التيكتوك مستودع خلفي لصناعة المحتويات الرديئة
* عزيز باكوش
يجري اليوم على نطاق واسع عبر منصات السوشل ميديا ،لا سيما التيكتوك الصيني المنشأ ، تدجين صناعة المحتوى المرئي على نحو مريب. فصناعة فيديو رديء ، مفتعل ، بسيناريو محبوك وجعله حدثا اجتماعيا واقعيا، ونشره كما لو أنه حقيقي ، ووثيقة سجلتها إحدى كاميرات المراقبة بالبيت ،أو المثبتة في زوايا الحي أو الشارع الطويل ، مع اختيار صورة غلاف غاية في الإدهاش والإبهار .بات ديكورا يوميا للمتعة الذاتية وخيارا مرغوبا فيه ، لكن من غير أن يشكك أحد أو يطرح الأسئلة الوظيفية حول الأهداف ،الدلالات المعنى والسياق ، ويعمق السؤال ،كيف ومن ولماذا؟
فسواء بدافع الربح المضمون والكسب السريع وركوب موجة الحضور الدائم على السوشل ميديا ، أو لإشباع رغبة ذاتية وفضول استكشافي وتلبية غريزة نداء السادية ،تطفو اليوم وبغزارة على مواقع التواصل الاجتماعي ، نوع من الفيديوهات المفبركة المركبة ذات المحتوى المخل بكل القوانين والأخلاقيات والضوابط المتعارف عليها .
يتعلق الأمر بمحتويات ذات أفكار وتصورات تعتمد الإدهاش والصدمات النفسية ليس إلا . فصناعتها وإخراجها لتصبح منتوجا مرئيا قابلا للمشاهدة لا تحتاج لتقنيات الفيديو المتعارف عليها أكاديميا ، من طاقم بشري مؤهل فنيا وتقنيا ، بدء من حبكة فنية وكاتب القصة ومدير إنتاج ومخرج وممثلين لهم خبرة في المجال.
ولعل نموذج الشابين الذين يضعا رضيعا ملفوف بغطاء ،في كيس بلاستيكي من الحجم الكبير تحت ظل شجرة ، ويقوم أحدهما بتصوير المشهد بسرعة واهتزاز ، ليضفيا طابع الواقعية والاستعجال على الحدث المفبرك كما لوكان العثور على الرضيع مشهدا حقيقيا في الواقع . هذا المشهد الدرامي يسجل أرقاما قياسيا في المشاهدات ، بمعدل 20 مشاهدة مكررة للشخص الواحد . دون احتساب التقاسم والمشاركة .
والأمثلة كثيرة ولا حصر لها : محتوى مرئي بالأبيض والأسود يبدو للعيان كما لو أن كاميرا المنزل سجلته ، وهو لا يختلف عن سابقه في الفبركة والإخراج من زوايا وأمكنة مختلفة ، شابة تمشي وحيدة في درب خال من المارة، تتأبط محفظتها ولا علامة للخوف ، لكن سرعان ما يتربص بها شخصان فوق دراجة نارية، فتتدارك أنها معرضة لسرقة ،فتقوم برمي محفظتها بذكاء وبديهة غير مسبوقة من فوق السياج الحديدي لتستقر داخل حديقة بيت بجانبها . في هذه الأثناء ،يصاب اللصان بالخيبة، فيمتطيا دراجتهما وينصرفا بسرعة جنونية .
فيديو يظهر مغامرة صادمة لأحد الشباب ، حيث يقوم بانتشال طفلة من أمام حافلة ، فيجنبها صدمة حقيقية وموت وشيك ، المشهد نفسه يتكرر من زوايا ومواقع مختلفة . فيديو شخص يفاجئ زوجته في عيد ميلادها بهدية ،لكنه يجدها في وضعية خيانة مع مجسم رجل ملفوف بعناية في غرفة نومه. لدرجة لا يمكن التفريق بين الكاميرا الخفية وكاميرات المراقبة في المنازل والشوارع والأزقة. ومع انتشار كاميرات المراقبة بشكل ملفت في كل الأماكن والفضاءات المفتوحة والمغلقة، تتناسل المشاهد التصويرية المفبركة ، في نماذج متعددة للتقليد في المحتويات، بل هناك أمثلة كثيرة وأشكال متعددة للحدث الواحد.
