النبوة في مواجهة المعارف الدقيقة والتحدي العلمي
الدكتور محمد بنيعيش
أولا:اختبار نبوءة النبي بأحداث التاريخ ومطابقة الواقع
لما عجزت قريش عن إفحام النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من الناحية المادية والمحاكة الأدبية ،وتيقنت بأنه قد لا يكفي لإحداث هذا الاستلاب ،فقد لجأت إلى الاستعانة بالخارج أو المعارض القريب من المكان و الميدان ،تما كما توظف بعض الدول والقوى المعارضة الوسيلة الثقافية أو الأيديولوجية ،إما علمانية صرفة أو مغلفة بغلاف ديني أخلاقي في الظاهر لغرض ضبط الشعوب واحتوائها أو لإشعال نيران الثورات وإذكائها.
وهذا النوع من السلاح المموه هو ما كانت قد لجأت إليه قريش بذكائها الماكر وقياسها المغالطي من خلال توظيف شيطانها النضر بن الحارث ومعه عقبة بن أبي معيط وبعثهما”إلى أحبار يهود بالمدينة ،وقالوا لهما :سلاهم عن محمد ،وصفا لهم صفته ،وأخبراهم بقوله ،فإنهم أهل الكتاب الأول ،وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء…”.
فلما أرسلوهما ووجهوهما بأن يسألا،لأن العلم لا يتحقق إلا بالسؤال،والمعرفة مطلب واستكشاف للمغيب: “فقالت لهما أحبار يهود :سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ،فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم :سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ،ما كان أمرهم؟فإنه قد كان لهم حديث عجيب ،وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟وسلوه عن الروح ما هي؟ فإن أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم”.
وعن مسألة الروح هاته كتحقيق تاريخي فقد ثبت في الصحيحين أن اليهود أنفسهم سألوا عن ذلك رسول الله بالمدينة فتلا عليهم الآية .فهي إما نزلت مرة ثانية أو ذكرها جوابا ،وإن كان نزولها متقدما.ومن قال إنما نزلت بالمدينة واستثناها من سورة سبحان ففي قوله نظر :والله أعلم”كما عقب ابن كثير.
لسنا الآن بصدد التفصيل في موضوع قصة أهل الكهف وذي القرنين أو الروح،إذ هذا يدخل في حكم التفسير والتأويل المعرفي المعمق ولكن ما نقصده هو تبين مستوى المواجهة التي أصبحت قائمة بين النبيs والمعترضين على دعوته مع اتساع رقعتها كما ونوعا وحسا ومعنى.
إذ مسألة أهل الكهف قد اتسمت بسؤال العدد خاصة،عدد الأشخاص وعدد السنين،وذلك في عرض قضية تفاعل الزمن مع المكان وأثر ذلك على المتمكن وحيزه وأعراضه،مع الإشارة إلى خاصية الزمن المتحرك وتميزه شعورا عن الزمن الساكن وإحداثه التغيير في ذات وأعراض المتمكن وطبيعته الجسدية والروحية وكذا قابليته للنمو من عدمه.وهذا قد فتح بابا عريضا للمعرفة وتحديد المقامات وقيمتها بدقة العدد كما نجد ذكر الكلب وتكراره مخلدا باعتباره كائنا موضوعيا يدخل في صلب المعادلة ويسير والكتلة المرتبط بها وجودا وتعلقا ،وإن كان مختلفا عنها روحا وعقلا وإدراكا !
في حين أن قصة ذي القرنين سيكون السؤال فيها مرتكزا على الكم واحتواء المكان الذي يصل مابين المشرق والمغرب من أقصاه إلى أقصاه،جمعا سببيا بالتمكين وبسط النفوذ والقوة ،هذا مع تحديد نوع السيطرة وهندستها وطريقة توظيفها .
وبهذا فقد كان بين الموضوعين تكامل معرفي دقيق وبناء للبرهان المنطقي الصحيح الذي يتم عن طريقه تحديد طبيعة الوجود المرئي في الزمان والمكان، وذلك بعرض الكم المنفصل – كما يعبر المناطقة – إلى جانب الكم المتصل تواصلا وتوازيا باعتبار كليهما جناحا يطير بالعارف إلى عوالم النهاية واللانهاية في هذا الوجود.
في حين أن مسألة الروح ستكون عبارة عن المطية لتحقيق المطلب ،وأن معرفتها بالماهية وتحديدها قد يعمل على توظيف الكم المنفصل إلى جانب الكم المتصل لاحتواء المعرفة الماورائية أو الحقيقة الوجودية وغير الملموسة،والتي بواسطتها قد تم لأهل الكهف عبور الزمن الطويل والعديد من السنين في يوم أو بعض يوم،وأيضا بالنسبة إلى ذي القرنين في تمكنه من المكان والأرض خصوصا،بتحويل الكم المنفصل عدديا إلى كم متصل مدديا وكتليا، به تتم السيطرة والقهر والتحكم، مع أنه في الواقع لا يمثل إلا وحدة عددية متمثلة في شخصه ومن معه كأفراد شأنهم كباقي النوع الإنساني.
لكن عنصر الروح فيه ،وسره ،هو من سيكون وراء هذه الخاصية والتمكين الذي ليس لها مصدر واستمداد إلا من الأمر الإلهي الذي لا يرد ولا يقهر(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
إنها أسئلة جد معقدة عن قضايا أعقد منها وأشكل عند محاولة الجواب بالمقاييس العقلية العادية والتحاليل المفصلة ،كما أنها تتطلب استعدادا معرفيا قويا عند المسئول وتقبلا وقوة إصغاء لدى السائل حين تلقيه الجواب المناسب.
