حصار الشِّعب بين ضرورة الاستجارة الحمائية وضمان الاستمرارية
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا:الحصار ورفعه بالمراهنة على واقع الصحيفة
لقد جاء موضوع الصحيفة الظالمة عند حصار الشعب ،والمعجزة التي لازمتها،يحمل في طياته صورتين متكاملتين كليهما كفيل بأن يخضع القلوب والعقول ومعها النفوس للتسليم بنتائجها .
الأولى: مادية محضة ،وهو ما قد يسلم بنتائجها الكفار والملحدون والمشركون،وتتمثل في كون الأرضة” لم تترك اسما لله تعالى في الصحيفة التي كانت معلقة في سقف البيت الحرام إلا لحسته وبقي ما كان فيها من شرك وظلم وقطيعة رحم”.
وفي رواية أخرى:”فقال أبو طالب :إن ابن أخي قد أخبرني،ولم يكذبني قط ،أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التي كتبتم الأرضة فأتت على ما كان فيها من جور وقطيعة رحم…”.
واختلاف الرواية لا يؤثر على واقع المعجزة ،إذ العنصر الأساسي فيها هو أنه قد حدث فعلا تغير مادي فيها،وفيه انتخاب أحد عناصرها الأساسية المضادة للأخرى بالحذف والإزالة ،لأن المتضادين لا يجتمعان أبدا ،وفي هذه الصحيفة قد كان الحق مضادا للباطل ،والحق أولى بالبقاء من الباطل الزاهق .
فإذن سيكون المحو قد طال مصطلحات الجور والقطيعة والإذاية بغير سبب يستحقها ، وهذا تفسير .
أما التفسير الثاني: فإن الحق هو الذي سيرتفع ويتنزه ابتعادا وغيابا عن مجالس الباطل والمنكر حينما يكون التشويش هو الغالب على المجلس والتجمع حتى لا يضيع خطابه مع أنكر الأصوات وأقذعها :” وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا “.
إذ مآل الباطل إلى زوال لا محالة مهما مكث من زمان ظاهر ا ،وما بني على باطل فهو باطل قطعا،ولذا فبقاؤه أو عدمه سيان،أما ارتفاع الحق فإنه بهذا قد يترك فراغا يفتقد به وجوده عند الضرورة ولا بد .
ولهذا فأثر الصحيفة قد كان قويا وقعه على النفوس وخاصة نفوس المشركين إحباطا وإخضاعا لهم قسرا،لأن هذه المعجزة المادية الملموسة وضعتهم على المحك والمأزق الأخلاقي الذي لا سبيل للخروج من صدمته إلا بالتسليم والإذعان ،لأنه سواء ارتفع الاسم الحق من الصحيفة أو محي الكلام الباطل فإن غياب أحد طرفي النقيض المؤسس للصحيفة هو في حد ذاته مبطل لها ،ومؤذن بأن ما قام به كفار قريش هو باطل في باطل، وجور في جور وحرام في حرام، يرتكب عند بيت الله الحرام ،وفيه اختراق لحرمة المقدس وضياع لكل استحقاق وما يمكن أن يتواصل ويتعايش به الناس.
وأما الصورة الثانية الملازمة للمادية هاته فهي تلك التي ذات الطابع العلمي المعرفي المبهر والبرهاني ،وهذا أيضا أكثر إخضاعا ومدعاة للتسليم بالأمر الواقع والشعور بالدونية في مواجهة الإخبار بالغيب الذي لا يتأتى لكل من هب ودب .
وفي هذه النقطة يوجد مرتكز النبوة ومحورها الأساسي والدعوي والذي عنده يتميز الصادق من الكاذب ،والمعارض بالدليل عن المعارض بالجحود والرفض المبيت مع الترصد وسبق الإصرار : (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) )( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
بحيث عند المراهنة على حدوث الفعل المادي أو عدمه سيكونون قابلين أو ملزمين بقبول النتيجة مع تغليب احتمال فوزهم بالرهان ،لكن لما جاءت على غير هواهم وأمانيهم عادوا إلى موقف أبي لهب وسبوا وتبوا وتألبوا كما سبق وبينا في أول نداء بالدعوة عند قول الله تعالى آمرا رسوله الكريم :”وأنذر عشيرتك الأقربين”.
إذ لما عرض عليهم أبو طالب هذا الرهان المعقول قالوا: رضينا بالذي تقول ففتحوا الصحيفة فوجدوا الأمر كما أخبر الصادق المصدوق s.فقالوا :هذا سحر ابن أخيك ! …وزادهم ذلك بغيا وعدوانا “.
فكان هذا الرفض في الحقيقة ناتجا عن وجود حاجز نفسي قاتم لديهم، ومؤسسا سلفا على عدم التسليم بالتفوق المعرفي الذي أبهرهم به الرسول سيدنا محمد s ،فمالوا حينذاك إلى حليفهم التقليدي إبليس اللعين الذي غرق وأغرق معه كثيرين في أوحال الحسد والاستكبار.
فالملاحظ على بعض رواة السيرة ،وخاصة ابن إسحق ،ذكر قصص لأصحاب النبي s من غير بني هاشم وهم يعانون من حصار آخر ومضايقات وتعنت ما بعده من تعنت كأسوأ صورة للتعذيب والتنكيل والتحدي ومحاولة إضعاف النفوس واصطياد الفرص لتوهين العزائم .
وهذه القصص قد تنبه إليها ابن كثير بذكاء وذوق ،وذلك لأنها جاءت متزامنة مع حصار الشعب وموازية له، قد تحمل معاني وأبعادا عقدية وتربوية ستظهر لنا مفهوم الصحبة الحقيقية وقيمة وحدة الشعور لدى المسلمين المتنورين، كما أنها ستعطي دروسا للاحقين عن طبيعة هذه المدرسة المحمدية وسر قوتها وتماسكها واستمرارها إلى حين تحقيق الهدف الأسمى المنشود.
فقد علق على هذه الأحداث بقوله:”كل هذه القصص ذكرها ابن إسحق معترضا بين تعاقد قريش على بني هاشم وبني المطلب وكتابتهم عليهم الصحيفة الظالمة وحصرهم إياهم في الشعب وبين نقض الصحيفة وما كان من أمرهم ،وهي أمور مناسبة لهذا الوقت ،ولهذا قال الشافعي رحمه الله :من أراد المغازي فهو عيال على ابن إسحق “.
ثانيا:رفع الحصار بين خيار الجوار الحمائي أو الاكتفاء بالتزام المبادئ
أذكر من بين هذه المواقف قصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في رواية السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت:”لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ،ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله s طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة ، فقال:أين تريد يا أبا بكر ،فقال أبو بكر :أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي .
فقال ابن الدغنة:فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله.إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم ،وتحمل الكل وتقري الضيف ،وتعين على نوائب الحق وأنا لك جار ،فارجع فاعبد ربك ببلدك.
فرجع وارتحل معه ابن الدغنة ،وطاف ابن الدغنة عشية في أطراف قريش فقال لهم:إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج ،أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ،ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق؟ !
فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة ،وقالوا لابن الدغنة :مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ويصلي فيها ،وليقرأ ما يشاء ،ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به،فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر.فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره .ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره ،وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن ،فيتقذف نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه،وكان أبو بكر رجلا بكاء ،لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن .فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا:إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره ،فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن الصلاة والقراءة فيه ،وإنا قد خشينا أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا فانهه ،فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل،وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك ذمتك ،فإنا قد كرهنا أن نخفرك ،ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة:فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال :قد علمت الذي قد عاقدتك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي ،فإني لا أحب أن تسمع العرب أني قد أخفرت في رجل عقدت له.
فقال أبو بكر:فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل “.
هذه القصة فيها دروس وعبر ومواقف لا يثبت عليها إلا الأكابر وأصحاب الهمم العالية ، نستخلص بعضا منها كالآتي:
ظاهر القصة يوحي بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قد كان خارج الشعب ،وهذا يعني أن قريشا كانت قد خصصت بني هاشم وبني عبد المطلب وحدهم بالحصار ،أما الآخرون من بني تميم وبني عدي وبني مخزوم وغيرهم فقد كانوا خارج اللعبة أو الدائرة ،في حين كان السياج مغلقا بالحراسة المشددة حتى إنه لم يكن ممكنا لأحد أن يسرب للداخلين فيه ولو شربة ماء أو كيس دقيق ،وهو ما تدل عليه الروايات مع محاولة بعض الغيورين فك العزلة عنهم لكن بدون جدوى ،حتى إن قريشا بعد كتابة الصحيفة “قد عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم ،واشتد عليهم البلاء وعظمت الفتنة ،وزلزلوا زلزالا شديدا ،حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع…”.
