عدوى المداولة
محمد شحلال
انفرد الجهاز القضائي بمصطلح،،المداولة،،في ممارسة مهام الفصل بين الناس منذ أن انتقل الانسان في المجتمعات التقليدية من قضاء،،الجماعة،،برئاسة،،أمغار،،الى عصرنة هذا الجهاز عبر ثلاث درجات من مراحل التقاضي كما هو الحال ببلادنا.
وبقدر ما فتح المجال أمام المتقاضين لربح مزيد من المكاسب، عبر تدرج المساطر : من المحاكم الابتدائية فالاستئنافية انتهاء بمحكمة النقض والابرام،بقدر ما تعطلت مصالح وحقوق كثير من الضحايا الذين يقضي بعضهم وملفاتهم تراوح مكانها في رفوف غرف المحاكم.
يعتبر قرار المداولة بمثابة فسحة تأمل يسعى خلالها القاضي لتحديد نوع الجزاء او العقوبات التي تمليها قناعته وتقديراته،لكن هذه المداولة تشعر أطراف التقاضي بكثير من المرارة خاصة بالنسبة لبعض القضايا التي تتأثر بالتأخير وعواقبه،وهو الأمر الذي جعل أحد شيوخ بلدتي يتحول ذات زمان الى ،،علم،،في أرجاء القبيلة،حين انتفض خلال احدى جلسات المحكمة التي انتهت الى اعلان المداولة عدة مرات في وجه القاضي وبكل عفوية :
(واش انت ماتعرف غي مداولة مداولة ؟)
غضب القاضي الذي لم يألف مثل هذه الجرأة في مكان يتحكم فيه بدون منازع،فأمر بسجن الشيخ الذي انعتق في اليوم الموالي بسبب سنه و،،بداوته،،!
لعل كثيرا من المتابعين قد يستحضرون قصصا لا نهاية لها حول ما يعرفه مجال القضاء من أحداث ومظالم ،حصلت بسوء التقدير او العمد،لكن الحديث في القضاء،كان مجرد ممر لمجالات أخرى انتقلت اليها عدوى ،،المداولة،،!
ان الطبيب الذي كنا نتردد عليه في الماضي خلال فترات متباعدة،قد ابتكر بدوره طريقة لضمان العودة المنتظمة عبر مجموعة من ،،التوصيات،،التي يتعين الامتثال لها.
وهكذا،يعمد في مرحلة اولى الى تجريب وصفة علاجية يتعين بعدها العودة للتأكد من النتائج،ثم يعمد الى طلب القيام بمجموعة من التحاليل وارجاعها لتحديد العلاج الناجع،قبل أن يوصي بالعودة بعد مدة يحددها من أجل المراقبة.
وبالجملة،فان الطبيب قد استوحى من القاضي وسيلة للتحكم في رقاب المرضي عدا انه لا يودعهم السجن،ولكنه يرهن جزءا من عائداتهم.
واذا انتقلنا الى بعض الادارات ،فاننا نجد أنفسنا رهائن لمداولات من نوع خاص،حيث يضطرك المسؤول الى تجميع كم هائل من الوثائق والمستندات قبل الوصول الى حق يصل أصحابه بكل انسيابية في الدول التي تخدم مواطنيها.
لم يسلم مجال التعليم من مفهوم المداولة ،حيث لا بد من فسحة تداول لتحديد مصير المتعلمين وان كان التداول هنا يختلف تماما عما يجري بين،،السادة القضاة،،لكن التداول في قطاع التعليم،يتحول الى كابوس حين يتعلق الأمر بالدراسات العليا بعد نيل شهادة البكالوريا،حيث يعيش الطلبة أياما عصيبة وهم ينتظرون القرار الذي يحدد وجهتهم أو يرفض الاستجابة لطموحاتهم.
وبالاجمال،فان المواطن قد تحول الى متقاض من حيث لايدري،وعليه خوض تجربة ،،المداولة،، قبل أن يحلم بالوصول الى هدفه،ولولا أن يفقد الكلام وقعه،لتم استعراض مجالات أخرى يشعر فيها المواطن وكأنه ينتظر قرارا قضائيا حافلا بكل المفاجاءات،مما يحول حياته الى معاناة حقيقية كلما اضطر للعلاج أو تصفية ملف اداري…..