ظاهرة تمييز الواحد بالاعتقاد عند سائر الأمم
الدكتور محمد بنيعيش
مسألة عقيدة التوحيد أو وحدة العقيدة ليست خيارا شخصيا وميلا فكريا محضا ، وإنما هي مكون أساسي في عمق النفس البشرية وقلبها رغم اختلاف الأشكال والألوان والأعراق والأذواق، فالغذاء يبقى هو الغذاء سواء أسميناه لحما طريا أم طائرا مشويا. والتفسير بسيط ومرئي للعيان من غير بيان،لأنه قد يمر عبر مسلك هضمي موحد واستقلاب لا محيد عنه ،حيث التحول إلى جزيئات والتفاعل بواسطة أنزيمات وإفرازات وتقسيمات .
ولهذا فمهما حاولنا أن نغرر بتقبلات هذا المعمل الصناعي الثابت في امتصاص هذا الغذاء أو ذاك مما لا يتوافق مع قانونه وطبيعته فإنه سيرفضه في النهاية ، وسيصطدم معه أو سيمرض بواسطته مرضا لا محيد عنه ولا دواء له سوى استعادة ما هو من ملائمه ومتناسب مع حياته واستمراره.
يقول الله تعالى:” وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ”.” يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ”.”أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ”.
ومن هنا فلقد كان الأصل وما يزال هو التوحيد وتخصيص الواحد الأحد بالتميز والاستفراد،وهذا مما قد يتوافق مع طبيعة القلوب البشرية التي لا تقبل الازدواجية وتعدد التوجه في لحظة واحدة ،وإلا كان التشتت والضياع والضلال الذي لا يؤدي في النهاية سوى نحو الهلاك المحقق.
وكاستقراء نسبي وتتبع فكري فقد نستعرض المفكر الكبير عباس محمود العقاد نماذج من حضارات الأمم الماضية وعلاقتها بالتوحيد ، نذكر من بينها :
أولا: القبائل البدائية، حيث يقول عنها في استناد إلى ملاحظات علماء المقابلة بين الأديان:
“فقبائل الهوتثتوت الأفريقية التي لم تفارق مرتبة الهمجية حتى اليوم، ولا يزال أناس منها يأكلون لحوم البشر، تعرف إلها واحدا فوق جميع الآلهة يسمى: أبا الأباء، وقبائل البانتو الأفريقيون يقسمون المعبودات إلى ثلاثة أنواع: نوع هو بمثابة الأطياف الإنسانية الراحلة وهو الذي يسمونه “ميزمو”MIZIMU، ونوع هو أرواح لم تكن قط في أجساد البشر وهو الذي يسمونه “بيبو”PEPU، ويزعمونه قابلا للتفاهم والاتصال بالعرافين والحكماء، ونوع مفرد لا جمع له وليس من الأطياف ولا من الأرواح المتعددة ويسمونه “مولونجو” MULUNGU، لا يمثلونه في وثن ولا تعويذة ولا تفلح فيه رقية الساحر ولا حيلة العراف، وفي يديه الحياة والسطوة ووسائل النجاح في الأعمال، ويصفونه بأعلى ما في وسعهم من صفات التجريد والتفرد والكمال”
ثم يستعرض صورا من الحضارات الماضية فيقول:
“وصل المصريون إلى التوحيد، وبقيت أسماء الإله الواحد متعددة على حسب التعدد في مظاهر التجلي المتعددة لذلك الإله، فكان أوزيريس هو إله الشمس باسم رع وهو الإله الخالق باسم خنوم وهو الإله المعلم الحكيم باسم توت، وهو في الوقت نفسه إله العالم الآخر وإله الخلق أيضا حيث ينبت منه الزرع ويصورونه في كتاب الموتى جسدا راقدا في صورة الأرض تخرج منه السنابل والحبوب…”
ويحكي عن أخناتون ومناجاته لآتون باعتباره الإله الواحد في اعتقاده: “ما أكثر خلائقك التي نجهلها، أنت الإله الأحد الذي لا إله غيره، خلقت الأرض بمشيئتك، وتفردت فعمرت الكون بالإنسان والحيوان الكبار والصغار”.
