى البعض الى مصدر كسب.
يمكن القول في الختام بأن عمال المناجم،هم أشخاص وضعوا أنفسهم من حيث لا يرون،في خدمة أفواه عديدة ربما لم تخطر على بالهم ،وهم الذين كان كل أملهم، أن يبنوا أسرة يوفرون لها أفضل مما خلفوه وراء ظهورهم،فتحية لهؤلاء الجنود الذين يحاربون الموت المتربص بهم في طبقات الأرض ليظل الوطن شامخا.
*لاديك :la dyke،يطلق في بوبكر وتويسيت على السدود الترابية التي كانت تقام لمنع تسرب غبار المعادن المتسرب الى البيوت….