مكناس من فرساي المغرب إلى باريس الصغرى فالقرية الكبرى
محمد إنفي
الوضع العام الحالي للعاصمة الإسماعيلية (التي كانت عاصمة إمبراطورية)، وضع يطرح أكثر من تساؤل ويثير أكثر من إشكال بفعل ما أصابها من تقهقر يكاد يكون شموليا، وبفعل ما اعتراها من تشوه وتشويه مَسَّ التهيئة العمرانية والبنى التحتية والمحيط البيئي وغيره. ويسود الانطباع، حتى لا أقول الاعتقاد، بأن المدينة لا تزداد، مع تعاقب الولايات التمثيلية واختلاف المسؤوليات الرسمية، إلا تأخرا وترديا على كل المستويات؛ إذ لا شيء فيها يُفرح ويعين على التمسك بحبل الأمل في تدارك التأخر وتصحيح الوضع. فلا بوادر تغيير في الأفق، ولا مبادرات إصلاحية في الأمد المنظور، ولا إرادات حقيقية تترجمها مشاريع مهيكلة تروم إخراج المدينة من ركودها ووضع حد لتقهقرها.
إن مكناس التي جعل منها السلطان مولاي إسماعيل عاصمة ملكه، كانت تضاهي العواصم الأوربية حتى أنها وُصفت بفرساي المغرب مقارنة مع فرساي الفرنسية في عهد الملك لويس الرابع عشر المعاصر لمولاي إسماعيل. وبفضل ما تحتضنه من مآثر تاريخية هامة، فقد استحقت أن تسجل، سنة 1996، في قائمة التراث العالمي لدى منظمة اليونيسكو.
وفي عهد الحماية، حظيت مكناس باهتمام السلطات الفرنسية التي جعلت منها موقعا استراتيجيا يكتسي أهمية خاصة من الناحية العسكرية والاقتصادية. وقد تُرجم هذا الاهتمام من خلال فتح ورش كبير لتشييد مدينة جديدة على الطراز الأوربي بشوارعها وحدائقها وأحيائها الصناعية والتجارية والسكنية، بالإضافة إلى ما أُحدث فيها من مرافق إدارية وعسكرية ورياضية وثقافية، حتى أنها وصُفت بباريس الصغرى. وقد تم تشييد هذه المدينة على الضفة الأخرى لواد بوفكران، لتشكل الوجه الجديد للمدينة.
ويبدو أن المدينة بشقيها العصري والتقليدي، قد تعرضت للإهمال التدريجي بعد الاستقلال حتى أضحت اليوم تستحق أن توصف بالقرية الكبرى ذات المركزين (centres avec deux)؛ المركز القديم (المدينة العتيقة) والمركز العصري (المدينة الجديدة – حمرية). وهذان المركزان يختلفان فيما بينهما سواء من حيث المعمار أو من حيث مختلف الأنشطة التي تمارس فيهما (الأنشطة الاقتصادية، التجارية، الإدارية، الثقافية، الرياضية، الخ).
خلال سنوات السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي، كان يُتَندَّر بمكناس باعتبارها مدينة لا تتطور ولا تتغير، وكأنها خارج قانون الطبيعة. لقد كان أهل مكناس يلاحظون ما تعرفه المدن المغربية الأخرى من نهضة عمرانية واقتصادية واجتماعية وغيرها، بينما مدينتهم تغرق في سباتها وركودها، فكانوا يؤلفون حكايات ونوادر حول هذا الموضوع، من قبيل أن محمد الخامس رحمه الله عادت إليه الروح فعُرضت عليه مدن مملكته في شريط مصور؛ ولما ظهرت عاصمة جده مولاي إسماعيل، صاح منتشيا: “هذه مكناس!!!”. وقد كانت المدينة الوحيدة التي تعرف عليها لكونها ظلت على حالها، كما تقول الحكاية.
لكن مكناس عرفت، خلال العقود الأخيرة، تمددا عمرانيا كبيرا جعل من المدينتين العتيقة والجديدة مجرد حيين كبيرين، لكل مركزه ووضعه الخاص ووظيفته الموروثة عن الماضي. وبما أن هذا التمدد العمراني كان هجينا، فقد أحال المدينة إلى غابة إسمنتية شاسعة، ممتدة الأطراف، تغلب عليها البشاعة في أجلى صورها، بحيث لن تجد فيها لا شوارع فسيحة ولا مساحات خضراء في المستوى ولا فضاءات عمومية تليق بتاريخ المدينة وبموقعها الجغرافي المتميز. وحتى ما كانت تتوفر عليه من هذه المرافق، تعرض ويتعرض للإهمال، إما عجزا وإما قصدا لأهداف غير نبيلة، وإما هما معا.