أما في الهند فقد “تعززت عبادة الطواطم بعقيدتهم في وحدة وتناسخ الأرواح كما تعززت بعقيدة الحلول. فعبدوا الحيوان على اعتباره جدا حقيقيا أو رمزيا للأسرة ثم للقبيلة، ثم تخلفت عبادة الحيوان حتى آمنوا بأن الله يتجلى في كل موجود أو يخص بعض الأحياء بالحلول فيه وآمنوا بتناسخ الأرواح فجاز عندهم أن يكون الحيوان جدا قديما أو صديقا عائدا إلى الحياة في محنة التفكير والتطهير، فعاشت عندهم الطوطمية في أرقى العصور كما عاشت في عصور الهمجية لهذا الامتزاج بين الاعتقاد الحديث والاعتقاد القديم، لكنهم خلصوا كما خلص غيرهم من هذه العبادات إلى الإيمان بالإله الواحد وإن اختلفوا في المنهج الذي سلكوه، فلم يكن إيمانهم به على الأساس الذي قام عليه إيمان الشعوب الأخرى بالتوحيد” .
وفي الصين: “تتمشى عبادة العناصر الطبيعية لديهم جنبا إلى جنب مع عبادة الأسلاف والأبطال، فالسماء والشمس والقمر والكواكب والسحب والرياح ـ في زعمهم ـ آلهة معبودة أكبرها إله السماء “شانج تي” ويليه إله الشمس فبقية الأجرام السماوية فالعناصر الأرضية”..وإله السماء وهو “الإله” الذي يصرف الأكوان ويدبر الأمور ويرسم لكل إنسان مجرى حياته الذي لا محيد عنه…”
“وموقف اليابان من الرسالة الدينية كموقف الصين على الإجمال، فقد تشابهت عقائدهم في أصولها وعبدوا الأرواح والأسلاف والعناصر الطبيعية.
وإذا كان لأهل اليابان سمة خصوصية في العبادات فهي أنهم اختاروا أنثى لعبادة السلف الأعلى حين وحدوا الأسلاف في أكبرها وأعلاها، وتلك الربة هي “أميتراسوا_أموكامي” التي لاتزال معبودة لديهم إلى اليوم…
فالديانة اليابانية الأصلية ديانة شمسية سلفية جمعت معنى التوحيد أولا في إله السماء حيث تصوروه أبا للخليقة بمفرده أو بمشاركة زوجه، ثم جمعتها في الربة الواحدة على اعتبارها ربة مختارة بين أرباب… ”
و “الأقدمون من الفرس يلتقون مع الهند في عبادة “مترا” إله النور ـ في زعمهم ـ وتسمية الإله بال”أسورا” أو إله ال “أهورا” وإن اختلفوا في إطلاقه على عناصر الخير والشر… فجعله الفرس من أرباب الخير والصلاح، وجعله الهند من أرباب الشر والفساد…
وخلاصة ما جاء به “زرادشت” من جديد في الديانة أنه أنكر الوثنية وجعل الخير المحض من صفات الله ونزل بإله الشر إلى مادون منزلة المساواة بينه وبين الإله الأعلى، وبشر بالثواب وأنذر بالعقاب وقال بأن خلق الروح سابق لخلق الجسد، وحاول جهده أن يقصر الربانية على إله واحد موصوف بأرفع ما يفهمه أبناء زمانه من صفات التنزيه ….”
وهذه الأمم التي استعرضنا صورا من اعتقاداتها رغم أنها تعتبر مشركة عقيدة وعبادة فالملاحظ من خلال استقراء تصوراتها الفاسدة أنها رغم ذلك قد تميل دائما إلى اعتبار القوة أو الغلبة والخصوصية أو الفضل والخير والاستعلاء للواحد، مما يعني أن القلب يجذب دائما نحو التوحيد، إلا أن بعض هذه القلوب بالزيغان وغلبة الهوى والشبهات والشهوات قد ضلت طريقها في صياغته فأنكرته لا من حيث هو حق ولكن من حيث هي ضالة ومتوهمة، فتشوشت شاشة الاستقبال لديها ومن ثم فسدت فطرتها فانحرفت عن مقتضاها الأصلي ألا وهو توحيد الله تعالى الذي به توحيد القلب والنسب والنسبة، “وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون”