مدينة وجدة : بانوراما الروعة وإلهام من غابة سيدي معافى
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا: مشهد متميز في يوم ممتاز بمنظار مركَّز
لم أكن أفكر بجدية وإلحاح وفيض وجدان أن أكتب يوما عن مدينة “وجدة” عاصمة الشرق المغربي وبوابته على الحدود المغربية الجزائرية بهذه النبرة وهذا الاندفاع الهائج والوهاج.
نعم فهي مدينة تاريخية وعريقة وأصيلة وذات موقع استراتيجي وجغرافي وحدودي متميز ،وذات موارد بشرية وتراث وتاريخ زاخر ورائد في شتى المجالات وعلى شتى الألوان والأشكال .وهي كما يعرفها البعض اختصارا”وجدة: مدينة مغربية قديمة تقع في عمالة وجدة أنكاد وهي عاصمة جهة الشرق وأكبر مدينة بالجهة وتستضيف مقرها الرئيسي، تقع في شرق المملكة على الحدود المغربية الجزائرية، إذ لا تبعد عن المركز الحدودي زوج بغال إلا بحوالي 14 كلم، وبذلك تعتبر مدينة حدودية بامتياز. وتبعد 60 كلم عن ساحل البحر الأبيض المتوسط. في 1 يناير 1994م احتفلت وجدة بألفيتها الأولى. تم اختيارها عاصمة الثقافة العربية لسنة 2018م…
لكن الباعث الرئيسي الذي دفعني لأكتب عنها بشكل مختلف نسبيا عما جرت به العادة وفي موضوع مركز ومستجد هو القصة التالية :
فلقد كنت صباحا يوم الثلاثاء فاتح فبراير2022 في مقر كلية الآداب والعلوم الإنسانية.وبعدما قضيت ما انتهيت من أغراضي هناك راودني الحنين لأتمشى قليلا وأستغل جمال الصباح ونسيمه العليل في غابة “سيدي معافى” المجاورة للكلية مباشرة.
وبينما أنا أسير على مهل وأستنشق الهواء الصافي والنقي جذبني الهوى للصعود نحو قمة الهضبة المطلة على الكلية حتى إذا كنت عند مركز تخزين المياه هناك وقفت هنيهة لأتملى بالمشهد الجميل والمنظر الرائع الذي يعطيه هذا المرتفع نحو المدينة كلها.
نظرت على مد البصر ثم كررت النظر والتفت يمينا وشمالا من فوق ومن تحت ومن قدام ومن وراء.فسرحت نظري بأقصى ما يمكن التسريح وصوبته بأدق ما يكون التصويب فإذا بي فجأة ينتابني شعور بالروعة والجمال والإعجاب نحو هذا المشهد المتكامل لمدينة وجدة الحبيبة ، والذي تلاقت فيه عناصر الطبيعة بكثافة العمران وامتداده على مساحة شاسعة وهادئة وكأنها على موعد من التجمهر المنظم والمتناسب حجما وارتفاعا ولونا وهندسة واتساعا.
وهذا المنظر قد ذكرني بمدينتي الأولى “تطوان” الجميلة في شمال المغرب الجميل حيث كنت أستمتع من خلال “عين بوعنان” أو “طريطة المرس” ببانوراما متنوعة وجامعة بين منظر الجبل المرتفع “ووادي المحنش وجبل درسة” المقابل لجبل غرغيز، ثم الانطلاق انحدارا نحو شاطئ بحر “مرتيل وأزلا “وما جاورهما من ضواحي ونواحي ،حيث كدية الطيفور أو كابونيجرو والمضيق، وهكذا حتى سبتة شمالا وحتى واد لاو يمينا.
ومع اختلاف التضاريس بين تطوان ووجدة فقد كان هناك قاسم مشترك في المنظر وهو وجود مرتفعات تمكنك من الاطلاع على كل المدينة من فوق وكأنك ترى لوحة تشكيلية رائعة من إبداع الخالق العظيم الذي ألهم المخلوق للتمركز عند هذه المناطق وتشييد ما يمكن تشييده من عمران وحضارة.
لكن التميز الذي هالني عند مشهد “مدينة وجدة” هو هذا الانبساط الذي تمدد في جميع أرجاء المدينة حتى قد لا تكاد تدرك الفرق فيه بين مستويات المساكن وكبرها أو صغرها حينما تنظر إليها من فوق ومن جبل وغابة سيدي معافى بالتحديد.
وعند هذا الانبساط والتمدد شبه المتكافئ سينبع التميز فارضا نفسه بقوة وطابِعا للمدينة طابعها الذي تفتخر به وتزهو .بحيث حيثما توجه نظرك وعلى أبعد نقطة من المدينة إلا ورأيت “مئذنة”أو “صومعة” مرتفعة القامة والهامة تخاطبك وتناديك بعد التكبير والتشهد بأزكى وأندى صوتها ” حي على الصلاة حي على الفلاح “.