فكان أبو بكر بحسب هذا من الذين أوذوا بالتوازي مع الحصار ومن الخارج ،وهو أشد على نفسه ممن هم بالداخل،لأنه قد أصبح محاصرا روحيا أكثر مما هو ماديا ،وأن أسوأ ما كان فيه هو أنه صار منقطع التواصل مع رسول الله s بشكل منتظم وكلي حيث يجد مصدر غذائه وحياة قلبه وروحه .
فالفتنة بالنسبة إليه أشد وأخطر،وفيها امتحان لسويداء قلبه وثباته على صدقه وتصديقه . بحيث قد كان لا يفصله عن الاستسقاء بالعين ومصدر الحياة إلا جدار عازل وهمي وهو جدار الحصار، ومع ذلك فهو محروم من الاغتراف المباشر والنهل لحد الارتواء الكامل من غير تشويش .
لكن المشركين ومظلمي القلوب لم يفهموا بأن عالم الأرواح لا يحتجزها المكان ولا تحجبها الجدران ولا ينال منها الحرمان،وإنما هي الهمم العالية التي قد تنشط حينما تواجه هذا النوع من العوارض والتحدي الذي لا يزيدها إلا إصرارا على المبادئ واستيقانا بالحق وتشبثا به. وهذا ما قد يفسر لنا كيف أن أبا بكر سعى بالهجرة إلى الحبشة، وهو لا فرق لديه بين أن يكون في مكة أو في غيرها طالما أن شخص الحبيب في الظاهر قد يبدو محجوبا عنه ومحاصرا بشمسه وأنواره،إذ الحرية هي حرية الروح والقيد قيدها لا قيد الجسد وأقفاله.
إن أبا بكر هذا قد قبل بجوار ابن الدغنة مع الشرط الذي اشترطته عليه قريش ،وذلك أملا في أن يرفع الحجاب ويزول الحصار عما قريب ،فكان هذا القبول بإرادته ومؤمله لا بإرادة الغير وضواغطه ،لأنه قد كان في مقام البسط إن صح التعبير، أو لنقل بحسب المصطلح الفقهي في وضع الرخصة :”فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه ،ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره”.
فلما غلب الحال على أبي بكر وانتقل من مقام البسط إلى مقام القبض والعزيمة أصبح الحال والمقام محكما لديه ودخل في ميدان أولي العزائم من الرجال الكُمَّل الذين لا ترديهم هاوية ولا تغويهم غاوية،ولا تستميلهم عطية أو هدية ،فقرر حينذاك واختار مسلك الحرية بالله وفي الله وإلى الله ،ومن ثم ألغى الشرو ط المفروضة عليه ،فكان هذا الإلغاء بالحال والذوق والشوق وليس بالتحدي النفسي أو خفر الذمم ذاتيا ونفعيا.
وهو في هذا الموقف يكون قد حدثت له وحدة شهود وفناء في عبادة الله الحق الواحد الأحد جل جلاله، فقال عندها لابن الدغنة ولقريش كلها وللعالم أجمع ،كرسالة وعبرة وموعظة وتذكير :فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل”.
في نفس السياق والمقام نجد قصة أخرى شبيهة بهذه وتسقى من عين واحدة عذبة ومغذية وهي حالة عثمان بن مظعون رضي الله عنه ،الذي عاد من هجرة الحبشة ليجد نفسه مهجورا بين قومه وممنوعا من أن يتواصل مع حبيبه وقرة عينه ومنقذه سيد الأنبياء والمرسلين وخاتمهم سيدنا محمد s.
وهذه الحالة تتقاطع مع حالة أبي بكر من حيث مشهد الذهاب والإياب وفي مصعد واحد ومن أحل حبيب واحد وبجوار وصحبة أب واحد، أبوة روح وحياة قلوب ،الذي قد يبدو محاصرا وما هو بمحاصر ومقاطَعا وما هو بمقاطَع لأنه في الأصل والحقيقة واصل .
تقول الرواية:”لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله s من البلاء وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال:والله إن غدوي ورواحي في جوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي !
فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له :يا أبا عبد شمس ،وفت ذمتك وقد رددت إليك جوارك .
قال :لم يا بن أخي؟ لعله آذاك أحد من قومي ؟
قال : لا، ولكن أرضى بجوار الله عز وجل ،ولا أريد أن أستجير بغيره.
قال:فانطلق إلى المسجد فاردد علي جواري علانية كما أجرتك علانية .
قال :فانطلقا ،فخرجا حتى أتيا المسجد ،فقال الوليد بن المغيرة:هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري .
قال: صدق .قد وجدته وفيا كريم الجوار ،ولكني قد أحببت ألا أستجير بغير الله ،فقد رددت عليه جواره.”.