الوحي الإلهي و الاستقلال عن الذاتية الإنسانية للنبي
الدكتور محمد بنعيش
أولا:الوحي وتحديد وظيفة النبي عند السؤال والجواب
إن قرار الوعد بالفعل في الزمان والمكان المحددين ليس من اختصاص الإنسان ولو كان نبيا رسولا (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي ارض تموت)،وهذه مبادئ المعرفة القارة عند النبي الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،ولكنه يبدو في الظاهر كـأنه قد أُنسيها مؤقتا وعرضيا لكي يرقى إلى ما هو أعلى منها ويزداد بها معرفة وانشراح صدر وإدراك.
وهذا ما حصل أيضا لسيدنا موسى عليه السلام في قصته مع الخضر ،الواردة في سورة الكهف أيضا ،كتأكيد لهذا المعنى والغاية المعرفية من نسيان الأنبياء والرسل ومعهم حتى الأولياء الملهمين،باعتباره كمالا وانتقالا مقاميا وليس نقصا أو إخلالا معرفيا وسلوكيا،حيث يقول الله تعالى 🙁 وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) ).
ثم جاء على لسان موسى عليه السلام وحواره مع الخضر:( قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا).
وبهذا فقد يكون النسيان مقدمة كبرى لتحصيل العلم والمعرفة والانتقال في المقامات ، كما أنه بمثابة محطة استراحة معرفية وإعادة التأهيل للعروج نحو المعالي وعلى قواعد ثابتة ومطردة ، وهذا يحتاج إلى دراسة جد معمقة ومفصلة بحسب المقام ،فحسبنا ما أشرنا إليه في هذه الاستراحة.
فقلد كان تأجيل الجواب عن أسئلة قريش ، ومعهم اليهود المترقبين،بالنسبة إلى النبيsامتحانا معرفيا وتثبيتا باطنيا ودرسا معرفيا من نتائجه : إعطاء الحرمة والقيمة للمعرفة وأنها ليست تحت الطلب بمجرد الأهواء والنزوات .إذ لو تمت الإجابة في الحين لما كان لها من الأثر مثلما حدث بعد هذه المرحلة من التشويق والترقب والتشكيك والتحسر وكذا الإشاعة ،أو ما قد يصطلح عليه في عصرنا بالضجة الإعلامية التي واكبت هذا الانتظار ، وذلك بالنسبة إلى من كان يريد التعرف على الحقيقة كما هي أو من كان يتصيد الفجوات لإطلاق العنان للتكذيب والتبكيت المبيت.
حتى إذا شاع الخبر وانتشر واضطربت النفوس واشرأبت الأعناق جاءهم الجواب المعجز بتفصيل و تدقيق ما بعده من تحقيق.وبقي الرسول رسولا ثابتا ومتحديا في مواجهة تصدع المعارضة المنهزمة معرفيا وعلميا والتي فوجئت بما لم تكن تضعه في الحسبان .وكيف لا والمجيب هنا هو الموحى إليه من ربه النبي الأمي سيدنا محمدs الذي لم يكن يجيد قراءة ولا كتابة فإذا به فجأة يغوص بقومه في عالم لا متناهي من المعرفة بشتى أنواعها وتخصصاتها، ظاهرا وباطنا حسا ومعنى.
ثانيا:النبوة في مواجهة سؤال قلب الحقائق
لكن التعنت عند المعارضين لم يتوقف عند السؤال عن الحقيقة ،لأنها قد ظهرت وأفحمت وألقمت وحيرت،ولكنهم لما عجزوا عن مواجهتها والتسليم بها انتقلوا إلى نقطة كانوا يتوهمون أنها أصعب من أختها،ألا وهي قلب الحقائق وتغييرها،تغيير السنن والقوانين الكونية بدعاوى الأهواء والنزوات والتكبر عن الاستجابة والتسليم للواقع.
وهذا قد يدخل في باب تحدي مقام الألوهية وصفات الأفعال وليس مجرد تحدي نبي مرسل بشر ،أي أنهم أرادوا إخضاع خصائص التصرف الإلهي لأهواء بشرية دونية ودنيئة (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ).
(وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)) ،( وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)).
فهؤلاء الجاحدون قد توجهوا بطلبهم إلى الرسول باعتباره بشرا ،وهو لا يملك هذا الجواب بحكم المقام ،ولقد كان بالإمكان أن تصيبهم صاعقة وهلاك أو يحل قريبا من دارهم في الحين كما حدث لبني إسرائيل حينما قالوا لموسى عليه السلام (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). لكن صفة الرحمة التي جاء بها سيدنا محمدs قد أمهلت هؤلاء القوم وأجلت العذاب المستلزم إلى حين ، بل قد كان سببا في إنقاذهم من اللعنة الشاملة التي نالت من قبل بني إسرائيل ،وهي التي دعا عليهم بها أنبياؤهم أنفسهم .
فالقرآن يذكر أن قضايا الكون والتصرف فيه أو تحويل حقائقه يبقى من اختصاص الألوهية الذي يمثل التحدي الأكبر ضد كل طاغية يزعم أنه يمتلك ذرة من ذرات الوجود سواء كانت ذاتية أو عرضية ،كما نجد في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام ومواجهته للنمرود:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
وهذا التحدي قد كان في باب تغيير الحقيقة ولكنه جاء هنا من نبي ورسول في مواجهة إنسان ضعيف متكبر وطاغية ومتوهم،وذلك لتحقيق نسبة الوجود إلى مالكه ألا وهو الله سبحانه وتعالى ملكا حقيقيا الذي (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) .
وهذا يمثل عكس مقام كفار قريش الذين ذهبوا إلى تعجيز النبيsكشخص ولكنه في طيه وغايته محاولة لتعجيز مقام الألوهية وإخضاعه إلى مطالب البشر الذين لا حول ولا قوة لهم إلا بالله ،فكانوا بهذا في غاية الجهل والكفر والضلال.
وعند هذا المستوى سيستحيل التواصل واستمرار الحوار وسيتعذر أمل الإقناع وسيكون لا بد من سلوك مبدأ القطيعة والهجرة حتى لا تضيع الحقيقة ولا تخبو الشمس وتخمد حرارتها بسحائب الظلام والعبثية ،وكي لا يتبخر أويغور الغيث بين قيعان لا تحتفظ بالماء ولا تنبت الكلأ.
قال الله تعالى 🙁 وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)).