يستكثرون علينا تقبيل أيدي أكابرنا، لكن يُقّبلون أيدي المستعمر ويعبدون “كوادر” رؤسائهم
عبدالقادر كتــرة
كثيرا ما “يُعاير” الجزائريون الفاقدون للتاريخ مجهولو الهوية عديمو التراث والعادات والتقاليد، المغاربةَ بتقاليدهم وأعرافهم الضاربة في عمق الحضارة والتاريخ الموروثة عن الأسلاف والأجداد والآباء، “يعايرونهم” بتقبيل أيدي أكابرهم وأكتافهم ورؤوسهم كما لو كان ذلك سُبّة وذلّا ومهانة وحطٌّا من الكرامة وانتقاصا من الشخصية، وهو ما لا يمكن أن يستوعبه هؤلاء ولن يفهمونه أبدا ما لم يدرسوا حضارات الأمم السابقة والحاضرة المتحضرة، التي لها عاداتها وتقاليدها وأعرافها وتراثها، أكانت مسلمة أو نصرانية أو بوذية أو غير ذلك…
أجل نقبل أيدي وأكتاف ورؤوس ملوكنا وأجدادنا وجداتنا وأبائنا وأمهاتنا وزوجاتنا وأولياء أمورنا وإخواننا وأخواتنا وحتى صغارنا ولو كانوا رُضّعاً، وشيوخنا ومُعلمينا ومرضانا ومجذوبينا وضيوفنا والمُحسنين إلينا… وهذا شأننا لا دخل لأحد فيه، ولا نجد في ذلك حرجا ولا انتقاصا من قيمتنا، بل نفعل ذلك تقديرا واحتراما لهم وافتخارا واعتزازا بمن نحن في كنفهم وبين ظهرانيهم في أحضاننا وفي بيوتهم ويعيشون بيننا وتحت سقف بيوتنا وفي حمايتنا…، ولكن لم نُقبِّلْ أيدي المستعمر الفرنسي ولم نركع ل”كوادر” (إطار الصورة) رؤسائنا ولم ننتخب على رئيس مرشح “ولو كان في القبر” على حدّ قول الوزير والبرلماني السابق جمال ولد عباس مدير حملة الرئيس الراحل بوتفليقة القابع في السجن بتهمة الفساد والسرقة وتحويل أموال الشعب، ولم نعبد هذه “الكوادر” ولن نهدي لها القرابين ونُكرِّمها ونُقبّل الصورة التي بداخلها تجسيدا ل”من كان يعبد بوتفليقة فإن بوتفليقة قد مات ومن كان يعبد “كادر بوتفليقة” فإن “الكادر” باق ومعلق ولن يموت”…، كما لم نصنع صنما لرؤسائنا يتبركون به قبل تقبيل رأسه بعد وضعه في متحف لتخليده مثل ما كان يفعل في الجاهلية مع أصنام اللاّت والعُزّة وهُبل…
لا شكّ أن الجزائريين الذين يستكثرون على المغاربة تقبيل أيادي أكابرهم، ما أقدم عليه مواطن جزائري، يوم الأربعاء 19 دجنبر 2012، وخاصة وأن الصورة زلزلت عالم التواصل الاجتماعي وتصدّرت الصفحات الأولى لعدد من المواقع الإلكترونية والجرائد الجزائرية والدولية، وهي الصورة الخالدة التي تظهر مواطنا جزائريا يقوم بتقبيل يد الرئيس الفرنسي “فرانسوا هولاند” لرؤيته بمعية الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، خلال تحيته للمواطنين في اليوم الأول لزيارته بقلب الجزائر العاصمة، حيث سافرت الصورة من مدينة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر فحطّمت كل أرقام التداول عبر العالم.
وتحوّل التقبيل إلى نكتة، حيث قال البعض “إن المُقبل أراد شمّ رائحة يد رئيس أو رائحة فرنسا، وقال آخر أنه حاول تقبيل يد بوتفليقة فعجز فقبّل بيد فرانسوا، وتساءل آخرون إن كان للمقبّل أبناء وإخوة وأصدقاء، وأكيد أنهم سيأخذون صورا أمام شفتيه اللتين قبلتا الرئيس الفرنسي.”
وتساءل معلقون جزائريون حول ما إذا ما تحول الرئيس الفرنسي إلى مَلك دون مملكة ولا عرش يجلس عليه، أو إلى خليفة بلقب جديد هو “آل هولاند” يستوجب على رعاياه من مختلف الأصقاع والأمصار أن “يتهافتوا” على يديه لتقبيلها احتراما وتبجيلا لشخصه المجيد.