وحتى لا أُتهم بالمبالغة أو بالرغبة في التبخيس والتنقيص من مكانة المدينة، أتحدى كل مسؤولي مكناس، بمن فيهم حتى من لا ذرة له من الغيرة على هذه المدينة، بغض النظر عن الوظيفة التي يشغلونها أو المهام التمثيلية أو الانتدابية التي يقومون بها، أن يمنعوا أنفسهم من المقارنة حين يزورون مدنا مغربية أخرى، حتى وإن كانت هذه المدن صغيرة أو متوسطة. وأضع نفس التحدي على كل مقيم بمكناس، تتاح له فرصة مغادرة هذه المدينة لبعض الوقت (عطلة، مناسبة عائلية، زيارة خاصة…) إلى إحدى مدن الشمال أو الجنوب أو الشرق.
شخصيا، أخضع من حين لآخر لهذا التحدي. فكلما غادرت هذه المدينة، ولو لمدة قصيرة، أجد نفسي، عند العودة، مستاء، غاضبا، ساخطا، مقهورا، محبطا… لكون شعورٍ بالغبن والحسرة والحكرة (…)، يغمرني وأنا أقارن بينها وبين المدينة أو المدن التي زرتها، سواء من حيث المداخل أو الشوارع أو المساحات الخضراء أو الفضاءات العمومية؛ إذ بقدر ما أقدر المجهودات التي بُذلت في تلك المدن لإضفاء مسحة من الجمال عليها وتحسين تهيئتها، بقدر ما يصدمني مظهر ووضع مدينتي، الذي يوحي بأنها فقدت الكثير من مقومات المدينة. وقد سبق لي أن تساءلت إن كان لمكناس مقومات تضعها في مصاف المدن الحديثة؛ وذلك في مقال بعنوان ” هل تمتلك مكناس مقومات المدينة الحديثة؟” (نشر بموقع “مكناس بريس” بتاريخ 18 يناير 2020). وقبل هذا التاريخ بحوالي أسبوعين، كتبت مقالا بعنوان “مكناس مدينة بدون طِوار” (نشر بموقع “أخبارنا” بتاريخ 5 يناير 2020). وهذا وحده كاف لتعزيز وتأكيد فكرة القرية الكبرى.
لن أعود إلى ما قلته في المقالين المذكورين، ولن أتحدث في هذه السطور لا عن الوضع الاقتصادي ولا الاجتماعي ولا البيئي ولا الثقافي ولا الرياضي (…)، وإن كانت هذه المجالات كلها تعاني من التردي بهذا القدر أو ذاك، وتعاني معه المدينة برمتها؛ وإنما سأكتفي ببعض الجزئيات التي قد تبدو في ظاهرها بسيطة، ولكنها، في العمق، تدل على انعدام المسؤولية السياسية والأخلاقية، وتكشف عن غياب الرؤية المؤطرة للعمران والبيئة والبنية التحتية وجودة الحياة.
ولتدعيم فكرة القرية الكبرى وإبراز ملامحها، سوف أقصر الحديث عن مداخل المدينة وعن حالة بعض الشوارع الرئيسية بها، مع الإشارة إلى أن بعض القرى تتميز بجمال مداخلها وتناسق ممراتها بشكل يثير الإعجاب.
لنبدأ بالمداخل. لمكناس أربعة مداخل رئيسية: مدخل تولال (أو سيدي سعيد) حيث ملتقي الطريق الوطنية رقم 6 (الرباط – وجدة) ومدخل الطريق السيار (غرب مكناس)؛ مدخل طريق عين معزة حيث ملتقي الطريق الوطنية رقم 13 (الراشيدية – شفشاون) ومدخل الطريق السيار (شرق مكناس)؛ مدخل طريق مولاي إدريس (الطريق الوطنية رقم 13 شفشاون – الراشيدية)؛ وأخيرا، مدخل واد ويسلان (الطريق الوطنية رقم 6 وجدة – الرباط).
