أوكرانيا ورقة التوت التي عَرَّت الغرب
ذ. فؤاد هراجة
في غضون أيام ستسقط كييف، وسينتشر الجيش الروسي في كل أنحاء أوكرانيا، وسيتذكر العالم روح إبليس التي حلت في أمريكا والاتحاد الأوروبي وحلف ”نيتو“، حيث فعلوا بأوكرانيا ما فعل إبليس بآدم وحواء غرّهما بالخلود ودلّهما على الشجرة، فلما أكلا منها بدت لهما عوراتهما…، غير أن سيناريو قصة أوكرانيا مغاير في مخرجاته لقصة الجنة، ذلك أن الغرب أغرى أوكرانيا بقوته التي لا تقهر، ودلّها على شجرة نيتو، ونهاها عن تصديق تهديدات روسيا أو الخوف منها والاستسلام أمامها، واستمرت الإبليسية تفعل فعلها لأيام عبر التصريحات والاجتماعات والقمم الرافعة لشعار الدفاع عن القيم الكونية من حرية وديمقراطية وحقوق إنسان، فلما جدّ الجدّ، وكُتِبَ القتال وتراءى الجمعان تبرأ مثلث إبليس( CE/USA/NATO) من أوكرانيا مذكرين إيانا بقول الله تعالى: «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (الأنفال:48). صدق الله مولانا العظيم، انه تماما نفس النكوص المبني على رؤية المصالح التي لا يراها الآخرون، والخوف من تبعات الحرب أمام قوة عسكرية حقيقية إسمها روسيا القيصرية. إن ما وقع لأوكرانيا مع الغرب لن تجد له وصفا أبلغ وادق من وصف المنافقين في سورة الحشر مع يهود بني النضير حين غرروا بهم وتركوهم لمصير الجلاء ومنه قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقولونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ»، سبحان الله، وكان هذه الآية تصف بدقة متناهية ما فعله منافقو الغرب البروتستانت والكاتوليك مع إخوانهم الأوكران الاورثودوكس. إن المفارقة هذه المرة أن الذي بَدَتْ عورته وانكشفت للعالم ليس المُغَرَّرُ به أوكرانيا، وإنما الغَرُورُ الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، صحيح أن كييف ستسقط عاجلا كورقة التوت، لكنها في المقابل عرّت الغرب من كل القيم التي يتبجح بها، واظهرت مستوى التقهقر والعجز الذي بلغه. لقد ظن الغرب أنه سيثني روسيا ويخيفها بتصريحاته وتهديداته التي يطلقها من على راجمات المكبرات الصوتية، وظن الغرب أن هَيْبَتَهُ التي صنعها على حساب العراق وأفغانستان والصومال سوف تنفعه مع روسيا، إلا أن تشبت هذه الأخيرة بعمقها التاريخي في أوكرانيا سْلاَڤِيَة، ورغبتها في تغيير الواقع واستعادة الأمجاد، جعلت الغرب يذكرنا بموت نبي الله سليمان الذي ظل ردحا من الزمن ميتا والكل ذاعن لا يخالف أمره حتى أكلت دابة الأرض عصاه المخيفة فخر إلى الأرض: «فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُۥ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ» كذلك هو حال الغرب الذي يتكئ على عصا قوته العسكرية والاقتصادية، والتي قضمت جانبها العسكري روسيا، ثم ستقضم جانبها الاقتصادي الصين، ليتم الاعلان عن سقوط دركي وشرطي العالم الولايات المتحدة الأمريكية. إن الحرب الروسية الأوكرانية تقدم لنا عبرا ودروسا بليغة يمكن إجمالها في الآتي:
– بداية نهاية القطب الواحد ودخول العالم منعطف جديد، سيكون لمحور الصين وروسيا وإيران دور كبير في رسم معالمه كل حسب تطلعاته واستراتيجياته.
– انتقال صراع المصالح من الشرق الأوسط إلى آسيا الصغرى والقوقاز، وهو ما يفسر نقل الولايات المتحدة الأمريكية العديد من قواعدها وبوارجها من الشرق الاوسط إلى شرق أوروبا.
– تدني منسوب الثقة في حلف نيتو والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من طرف حلفاىها، إذ يصعب بعد تخلي الغرب على أوكرانيا أن تثق أي دولة في خوض أي صراع باسم الغرب والقيم الغربية.
– إقدام دول أخرى على استعادة وضم أراضي تاريخية لها باستخدام القوة العسكرية وعلى رأسها الصين، مما سيدخل العالم حالة حرب عارمة.
– انتهاء جدوى المنظمات الدولية التي تأسست من أجل السلام العالمي، ومنع وقوع الحرب، وضمان تحرر الشعوب، وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
– إنذار لدول الخليج التي تتوهم وقوف الولايات المتحدة الأمريكية بجانبها لو دخلت في حرب مع إيران، فعلى هذه الدول أن تستوعب الدرس وتبحث عن حلول آمنة وتتجنب التصعيد.
– إعطاء صورة لما سيؤول إليه وضع الكيان الص@يوني عندما تَقِل مصالح الغرب في منطقة الشرق الأوسط، وتتحرر الشعوب وتتصاعد قوى المقاومة ليكون مصير ” إسرائيل“ كمصير أوكرانيا المتخلى عنها مع وجود فارق.
– انهزام أوكرانيا كان يوم قَبِلَت بتفكيك ترسانتها النويية التي كانت تضم ثلثي مفاعلات الاتحاد السوفيتي والقبول بنقلها إلى روسيا، مقابل تعهد هذه الأخيرة بعدم غزوها، وتعهد أمريكا بالدفاع عنها.
– التراجع العسكري للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا سيؤدي إلى تراجع نفوذهما السياسي، ودعمهما للأنظمة الديكتاتورية المستبدة، مما سيفتح مجال موجات تحرر جديدة من ربقة الأنظمة الحاكمة في أمريكا اللاتينية والمنطقة العربية المغاربية وافريقيا جنوب الصحراء.
– ضرورة استشراف ميلاد عالم جديد هو اليوم في بداية مخاض عسير وسيزداد عسرا، صحيح أننا لا ندري كم ستستغرق مدة الولادة، إلا أننا على يقين أن نظاما عالميا في مخاض وأنه سيولد لا محالة، وعلينا أن نتحرر بغية ركوب قطاره، وإلا سنضطر للانتظار مائة سنة أخرى!
– حاجتنا الملحة إلى تقديم قراءات متجددة في القران الكريم خصوصا ما يتعلق بتحديد الذهنيات الفاعلة في التاريخ والمؤثرة في الواقع ( الفرعونية/ القانونية/ النمرودية/ النفاقية/الأعرابية/السامرية/الوثنية/ اليهودية المقاتلة…) ، كيف تظهر وكيف تتبرج، وكيف تتصرف، وكيف ينبغي التعامل معها، وكيف يمكن تجاوزها،
«والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون».