قراءة في مضامين كتاب “تخاريف حنة يامنة” عن واقعة الطرد التعسفي من الجزائر سنة 1975
بقلم ذ يحي زروقي
حينما نتحدث عن الإبداع فإننا نقصد بذلك الثورة الإيجابية على المألوف، والمبدع لكي يثير العالم بإبداعه يقال غالبا بأن روحه تحترق بوقود المعاناة، ذلك الألم الجسدي أو النفسي لربما يشكل له دواء يستصغر به الداء ويفجره في سماء الإبداع، فينزف قلمه أمطارا من البوح تزهر به أرض اليائسين.
والكثير من الكتاب اختاروا لحظة الوقوف على الهاوية ليصنعوا منها المجد الأعظم.
إن ثقافة الألم والغضب والإحساس بالظلم والقلق، ما هي إلا عبارة عن انتفاضة الذات ضد المآسي واختزالها في قوة عليا تستقطب الأحاسيس، لتنثر بين أيادي البشر إبداعا صادرا من ركام الجروح وممزوجا بتربة الأنين، إذ كل كتابة إبداعية نصر صغير على المرض كما ذهب إلى ذلك محمود درويش.. والمبدعون -كما يقال- هم أولئك الاشخاص الذي ينظرون بعدم الرضا إلى من حولهم
( كارسون عن جامعة هارفارد).
تلكم بعض ملامح كتاب “تخاريف حنة يامنة” الذي قيل عنه الشيء الكثير من الدارسين ممن اعتبر الكتاب حقيقة وواقعا و”ليس خرافة جدة يسمر حولها الصغار شتاء وإنما جرحها النازف الذي حملته معها ذات شتاء قارس معها من “حمام بوحجر”، سيرة حياة مغدورة، سيرة بعيون الطفل الذي روى لكم يوما قُرارة الخيطُ ويعود إليكم اليوم مع تخاريف جدتة” (كما بقلم الزبير خياط في ظهر الكتاب).
هذه التخاريف ليس خرافات، وإنما نزيف مرير لدى الطفل الرجل الذي ظل فيه الجرح غائرا لم يندمل إلى الساعة، طفل حرم من طفولته وقد حمل قضية ظلت تطارده في حله وترحاله، في نومه ويقظته، تؤرقه الأسئلة الوجودية ” لماذا يا طفلي لماذا تحرقني، ولا تدعني في سلام أحيا، ولا تهجرني”….
“ماذا تريد مني، أطلقني منك..ابتعد عني، أنا ما عدت أطيقك..أحمل موتك..تكفنني..تنغص عليَ حياتي، تردني إليك، تعذبني، وأنا في هذا العمر، تحشرني مع الذين ماتوا…” ص9
كثيرة هي التوصيفات التي وسمت المؤلف “تخاريف حنة يامنة”، لكنها كلها أجمعت على أنه:
1- إبداع عصي على التجنيس، وسجل حافل بالوثائق والذاكرة، نستحضر من خلاله مآسي الأولياء والأنبياء، وتراتيل الأجداد والآباء وأمثال الجدات وحكايا الصغار والكبار.
2- شخصياته حية واقعية، لحد الآن لازالت تنزف فيتضاعف معه ألم الطفل الكبير، يقول في الصفحة 113
“….جدي قويدر يتعتع في المشي..خطوة خطوة يحذر العثرة…
في المسجد..من المغرب..حتى يصلي صلاة العشاء جماعة ويعود للدار يتجرجر،
يطرق الباب يدخل
يتعشى..يتوضأ.. ينزع الفم
يحط الأسنان في “الغرفية” المدفونة في قبره عند الرأس
ويعد “الرفاي” للفجر…”.
3- هل هي رواية متخيلة أم سيرة، أم تداعيات لغوية عالقة بذاكرة طفل، أفرزت تهجينا لغويا وفنيا مقصودا في حد ذاته لأداء معنى قوي إيحاء وترميزا.
4- “تخاريف حنة يامنة”، نصوص تتميز بأوراقها الندية وحافظة قوية تسعفها في ملء الفراغ الذي تستغله في تأثيث الرحلة جنبا إلى جنب الجيل الناشئ عبر الوقوف عند الأحاجي بالعبر والمعاني التي تستدعي الغوص من أجل الفوز بالصدفة ولؤلؤتها. هذه الشذيرة العميقة ذات التعبير السهل العبق بالديني والصوفي والسياسي والرمزي والشعبي وهي كلها مجتمعة تعبر عن حمولة ثقافية ثرية يعرفها المغربي والجزائري والتونسي.
5- كتابة منفردة متمردة على المألوف، تبدأ بكلمة الموت التي تتكرر كثيرا، الموت الجسدي، والرمزي، وتنتهي بالنوم.
يقول الأستاذ محمد بوغالب من مقال له حول الكتاب أن هذه الكتابة لا تقرأ وإنما تحس وتدرك، تصوًر المعيشي وتوثق له، تترك للقارئ مهمة الإخراج والاستنطاق.. صور صادقة عفوية بدون تنميق أو تجميل”
6- عمل متميز، جمع بين ثلاث خصائص، كثافة لغوية جمعت بين الفصيح والعامي، بين الشعري والنثري، بطريقة سلسة لا تشعرك بالنشاز والخصيصة الثالثة التداخل بين الشعر والسرد، والسيرة والألغاز..وهو الأمر الذي أكسب المؤلَف والمؤلف معا هذا التميز وهذا التركم النقدي.
إن ذ جمال العثماني قلم جريء وذاكرة غنية الضفاف والأعماق، فأن يحتفظ بمنطوق الجدة، ويسطره صونا له من التلف والنسيان، لهو الوفاء بعينه للجدة ولقضية المغاربة المطرودين من الجزائر سنة 1975
بقلم ذ يحي زروقي