حروب أخرى وأهم، تلك التي نسيها العالم؟
الحبيب عكي
يبدو والله أعلم، أنه رغم كل التقدم والتطور الذي يعرفه العالم المعاصر، فإنه لا زال هناك – مع الأسف – من يرى أن بعض المشاكل مهما كانت بسيطة – إن لم تكن متوهمة – لا يمكن حلها إلا عبر الحروب والحروب الضارية، فيجهزون لها كل ما في حوزتهم وحوزة حلفائهم، من العتاد المدمر والأسلحة الفتاكة، فيخوضونها هم ومرتزقتهم بطرق هوجاء، وكأن شعارهم: “علينا وعلى أعدائنا أو نحن ومن بعدنا الطوفان”، ناسين أو متناسين أن الطوفان إذا حل بقوم لا يبقي منهم ولا يذر، وكذلك الحرب لا يربحها أحد لا المعتدي ولا المعتدى عليه ولا حتى العادي بينهما المتفرج عليهما، مصداقا لقولهم: “من لم يطفئ النار في بيت جاره أحرقت داره”؟.
لا أدري كيف لا زال العالم المعاصر، يصر على خوض الحروب الفتاكة بشكلها التقليدي البشع .. أسلحة ودبابات.. طائرات وغواصات.. جنود ومليشيات وطيارين ومشاة.. إبادة الأبرياء.. تهجير اللاجئين .. حرق الغابات والجامعات.. وتحطيم المباني والمنشآت. حتى تصير منطقة التوتر حطاما وكأنها لم تكن يوما في العمران والرونق شيئا مذكورا؟. هل هي عقلية الجنرالات وأبنائهم من النخب والمسؤولين وهم لا يحيون إلا في التوترات والصراعات باسم الهيبة والبطولة التي ينبغي أن يخوضوها على الدوام حتى لا يموتون في السكون أو يفنوا في السلام؟. هل هي سياسة بعض الحكام الذين لا يعتدون بحكم ما لم يستعدوا شعوبهم على غيرها أو حتى غيرها على شعوبهم؟.
لقد قيل في الأمثال: “خير الحروب ألا ترى العدو ولا يراك”، ولكن إذا كان ولابد فلا أقل من خوض نوع من الحروب المعاصرة كالحرب النفسية.. والمقاطعة الاقتصادية.. والعزلة الديبلوماسية.. والحرب الإعلامية والهجوم السيبراني.. وكل واحدة منها لا تقل فتكا بالعدو فما بالك بإضافة بعضها على بعض أو الجمع بين كل شرورها؟، إنها فعلا أخطر الحروب تفتك بالعدو حتى ييبس جلده على عظمه دون تكسير عظام ولا إراقة دماء، وتحاصر العدو حتى في عقر مضجعه دون تكسير أبواب ولا اقتحام مباني؟. كان الله في عون روسيا على عنجهية “بوتينها” وجنرالاته وهم يواجهون بها من العقوبات الغربية والأمريكية ما قد يحولها إلى أشباح موتى وكرنفال جياع؟. هل يدرك الجنرالات معنى أن يكون للشعب أموالا دون أن يستطيع إخراجها ولا صرفها ولو في طوابير المئات والآلاف وانتظار الأيام تلو الأيام؟، أن تكون له سلع ولا يستطيع تصديرها، أو حاجيات ولا يستطيع استيرادها؟.
لا أحد يقول بقبول الاستعمار مهما كانت ضراوته وبلغ طغيانه، ولكن فقط أريد الوقوف على حقيقة شبه تاريخية وهي أنه ما من دولة فرضت عليها العقوبات الدولية إلا وكسرتها وعزلتها وأدخلتها في متاهات النضال العبثي والمجاني على مختلف الجبهات والأصعدة لمحاولتها رفعها رفعا لا يتم – إن تم – إلا بعد عقود وعقود من المعاناة والمآسي، لا تنتهي إلا بقبول الدولة المعزولة بكل ما كانت ترفضه وزيادة، نموذج ” إيران.. كوبا.. كوريا الشمالية.. والسودان التي تم تقسيمها.. وتغيير نظامها.. والزج بها في أتون التطبيع المجاني مع الكيان الصهيوني مقابل مجرد إزالتها من اللائحة السوداء للإرهاب ومنع الاستثمارات والمساعدات التي لم تأتيها رغم كل التنازلات؟.
