الدعوة الإسلامية بين المعارضة المُشخصَنة و التعبئة المُشحَنة
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا:الدعوة النبوية في مواجهة العوائق النفسية وأوهام النِّدية
يصوره لنا طه حسين في كتاب “على هامش السيرة”شخصية أبي مرة كاسم مستعار لإبليس وهو مصاحب لأبي جهل عمرو بن هشام كالتالي:
“قال الشيخ وهو يقدم القدح إلى عمرو:”اشرب أبا الحكم ودع عنك هذه الخواطر ! فلقد صدقتك نفسك حين حملتك على بغض هذا الرجل – يعني النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم_ ،ولئن حمدت فيك شيئا فإنما أحمد فيك هذا البغض العنيف،هذا البغض الذي لا يعرف رحمة ولا هوادة ولا لينا ولا أناة ،وإن هذا البغض على عنفه وشدته لقليل بالقياس إلى ابن عبد المطلب.
قال عمرو :أبينك وبينه دم؟ّ!.
قال الشيخ:ليس بيني وبينه شيء،وإنما الشر كل الشر بينك أنت وبينه،أتذكر حين زحمك عند ابن جدعان ؟إن ذلك لم يكن إلا رمزا لما سيكون بينك وبينه من خصام لا يحده إلا الموت .إنك لا تعرف من أمر ابن عبد المطلب شيئا.إنك ترى قومك يكرمونه،والشر كل الشر في إكرامهم له.إنه يدبر لهم من الأمر ما سينغص عليهم أيامهم،ويؤرق عليهم لياليهم ويكدر عليهم صفو الحياة…”.
هذه هي طريقة إبليس اللعين في وسوسته، وأفكاره القسرية، واستغلاله الحادث البسيط العابر ليضخمه و يؤوله إلى قضايا كبرى، مستقبلية متوجسة وواهمة ،لم تكن تخطر في بال المعني ولم يقصدها ابتداء وغاية،ولكنه التأويل في غير محله والإيقاع في شباك الفتنة من منطلق نفسي أهوائي مريض لا غير.
حتى إن هذا الحقد والحسد سوف لن يبقيا في حدود شخصية وفردية ولكن الأمر سينتقل ويتحول إلى تجييش وعدوى في العقل الجماعي تعمل على تفتيت العصبيات والفتك باللحمة الوطنية والقومية ،من غير مراعاة لأواصر النسب والدم ولا للتاريخ ومقتضى الروابط المؤلفة بين الشعوب والقبائل !!!.
ويمضي هذا الحوار المتناسب مع تحليلنا لنفسية أبي جهل وإبليس معا،باعتبارهما نواة رئيسية للحقد والحسد ومعاداة الدعوة وصاحبها تحت تأثير العصاب والتعصب.
قال عمرو وهو يعب في القدح عبا شديدا:”وما بال السماء لم تختر لأمرها غير محمد ؟ ! أليس في قريش إلا محمد؟ !.
قال الشيخ وهو يبتسم ابتسامة منكرة :كلا ! ليس في قريش غير محمد،ليس فيها الوليد بن المغيرة ،وليس فيها أمية بن خلف ،وليس فيها عتبة بن ربيعة ولا شيبة بن ربيعة ،وليس فيها أبو الحكم عمرو بن هشام فتى مخزوم وسيدها ! .
قال عمرو وقد ظهر في وجهه غيظ شديد:أما إذا قلت ذلك فإن مخزوما كلها لتبغض هاشما كلها،وقد كنت أنقم من بني أمية تكلفهم وأنفس عليهم جدهم في تجارة قريش وحرصهم على سيادتهم،فأما الآن فلا والله ما أبغض أحدا كما أبغض بني هاشم ،ولا أجد من الضغن على أحد كما أجد على فتاهم هذا الذي يسمونه الأمين ! “.
ثانيا:الاستعداء الجماعي والتمويه الثقافي ضد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم
بهذا إذن فقد يصبح الحسد ممزوجا بخواف الجبن والقلق مهيأ ليتحول من مسألة شخصية إلى استعداء جماعي وحرب شاملة كتعويض عن النقص الذي يقاسي منه الحاسد في سويداء قلبه تجاه المحسود !
كما سيسعى به إلى تفرقة شمل الجماعة وتشتيتها في صورة عدائية وإسقاط النتائج على الآخر،وهو الشيء الذي سيكرر تعبيره مرارا كفار قريش عند زعمهم واتهامهم للنبيs بذلك،بينما الفرقة والاضطهاد قد جاءا من قبلهم وبخلفيات حسدهم وتكبرهم ، على رأس قائمتهم أبو جهل الذي سيسعى بكل جهده وخلفيات حسده إلى تحويل الصراع من فردي عُصابي إلى عقل جماعي ظلامي، تسلسلت بعده جل المصائب والمضايقات التي طالت الرسولsوأصحابه ، بل أقرب عشيرته من بني هاشم كان في مقدمتهم عمه أبو طالب بالرغم من سيادته ورئاسته لقومه.