وإذا كان المقطع الرابط بين مدخل الطريق السيار (شرق مكناس) وطريق عين معزة قد تمت تثنيته، فإن المقطع الرابط بين مدخل الطريق السيار (غرب مكناس) ومدخل سيدي سعيد (أو تولال) تم إهماله وتُرك على حاله؛ مما يشكل خطرا حقيقيا على مستعملي هذه الطريق.
في أواخر شهر يناير الماضي (2022)، شاركت في رحلة قصيرة إلى الجنوب الشرقي (الراشيدية، تنغير، بولمان دادس، قلعة مكونة، ورززات ثم مراكش). وقد أذهلني ما لاحظته من فروق شاسعة بين مداخل بعض هذه المدن وبين مداخل مدينة مكناس. فبقدر ما مداخل هذه الأخيرة تفتقد إلى أبسط لمسة إبداعية أو بصمة محلية، بقدر ما مداخل تلك المدن الجنوبية تبهرك برونق مساحاتها الخضراء رغم الطابع الصحراوي للمنطقة.
لا شك أن للمدخل (مدخل مدينة، مدخل قرية، مدخل مؤسسة عمومية، مدخل مؤسسة اقتصادية، مدخل عمارة سكنية، مدخل منزل…) أهمية كبرى لكونه عنوان ما في الداخل، كما يقول المثل الشعبي المغربي: “إمارة الدار على باب الدار”. ومداخل مدينة مكناس تدل على داخلها المتسم، في عمومه، بالبشاعة.
وشوارعها تؤكد هذا الأمر. فالشوارع الرئيسة مجرد طرق: شارع محمد السادس، هو طريق أكوراي؛ شارع الزيتون هو طريق يربط بين طريق أكوراي (شارع محمد السادس) وطريق الحاجب؛ شارع بئر أنزران هو طريق عين معزة الذي يتصل بطريق الحاجب؛ شارع الجيش الملكي الذي يعبر المدينة الجديدة، هو طريق فاس. وحتى شارع محمد الخامس وشارع الحسن الثاني اللذان يتوسطان حمرية، فلم يعودا صالحين للتجوال بفعل الاكتظاظ والازدحام المروري والإفراط في استغلال الملك العمومي.
أما عن حالة هذه الشوارع، فأغلبها يعاني من ضيق المساحة، بما فيها الشوارع الحديثة العهد التي تطلبها التوسع العمراني؛ مما يجعلها تعاني من الاختناق المروري، وتتخللها نقط سوداء هنا وهناك. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أشير إلى وضع شارع الزيتون الذي أعبره أو أعبر جزءا منه على متن سيارتي بشكل يكاد يكون يوميا. ما يميز هذا الشارع (أو الطريق)، إلى جانب ضيقه، هو كثرة الحفر فيه؛ ويوجد به دوار (rond-point) يشكل نقطة مرورية سوداء، يقع قرب المركب التجاري “أسيما” الذي أصبح اليوم يحمل علامة مجموعة “مرجان”.
وفيما يخص معالجة كثرة الحفر، فقد تفتقت عبقرية المجلس الجماعي السابق عن أسلوب فيه الكثير من الغباء ومن انعدام المسؤولية ومن غياب الاحترام للمواطنين؛ إذ كلما تعرَّت حفرة، يغطونها بشيء من التراب الذي يتلاشى مع كل زخة مطرية. وحتى لما لا يكون هناك زخات مطرية، فإن الأتربة تجرها عجلات السيارات، فتتعمق الحفر ويصبح المرور من ذلك الشارع محفوفا بالكثير من المخاطر، ناهيك عن الخسائر التي تتسبب فيها الحفر للنوابض والفرامل والعجلات وغيرها؛ خاصة وأن في بعض المقاطع، كلما حاولت تجنب حفرة، وقعت في أخرى، ربما أعمق منها.
ويبدو أن المجلس الجماعي الحالي المنبثق عن انتخابات 8 شتنبر 2021، لن يكون أفضل من سلفه في شيء. فهو يسير على خطى هذا الأخير فيما يخص معالجة الحفر. أما بالنسبة للأوضاع العامة، فإن ما يتداوله راديو المدينة، هو أن هذه الأوضاع مرشحة لمزيد من التدهور والتقهقر؛ إذ من المنتظر أن تتعاظم الكوارث التي خلفها تدبير حزب العدالة والتنمية لشؤون المدينة. فهل مكناس أصبحت سيئة الحظ إلى هذا الحد؟
مكناس في 23 مايو 2022