وزاد معلق آخر بأن قبول “هولاند” لتقبيل يده بتلك الطريقة من لدن المواطن الجزائري “المسكين” رسالة سياسية مفادها “أنا هنا ليس لتقديم اعتذار الدولة الفرنسية على جرائمها في حق الجزائر طيلة سنوات خلت، كما يطالب البعض بذلك، ولكن أنا هنا بالجزائر من أجل تلقي الترحيب وتقبيل الأيادي”.
وأخيرا، ماذا لو سألنا المواطنين الجزائريين اليوم بعد هذا الحادث، والذين يعيشون الفقر والحاجة والحرمان والجوع والعطش ويقضون نهارهم وليلهم في طوابير من عدة كيلومترات، بحثا عن نصف لتر حليب ولتر زيت وكيلو سميد وكليو بطاطا…ويهجر شبابهم في قوارب الموت إلى الضفة الشمالية، واليوم يفتقد إلى كأس ماء…، لو سألناهم ماذا سيفعلون لو أتيحت لهم الفرصة للسلام على الرئيس الفرنسي الحالي “إمانويل ماكرون” إذا زارهم وتمكنون من لمسه والحديث إليه والسماح لهم للتعبير عن رغبتهم وما يثقل صدورهم ويملأ قلوبهم….؟
ولا شكّ أن الجزائريين يتذكرون بكاء المرأة التي أشعلت صورتها مواقع التواصل الاجتماعي حين تحدث معها الرئيس الفرنسي ماكرون أثناء اقترابه من الجماهير خلال زيارة السبع ساعات للجزائر، وقبلت يديه واحتضنته بالأذرع الحنينة مثل أم تحتضن ابنها الغائب لسنوات وهي السيدة التي نفسها التي سجلت فيديو ضد رئيس الأركان للجيش الوطني الشعبي الراحل القايد صالح المغتال من طرف نائبه رئيس الأركان الحالي السعيد شنقريحة، وقالو عليها “فحلة”.
كما أن الجزائريين يتذكرون السيدة الجزائري التي قيل عنها أنها كفيفة ورُفض ملف التكفل بها للعلاج، وتعهد الرئيس الفرنسي أن يتكفل بها لإجراء العملية في بلد يتوفر على أحسن منظومة صحية في أفريقيا وفي شمالها وربما في العالم، وهو الموقف الذي جعلها تبكي أمامه .
ويتذكرون كذلك الازدحام والتدافع من أجل تقبيل يد” ماكرون” رئيس فرنسا الاستعمارية التي قتلت آلاف الجزائريين واغتصب جنودها آلاف الجزائريات، ولا زال هؤلاء يرددون شعار “عاشت فرنسا ولا عاش من خانها والمغرب هو العدو الأبدي” .
يتذكر الجزائريون خلال الحملات الانتخابية للرئيس المخلوع الراحل عبدالعزيز بوتفليقة كيف برعوا وتفننوا في “التشيات” و”التدلاق” و”مسح الأحدية” والانبطاح والحَبْو والزحف بكلّ الطرق وكلّ السبل لنيل رضا المترشح، ويذكر هؤلاء وفي العديد من المرات كيف نابت صورة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة المعوق والمشلول، عنه في حفل تكريم، وظهرت صورته في إطار خشبي.
وحظي التكريم بتغطية إعلامية بدت كأنها مرتبة ومقصودة، وتم بحضور أعضاء من الحكومة، يتقدمهم وزير العدل السابق الطيب لوح القابع في السجن، الذي تسلم الصورة التكريمية نيابة عن الرئيس بوتفليقة، المريض آنذاك والناذر الظهور منذ إصابته بجلطة دماغية في ابريل 2013، والذي واصل حكم البلاد رغم ذلك، حيث أكمل ولايته الثالثة آنذاك، وتم ترشيحه لولاية رابعة في العام الموالي 2014، وقد فاز برغم أنه لم يشارك في حملتها الانتخابية إلا بالصورة، ولم يخاطب الجزائريين بصوته منذ مايو 2012.
وهذه ليست المرة الأولى التي تم فيها تكريم صورة لبوتفليقة، ففي يناير 2013، تم تكريم لوحة زيتية له خلال أشغال اللقاء الوطني التوجيهي لرؤساء المجالس الشعبية البلدية والولائية، بالجزائر العاصمة، بحضور وزير الداخلية نور الدين بدوي الوزير الأول السابق.
وتلقى الرئيس الجزائري المخلوع الراحل عبد العزيز بوتفليقة، من خلال صورته، حصانا أصيلا كهدية من قبل مسؤولين منتخبين من ولاية الجلفة، بعد أن تم تكريمه من قبل السلطات المحلية واتحاد نقابات المحامين الجزائرية، وبحضور الأمين العام لجبهة التحرير الوطنية السابق، جمال ولد عباس، السبت21 أبريل 2018، في ولاية الجلفة.