نظرت ثم نظرت ثم كررت النظر وأعدته بدهشة وإعجاب كأنني لم أر “وجدة” ألبتة من قبل في حياتي ،ولم أر جمالها بهذا البهاء والسناء منذ أن وطئت قدماي تربتها غيارها.فلقد بدت لي تلك المآذن منتشرة بشكل جميل وكأنها أبراج على موعد مع حراسة ومراقبة وإطلالة أهل السماء على المدينة كلها، حراسة تراقب ما يجري فيها من حركة وسكون وما يسعى إليه سكانها الفضلاء والبسطاء من خير وطلب للرزق وذهاب إلى العمل والدراسة ومختلف الأنشطة.
شعرت ،وهذا ذوق شخصي ووجداني غير مفروض على أي كان،وكأن المدينة محفوظة ومحمية من عند ربها سبحانه وتعالى، حفظ فيه رضا ومباركة وأمل وسعادة بالرغم مما قد ينتاب كثيرا من سكانها بحكم الظروف الاقتصادية والمعيشية من صعوبات ضيق الحال وقلة المال والأعمال.ولكن مع ذلك هناك بركة ورضا وقناعة وإيمان كرسته تلك المآذن والمساجد ومعها كثير من الزوايا والطرق الصوفية وغيرها من المعاهد الدينية والعلمية الأصيلة.
شعرت بتلك المآذن وكأنها أعمدة وحصن حصين يحمي هذه المدينة والوطن المغربي العزيز ككل من أي استهداف أو تلف أو فتنة أو انحراف.
لم أتمالك نفسي عند هذه المشاعر فذرفت عيناي وانهمرت منها الدموع بغزارة حتى توجست من نفسي وتساءلت هل هذا انفعال سليم وطبيعي أم أنه مبالغة وحال وهمي له خلفيات مرضية أو مكبوتات نفسية درامية حان وقت تفريغها عند تلك اللحظة وذلك المشهد البانورامي!!! ؟.
وبينما أنا كذلك إذ مر بي رجلان قد يقرباني في السن فناديتهما كي يشاركاني هذا المشهد ،وفعلا استجابا ونظرا وأعجبا بما وصفت لهم ودللتهم عليه.حتى إن أحدهما قد لاحظ دموعي مازالت على خداي فقال لي :”ربما تذكرت يا أخي ذكرى سيئة وقعت لك في هذه المدينة !!!”.
فقلت له :”كلا ! بل العكس هو الحاصل يا أخي فإني الآن في أجمل وألذ ذكرى سحرتني وحركتني وهيجت شجوني في حب هذه المدينة وأهلها والقيمين على مصالحها وشؤونها، سواء في المجال الديني أو الدنيوي والتنظيمي”.
ثانيا:وجدة برجالها و حب الوطن بعمل أهله
وحينما نذكر مدينة “وجدة” بهذا الجمال فإنه يكون من الأليق بنا الإشارة ولو بشكل مختصر إلى رجالها الذين ساهموا بصدقهم وإخلاصهم وغيرتهم عليها حتى أخذت هذا الطابع الجذاب معماريا تجهيزيا ودينيا وعلميا.
فلمدينة “وجدة” رجال فضلاء، ونساء فضليات ،كثيرون منهم من يعمل في العلن ويكافح وينافح ، ومنهم من يسعى في السر يمد ويعاضد وينصح.فكان من أهم ما ميز رجالها ونساءها أيضا هو هذا الميل اللامشروط نحو المبادرة إلى الأعمال الخيرية والمساهمة تطوعا في بناء المساجد والمعاهد والمؤسسات الاجتماعية ذات الطابع الإنساني المحض.
وفي لقاء لي بالسيد عبد الكريم أبو يعلى الكاتب العام لولاية وجدة سابقا ،وهو كان صديقا لوالدي رحمه الله تعالى وكان من بين جيراننا الطيبين في مدينة تطوان ،تربطنا به وبعائلته وإخوانه علاقة أخوة واحترام كبير كأننا إخوة،قال لي :”لقد عملت في مختلف ولايات المملكة المغربية ولعقود فلم أجد مدينة فيها من المتطوعين للعمل الخيري وبكثافة وكمية ونوعية مثلما وجدت عند أهل مدينة وجدة حتى إن البعض منهم كان يساهم بالشاحنات الكبيرة(الرموك) مملوءة طحينا وسلعة …”.
وهذه شهادة ينبغي أن يفتخر بها أهل “وجدة” وولاتها وعلماؤها ورؤساء جهتها وبلدياتها،وهي صادقة وحقيقية ،وأشهد الله عليها بما سمعته أذاني ووعاها فهمي”.
كما وارتباطا بموضوع المآذن والتجهيز والأعمال الخيرية فلا بأس من ذكر بعض الشخصيات الأكثر بروزا وريادة في هذا المجال فيما نسمعه ويشتهر عنهم.مع العلم أن عددهم لا يكاد يحصى.