وفي سورة اقرأ عند قول الله تعالى:( فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)) سنرى إشارة إلى ما نحن بصدد تحليله من محاولة أبي جهل نقل الحسد الشخصي وضعفه النفسي المتهاوي إلى الاستعانة بالكتلة الجماعية لقريش الكافرة،أو بعبارة عصرية سياسية ،إلى تدويل الصراع ،وذلك سعيا منه إلى توريط الجميع في خندق المعارضة الخاسرة والدمار الشامل الذي ما بعده من جبر !
وهذا فعلا ما سيؤول إليه حال صناديد قريش وزعمائهم من ذوي السلطة والجاه والمال في المجتمع،والذين كانوا قد دعا عليهم النبيsخصوصا لما بالغوا في الإيذاء والجرأة على قدسية المقام العالي بالله تعالى.
فقال:”اللهم عليك بهذا الملإ من قريش ،اللهم عليك بعتبة بن ربيعة،اللهم عليك بشيبة بن ربيعة ،اللهم عليك بأبي جهل بن هشام،اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط،اللهم عليك بأبي بن خلف -أو أمية بن خلف -…
قال عبد الله :فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا ،ثم سحبوا إلى القليب غير أبيّ أو أمية بن خلف فإنه كان رجلا ضخما فتقطع.
وفي رواية :أنهs عين في دعائه سبعة:”وقع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم :وهم عتبة،وأخوه شيبة ابنا ربيعة،والوليد بن عتبة،وأبو جهل بن هشام،وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف.
قال ابن إسحق :ونسيت السابع.قلت – أي ابن كثير- :وهو عمارة بن الوليد،وقع تسميته في البخاري”.
أما غيرهم فمنهم من ابتلاه الله بأمراض شديدة فهلك منها كأبي لهب والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة .
كما سيشخص لنا النبيsهذه المرحلة من الإيذاء المادي والمعنوي في أوجز عبارة وأدق تصوير بقوله:”لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ،وأخفت في الله وما يخاف أحد ،ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال ! “.
إن الإيذاء بمجرد الإيذاء لم يعد يجدي ولم يعط نتائجه المرجوة عند قريش وذلك لأنه تحدي بدائي همجي لا يمكنه أن يقاوم ما جاء به الرسولsمن رسالة فيها حقائق الوجود كله وفيها عقائد وتشريع وإخبار بالغيب ،كما فيها إعجاز بياني ولغوي ما بعده من بيان.
وبما أنهم في هذا المجال – وهم بالطبع بدائيون وبدويون ،بالرغم من أنهم بيانيون ورواد اللغة والتعبير – لا يمتلكون من الطاقة لمواجهة هذه القوة الإعجازية والحمولة الإخبارية التي جاء بها القرآن الكريم فقد لجأوا إلى العالم المتحضر أو المتمدن في عصرهم ،أو بالأحرى لجأوا إلى الاستعانة بالثقافة الخارجية لتوظيف المعرفة الدينية السابقة كمحاولة لكسر هذا التحدي بالندّية المتوهمة لديهم وإضعاف أثر قوة الخطاب القرآني بقدر الإمكان.
وهنا ستبتدئ مرحلة الحرب الثقافية والمراوغة العقدية علها تثني أو تفتح فجوة اختراقية للخطاب القرآني ،ولو كانت جد صغيرة، كمحاولة لإبراز تناقضه وكذا الترصد ضد أقوال النبيs حتى تتخذ ذريعة لصد الناس عن الاستماع والاستمتاع بنور الرسالة وفيضها ألفاظا ومعاني.
فكان من أبرز من وظف هذا المجال كبديل ثقافي مموه هو النظر بن الحارث الذي كان يعد من شياطين قريش”وممن كان يؤذي رسول الله sوينصب له العداوة ،وكان قدم من الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار .فكان إذا جلس رسول اللهs مجلسا فذكر فيه بالله وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله خلفه في مجلسه إذا قام ،ثم قال:أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه ،فهلم إلي فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ،ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار ،ثم يقول:بماذا محمد أحسن حديثا مني؟ ! “.
وهذا النوع من التحدي لهو من أخطر أنواع الصرف الذاتي والتمويه المعرفي ،خاصة إذا أضيفت إليه قيمة الاستيراد من الخارج باعتباره بلدا متمدنا وحضاريا سباقا ،وهو ما قد يؤدي إلى الانبهار والاستلاب ، كما الاستهانة بكل ما هو محلي ويدخل في حكم الإنتاج الداخلي والزهد في من جاء على يده،وذلك بحسب المقاييس البشرية العادية ومنطق التأثير والتأثر.
إذ الفرس قد كانوا حينذاك بمثابة الدول الغربية اليوم وتطلع الشعوب والفقيرة ،وحتى دولها غير المتقدمة اقتصاديا وعلميا ،إلى ما قد تعتبره تفوقا ومثالا ينبغي أن يحتذى ويقتدى به.يتبع…