وأثار تكريم اتحاد منظمات المحامين في الجزائر للرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، مارس 2018، الجدل في الجزائر، وقاطع عدد من المحامين الجزائريين حفل التكريم ، فيما عبّر عدد آخر عن امتعاضهم من هذا التداخل وانسحبوا من القاعة، حيث جرى خلال الحفل إهداء الرئيس صورةً تتضمن رسماً له بجبة المحامي، تسلمها بالنيابة عنه وزير العدل السابق، الطيب لوح المحكوم بثلاث سنوات سجنا.
وعبّر أكثر من محامٍ وناشط عن رفضه لسلوك اتحاد منظمات المحامين، وذكّروا بأن تكريم رأس السلطة التنفيذية من قبل أشخاص في السلطة القضائية يُخِل بمبدأ الفصل بين السلطات، ولا يؤسس لروح نقدية من قبل المحامين تجاه السلطة والحكومة والرئيس.
وقال المحامي عبد الغني بادي، معلقاً على المشهد، إنه يشعر “باستياء وإحباط من قسوة المشهد الذي عبّر بما لا يدع مجالاً للشك عن درجة الابتذال والهوان التي وصلنا إليها”، فيما قال زميله المحامي طارق مراح: “أنا أشعر بالخجل ممزوجاً بالغضب الشديد من أمة يكرم فيها محاموها صورة في إطار، إنه العار”.
وقال المحامي المعروف، أمين سيدهم: “أنا الأستاذ سيدهم أمين المحامي بالجزائر العاصمة، أتبرأ من هذا المشهد وممن ساهموا فيه وفي إنجازه باسم مهنة المحاماة في يومها الوطني، وأرفع قبعة الاحترام للزميلات والزملاء الذين غادروا القاعة”.
وكتب المعلّق الصحافي، بوعلام غمراسة، أنه يفترض في المحامين أن يكونوا سلطة مضادة للسلطة وانحرافها بدلاً من التماهي معها، وقال: “المحامي، كما النقابي والصحافي وأستاذ الجامعة، سلطة مضادة لا يمكن أن ترضى عنه السلطة التنفيذية ولا هو يمكن أن يرضى عنها، لأنه دائم المطالبة والمغالبة وهي تكره بطبيعتها من يلح في طلب الحقوق بل وتحاربه، هكذا علَّمتنا تجارب النضال الحقيقي من أجل الفكرة والتمكين للمبادئ التي تسمو على أي اعتبار مصلحي ونفعي، أما في الجزائر فالجهاز التنفيذي يختار للمحامي يومه الوطني، والمناسبة تصبح مبعث اعتزاز للمحامي وهو يهرول وراء المسؤولين بالرئاسة لإهدائهم هذا الشيء المسمى تحت الرعاية السامية لفخامة رئيس الجمهورية”.
ورسم رسام كاريكاتوري رسماً يظهر محامين وهم يتبركون بصورة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، على طريقة عبادة الأصنام في الجاهلية.
وهي المرة الثانية التي يكرّم فيها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بهذه الطريقة من طرف هيئة المحامين، بعد تكريم سابق في شهر يناير2013، من قِبل رؤساء البلديات في المؤتمر العام الذي جمعهم في العاصمة الجزائرية، والذي أثار حينها جدلاً كبيراً أيضاً، واعتُبر إهانةً للرئيس بوتفليقة وللجزائر بشكل عام.
وقام رئيس حزب طلائع الحريات ورئيس الحكومة الأسبق في عهدة بوتفليقة على بن فليس بتكريم “صورة” أو كما يطلق الجزائريون عليها “الكادر” أي “إطار الصورة”.
والغريب في الأمر أن المعارض الجزائري على بن فليس كان من أبرز المنتقدين لتلك المشاهد التي أثارت حالة من الجدل بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي وقال في تصريح صحفي: ” كُنا نعيش في زمن الوثنية وعبادة الكادر… وشُكرا للشعب الجزائري الذي أنهى المهزلة والتلاعب”.
كما قام وزير الشباب والرياضة السابق رؤوف سليم برناوي بتكريم الرئيس السابق المخلوع الراحل عبد العزيز بوتفليقة على خشبات المسارح وفي الشوارع أيضا في المناسبات الوطنية سواء قبل مرضه أو بعده.
ومن بين أبرز المشاهد التي أثارت حالة من الجدل بين رُواد مواقع التواصل الاجتماعي صورة ضخمة للرئيس الجزائري التي سجلت حضورها نيابة عنه لحضور احتفالات بمناسبة عيد الاستقلال حيث ظهرت صورة ضخمة متقدمة الموكب الاستعراضي لتشكيلات أمنية وعسكرية، لتسير تحت حراسة مشددة قبالة المنصة الرسمية للاحتفالات التي ضمت كبار الشخصيات والمسؤولين الحكوميين بالبلاد