ومن المعادلة في ذكر الأشخاص فإنه يسوغ لي أن أذكر شخصيتين في الماضي وشخصيتين في الحاضر.
فأهم شخصية معتبرة في ذاكرة مدينة وجدة ويغلب عليها الحضور في الوعي الجماهيري والوجدان الوجدي هي شخصية : زيري بن عطية بن عبد الله بن خزر (توفي سنة 1001) زعيم قبيلة مغراوة من أمازيغ زناتة، ومؤسس مدينة وجدة.
و الشخصية الثانية ما يعرف بالولي الصالح سيدي يحيى بن يونس “حيث المزارات والتبركات والمنتزهات على اختلاف حول تاريخ وجوده ونسبته وما يلاك ويكال حول دوره ووظيفته لكنه بالرغم من كل هذا حاضر في وجدان الوجديين سواء لدى المسلم به وغير المسلم.وهو قد يزوره المسلمون وغيرهم من يهود ونصارى.
وبالمقابل الحاضر والمعاصر هناك شخصيتان بارزتان في وعي وحديث الوجديين أيضا وهذه المرة من ضمن الأحياء وهما أولا:السيد رئيس جهة الشرق وصحاب المقاولات والمشاريع الكبرى في المنطقة “عبد النبي بعوي”مؤسس جمعية بسمة للأعمال الخيرية، حيث الغالب لدى ساكنة وجدة أنهم ينظرون إليه نظرة احترام وتقدير لما يقوم به من أعمال سواء على مستوى العمل الرسمي بالجهة من تجهيز للطرقات والمرافق العامة بالجهة الشرقية وعلى رأسها مدينة وجدة بالتحديد ،بحيث إنها قد تطورت بشكل سريع وملفت للنظر وعند منطقة “سيدي معاف”ى خاصة موضع حديثنا وإعجابنا بالمدينة وأهلها من خلال الطريق الرابطة بين المدينة والغابة وتسهيل المواصلات …أو على مستوى الأعمال الخيرية ذات الوظائف المختلفة يشهد لها كثير من سكان وجدة ومن استفادوا منها من غير مقابل أو عوض ، إضافة إلى الجانب الخلقي في التعامل مع المواطنين والتواضع المؤسس للتواصل والتفاعل البناء.وهذا ما لاحظته ميدانيا وسمعته أذناي ووعاه سمعي من أطراف عدة…
إلى جانب هذه الشخصية يحضر بقوة ووضوح لا غبار عليه وخاصة في الميدان الديني والعلمي فضيلة الأستاذ ورئيس المجلس العلمي السيد “مصطفى بن حمزة” .ولقد كان أول من تذكرته ودعوت له عند هذا المشهد البانورامي الجميل جدا ،بحيث قد كان ومايزال هو المؤسس الرئيسي له في مدينة وجدة بلا منازع ،حتى قد يمكن لنا وصفه بأنه “عاشق المساجد”.وهذه صفة مدح لا شائبة فيها قد ازدادت قناعتي بها منذ تلك اللحظة التي وصفتها في بداية المقال.
فمهما اختلفنا في التوجهات وطرق العمل فإننا قد نتفق على هذا المبدأ الجميل والعقيدة الراسخة في حب الله تعالى ورسوله وتعظيم حرماته وشعائره.إضافة إلى أنه قد يلتقي مع شخصية السيد عبد النبي بعوي في باب الأعمال الخيرية والإحسانية بشتى صورها وأشكالها.
فالأستاذ مصطفى بن حمزة رجل علم غزير وأدب رفيع وعزيمة وثبات على المواقف، بل رجل نجدة ومؤازرة ومبادرة.وهو علم كبير ورمز ومعادلة صعبة في هذه المدينة، بل الجهة ، بل الوطن ككل.رجل يحب وطنه ومدينته ودينه.رجل مسلم ومفكر وأديب .ولا تذكر مدينة وجدة إلا ويذكر مقترنا بها الأستاذ “مصطفى بن حمزة” حفظه الله ورعاه.
وهذه الشهادة قد أملاها علي ضميري وتقديري للرجل بالرغم من أنني لا تربطني به مصلحة تذكر ،ولكن حينما تتحد المقاصد والأهداف والغايات ويكون الصدق في الطلب والعمل عندئذ تذوب الحزازات والفوارق ويشملنا الحب العام والمصلحة العامة، ولا يهم هل تحبني أو تكرهنني.المهم هل تحب من أحب أو تكره من أكره .وفي حبنا لله ورسوله ووطننا واستقرار بلادنا وتأييد ملكنا محمد السادس نصره الله ووفقه وسدد خطاه نلتقي، إذن فيكون واجبا علينا الإدلاء بشهادتنا لا نرجو منها جزاء ولا شكورا.والله الموفق والمؤلف بين القلوب .