فقد يمكن أن تطرح سؤالا ما مع اقتناعك بأنك تعلم النتيجة مسبقا،وهذا نوع من التحكم المعرفي والذاتية المغلفة نحو الموضوع ،لكنك قد تفاجأ عندما تواجه عارفا بالسؤال أكثر إدراكا لنفسيتك العميقة و أدق منك فيعطيك تفسيرات وتفصيلات وحقائق لم تكن تخطر لك على بال ،فتجدك حينئذ قليل العلم ناقصه ما أحوجك إلى المزيد ! .(وقل رب زدني علما ).
ثانيا:الجواب النبوي رهين بالوحي وطبيعة المسؤول عنه
كما قد يفاجأ العارف نفسه بالسؤال مع الحيرة في الجواب ،ليس لأنه يجهله بل لأنه يتحرج من إنزاله في غير مقامه وعند غير أهله الذين قد يزدادون به حيرة وتيها ،وهذا ليس من مقاصده ابتداء.
ومن منح الجهال علما أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم
ولقد كان في هذه المواجهة سيد العارفين وخاتم النبيين والمرسلين طبيب القلوب وجراح العقول سيدنا محمد sوهو المؤهل لكل الإجابات عن أي سؤال وفي مقامه المناسب على قاعدة (وأما السائل فلا تنهر )وأيضا على مبدأ”سل عما بدا لك”كما أجازه لبحيرى سبق وبيناه في كتاب :نور الأمين.
لكن بما أن المسالة هي عن أحكام الغيب وعن الماهيات الوجودية فإن الرجوع فيها دأبا وسلوكا ينبغي أن يكون دائما إلى مالكه وربه وهو الله سبحانه وتعالى(عالم الغيب والشهادة)،(ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
وهنا جاء الرد لما أتوا إلى رسول اللهs فقالوا:يا محمد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب ،وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ،وأخبرنا عن الروح ما هي ؟قال:فقال لهم رسول اللهs :”أخبركم بما سألتم عنه غدا”ولم يستثن ،فانصرفوا عنه فمكث رسول اللهs – فيما يذكرون – خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل ،حتى أرجف أهل المدينة ،وقالوا :وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ،وحتى أحزن رسول اللهsمكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ،ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة الكهف : فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف (ذي القرنين)والروح”.
إنه لامتحان كبير للنبيs شبيه بمسألة توقف الوحي عند بدايات نزوله ،ثم استئنافه بسورتي الضحى والشرح ،بل إن هذا الأخير أعسر وأحرج من الأول وذلك لما فيه من تجاذبات معرفية وسلوكية ونفسية واجتماعية ،ولما فيه من إثبات خصوصية الدعوة الإسلامية وأنها ليست ملكا للنبيs كشخص حر له الحق في الإجابة متى شاء وكيف أراد وعلى ما بدا له.
إذ هنا جاء التوقف بعد سؤال التحدي وبعد الوعد بالإجابة غدًا زمانا محددا ،يقينا وتحقيقا من الرسول بأنه يستند على مصدر معرفي لا يخطئ ولا يتشابه عليه الأمر فيه و لا يخلف ولا ينسى ،وهو المالك لزمام الأمر وبيده المدد وإليه المرجع.
فلا الملائكة ولا الأنبياء ومعم الأولياء لهم الحق في الإحاطة بعالم الغيب والنفوذ إلى مجاله أو التصرف فيه إلا بإذن من الحضرة العلية الإلهية ،منه سبحانه لا معقب لأمره.
لهذا فلما أخبر الرسول سيدنا محمدs الروح الأمين جبريل عليه السلام عن سبب احتباس الوحي عنه لمدة وتأخره في تلك الفترة الحرجة وأمام التحدي المطروح كان الجواب من الحق تعالى على لسان الملائكة يتقدمهم جبريل عليه السلام:(وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا).
وبالمقابل جاء الخطاب موجها إلى شخص النبي sفي سياق التمييز بين مقام الألوهية ومقام العبودية فيما يخص امتلاك المعرفة ذاتيا أو بالوساطة وضرورة الرجوع إلى الحق لتثبيتها به وإليه ومنه،على قاعدة :”عرفت ربي بربي ولولا ربي ما عرفت ربي”.
وبهذا فلن يكون نسيان أو احتجاب وإنما كانت مرحلة تربية وترقية وتثبيت أرادها الله تعالى لنبيه ورسوله وحبيبه سيدنا محمدs إذ قال له 🙁 وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)).
فالنبيsبحكم حرصه على هداية قومه ومواجهته للتحدي سيكون بالطبع يريد الجواب في الحين ،ليس من أجل تثبيت نفسه وإرضائها ولكن لإقناع غيره وغيرة على ربه ومرسله من أن يُكفر به أو يُشك فيه.وهذا الحرص سيزيده مقاما على مقام وعبودية على عبودية وأمانة على أمانة ،وهو يمثل درجة عالية من الإخلاص لله تعالى في توحيده و طاعته ونصرة دينه ،والإخلاص في خطابه لقومه وحرصه على هدايتهم وإنقاذهم بالمعرفة والعلم كأهم عنصر في الدعوة وأرسخه في تثبيت العقيدة والإيمان.
ولكن(ما ودعك ربك وما قلى)و(قل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا).إنه خطاب القرب والازدياد منه كي ينزله حيث أنزله الحق سبحانه وتعالى.