يثبت الشاب العشريني بنجاح في الزاوية اليمنى من سقف غرفة نومه كاميرا هاتفه الذكي المجهز بأحدث ما وصلت إليه التيكنولوجيا. ثلاث كاميرات جودة عالية ،إضاءة واضحة في الظلام . وبعد أن أعده وضبط بياناته على خيار الفانتاج والتصوير بالأبيض والأسود، قام بإخفائه عن العيون ،لكن بشكل لا يثير انتباه أحد . فالفيديو سيبث ” تحت اسم ” حالة تلبس رجل يضبط زوجته تخونه مع أعز أصدقائه ” وسينشر على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي ،ومصمم أن يكون حدثا اجتماعيا صادما سيتصدر الترند المغربي. أو هكذا تم تصوره.
والحقيقة أن هذه الصناعة على الرغم من رداءتها ، فإنها تمكنت من انتشال آلاف الشباب من البطالة والضياع . وبات العديد منهم يستثمر في بناء المواقف وصناعة المحتويات ،بذكاء بارع ومهارة ملهمة للغاية . بل هناك من يجني ملايين السنتيمات كعملة صعبة نتيجة المشاهدات القياسية لبعض محتوياته المنشورة بحسابته على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي. في ظل هامش رحب لحرية التعبير والابتكار ، خارج أي نوع من الرقابة ،باستثناء ضوابط الموقع ذات الهامش العريض لمبدإ الحريات بلا حدود .
ومع الهامش الفضفاض لحرية التعبير والإنتاج والتسويق ، تحولت بعض مواقع التواصل الاجتماعي إلى مزبلة حقيقية . ذلك أن صناعة قصة تراجيدية مشوقة، بتقنيات بسيطة غير مكلفة ، إنساقت ورائها الحشود ، وبات جمهور عريض يتلهف ويتهافت وراءها ، ما عبد الطريق أمام سياسة غسل الأدمغة والتلاعب بالعقول ، هذه السياسة التي أعمت أعين الحشود عن رؤية الواقع المأساوي في شموليته.
ومع تناسل عدد الحشود من مشاهدي التيكتوك ، انتشرت بشكل فظيع صناعة الفيديو المفبرك تدخل المحتويات مرحلة التهجين تحت شعار ،صور ما تشاء، فبرك ما تشاء، انشر قذارتك،وعمم سخافاتك وفشلك الآدمي، سيشاهدك الناس، وتمسي نجما في عالم الزبالة المصورة ،فالناس أمسوا يعشقون كل زبيل.
آلاف الحالات والمحتويات المفبركة الرديئة الإنتاج والإخراج تطفو على سطح المشاهدات القياسية على مواقع التواصل الاجتماعي،وتحقق لأصاحبها شهرة ونجومية فضلا عن أرباح مالية مهمة . وتقدم لعموم المشاهدين كما لو أنها من إنتاج إعلام المواطنة، كحدث حقيقي يتم نقله بأمانه لأخذ العبر ، لكن حمولته، وأهدافه وخطورته على القيم والأخلاق بأبعاد شائكة ،وفي حاجة لتحليل عميق.
هل يتحسن مزاجنا فعلا عندما نفتح بوابات التواصل الاجتماعي ؟ وهل نشعر بالسعادة النفسية حين نشرع في تقليب المحتويات ، وتصفح الأوضاع والحالات الوقائع والأشياء ،ونستكشف صعودا ونزولا الفضائح والأعطاب والأشياء المذهلة ؟
يعتقد الكثير من الناس أن سعادتهم تكبر ، وينشرحون ، وهم يستكشفون عوالم مغايرة رحبة بعيدة عن المألوف ، ويتنفسون الصعداء كلما غطسوا في بحر هذا المحيط الأزرق السحيق ، وتفاعلوا مع فضائحه وعجائبه ومغرباته …