إن هناك حروبا أخرى وأهم، تلك التي نسيها العالم، وكان الأولى به ألا يتناساها، وكان الأجدى به أن يتعاون على خوضها والبلاء فيها حتى يربحها الجميع من أجل الجميع، بغض النظر عن اللون والجنس واللسان والدين والزمان والمكان، وفي ذلك عربون صدق ومحبة وتعاون إنساني كوني طالما ادعاه وتشوق إليه الجميع. أين العالم مثلا من:
1 معركة محاربة الفقر والهشاشة والمجاعة عبر العالم (124 مليون فقير) و 500 مليون عاطل عن العمل، ومليار جائع يموت منهم كل يوم 26 ألف بسبب الاحتكار وسوء توزيع الثروة بين دول العالم بل وفي الدولة الواحدة؟
2 معركة فتح الحوار والتواصل والتعارف والتعاون بين شعوب العالم والذي ينشأ من ضعفه وغيابه وانحرافه وتشنجه كل هذه الحروب المدمرة والدائمة ذهب ضحيتها إلى حد الآن في العالم حوالي 754 مليون قتيل منهم حوالي 20% من الأطفال، رغم أنف كل هيئات السلم العالمي العاجز؟.
3- معركة الحرية والكرامة في الدول القطرية والحد من الهجرة منها إلى دول اللاجئين (280 مليون لاجئ ) تضطرهم ظروفهم وظروف بلدانهم إلى الإقدام على ذلك والقبول به رغم ما فيه من ضياع حقوقهم في دول الاستقبال؟.
4- معركة محاربة المخدرات (مليار ضحايا) وتلوث البيئة و التطرف والإرهاب وهي ظواهر ضد الفطرة الإنسانية كل يوم تفتك عواقبها بالبشرية بأعداد مخيفة تفوق ضحاياها كل ضحايا غيرها مما تهتم به بعض الدول المترفة والمهيمنة.
5- معركة القيم ومناصرة الأقليات المحاصرة عبر العالم وهم على الدوام يعانون الأمرين مع بلدانهم التي تضيق عليهم بسبب عرقي أو ديني..، وتعجز على الدوام على تنمية بلدانهم وكل قومياتها تنمية مستدامة وعادلة مجاليا.
أسوأ ما في الحروب – كما قيل – أننا نستخدم أجمل ما عندنا لنحقق أسوأ ما يمكن أن يكون لدينا، وقد يحقق فيها نصر فردي لكن السلام لا يمكن أن يتحقق بغير توافق جماعي، الحرب تنشأ أول ما تنشأ في الأفكار والعقول (د.المنجرة) وتغذيها الأسلحة ، وكلما صنعتها الشعوب فلتنتظر الحروب ودمارها، يقول “د.مهيب صالحة” من السويداء: “تبدأ الحرب ولا ندري متى ستنتهي، وهل تنتهي بسلام عادل أم بكراهية مستدامة تعيد إنتاجها، قد يشعلها جاهل أو حاقد أو متعجرف أو مجنون عظمة ذو مصلحة، لكن من المؤكد أن من يشعل الحرب وهو قوي لا يعطيه أحد السلام وهو ضعيف، الحرب هي الوجه البشع للسياسة تقوم على المصالح لا على المبادئ، بل إن من يقاتل فيها على مبادئ يذهب ضحية المصالح. في الحرب يتساوى الموت والحياة، لكن أية حياة لأرواح منكسرة ..وقلوب مدماة.. وآمال محطمة.. وكيف سيتساوى آلام الميت ولو بطلقة رصاص بآلام من تسببت له الحرب في إعاقة.. في تشريد.. في تهجير..، بل في آلام انتظار الموت في كل لحظة في جو من الخوف والجوع والعطش والبرد والتشرد والعراء والقهر والدماء والدموع بكل الأحزان؟.
قال عنترة بن شداد: “الحرب أولها شكوى.. وأوسطها نجوى.. وآخرها بلوى”، بلوى قد ينتصر فيها جيش من المقاتلين النظاميين العقديين والمرتزقة المدججين، ليخلفوا ورائهم جيوشا وجيوشا جرارة من الأرامل و اليتامى.. من المعوقين جسديا و نفسيا.. من اللصوص وتجار الحرب ومصاصي الدماء.. وأيضا جيوشا ممن يدفعون عرقهم لإعادة بناء ما هدمته الحرب وقد دفعوا قبلها دمائهم ضريبة ما فرض عليهم من خوضها ومقاومتها في نفس الوقت، الحرب جحيم لا يتولد منها غير “نيرون” كلما أحرقت “روما”، ولكن، كم مرة علينا حرق “روما” وكم من “روما” ينبغي حرقها حتى لا يكون الإنسان أقل من المصالح، و حل المشاكل بالطرق السلمية غير مقدم على حلها بالحروب، لأن السلام مهما كان هزيلا ولا يعطي لأي طرف ما يريد، فهو أفضل ألف ألف مرة من الحرب، الحرب حوار المدافع لا أداب فيه ولا أخلاق، والمدافع والدبابات صنعت لأطلاق الرصاص ونشر الموت، وعبثا يتوهم المتوهمون أنها ستطلق لهم يوما جميل الأزهار وعبق الحياة”؟.