معرض الكتاب و”مثقفي” المواعيد الثقافية..
المختار أعويدي
قامت اللجنة المكلفة بإعداد البرنامج العام للمعرض الدولي للكتاب في دورته 27، (والمشكلة أساساً من مثقفين) خلال الأيام القليلة الماضية، بالتعتيم شبه الكامل على تفاصيل هذا البرنامج، حيث أنها لم تضعه منذ الوهلة الأولى رهن إشارة العموم، اللهم من تسريبها لنسخة إلكترونية إلى جهات محددة، وذلك لأسباب هي أدرى بها. غير أن “المثقفين” الذين تمكنوا من الحصول مبكرا على النسخة الإلكترونية من البرنامج، كانوا أشد تعتيما منها، وكانوا حريصين على توزيعها فيما بينهم وعلى أصدقائهم والمقربين، كما لو أن الأمر يتعلق بسر نووي..! وكل هذا قبل أن يصبح البرنامج مشاعا إلى حد ما بين عموم المواطنين..
وترافق اليوم هذا الإنتشار المحتشم للبرنامج، موجة غضب واستياء وسخط واسعة عارمة في صفوف بعض المثقفين، وانتقادات حادة من طرفهم، موجهة من جهة إلى الوزارة الوصية، ومن جهة أخرى إلى لجنة البرمجة، ٠ومن جهة ثالثة إلى بعضهم البعض. ولم يتردد كثيرون منهم في الجهر والتعبير عن ذلك، أحيانا بشدة وصرامة، وأحيانا بسخرية وتهكم واستخفاف. ومنهم من وجه رسائل مفتوحة إلى المسؤولين، فيما اكتفى آخرون بالصمت أو بالتعليق المقتضب على تدوينات ناقمة.
وتكاد تجمع ردات الفعل الغاضبة للمثقفين، على أن مبعث هذا السخط، هو الإقصاء الذي تعرض له كثيرون منهم، والإبعاد من المشاركة في مختلف الأنشطة والفقرات الثقافية المقامة على هامش المعرض، أو حتى الإشراك الخجول المحدود الذي خص به بعضهم. فيما فتحت أبواب المعرض على مصراعيها حسب زعمهم، لأسماء محظوظة ولمثقفين أجانب.
والحقيقة أنه لم تكد تسلم أي دورة من دورات المعرض، بل وحتى مناسبات ثقافية جهوية كانت أو وطنية، من موجات احتجاج المثقفين على الجهات الوصية أو على بعضهم البعض، إما بسبب التعتيم وغياب المعلومة، أو بسبب الإقصاء وغموض معايير المشاركة. مما يفتح باستمرار باب تبادل الإتهامات وتأجيج الصراعات وتصفية الحسابات فيما بينهم، وأحيانا باب الطعن من الخلف ومن تحت الحزام..!
وإن مثل هذه الإحتجاجات والمواجهات، تكاد تمثل ظاهرة تميز المشهد الثقافي المغربي باستمرار. يعمل على تسعيرها أساسا بعض المثقفين الباحثين عن السطوع الإعلامي والمجد الثقافي والمنافع والمكاسب المعنوية والمادية، بين أروقة هذه المعارض والمناسبات الثقافية، وليس من خلال ما ينتجونه من زاد ومؤونة ثقافية مقنعة شافية، كافية للإرتقاء بهم إلى مستويات ومراقي محترمة، دونما حاجة إلى توسل أو تسول ذلك من جهات رسمية منظِمة، لها حساباتها ومصالحها وكواليسها وزبناؤها وأهدافها المعلومة والكامنة.
وإن مثل هذا التهافت والمواجهات والصراعات الهامشية، التي تندلع بين المثقفين، لا يمكن سوى أن تهوي بمكانة المثقف وقيمته الرمزية إلى الحضيض. بصرف النظر عما إذا كانت الجهات الرسمية الوصية عن مثل هذه المواعيد الثقافية، والساهرين على البرمجة والتنظيم من وزارة ومديريات وهيئات ومجالس منتخبة، التي تكون في الغالب سبب اندلاع هذه الصراعات، في مستوى الرهانات الثقافية ام دونها.
وعليه، ما بال المثقفين “ديال لخوا الخاوي” نزاعون بطبعهم إلى التعتيم عن بعضهم البعض والإنفراد بالمعلومة.. لا بل وإلى إقصاء بعضهم البعض، وإشعال الحروب الهامشية غير المجدية، وأحيانا إلى الاحتجاج من دون مسوغات موضوعية، بشكل يثير الحيرة والدهشة، ويدعو إلى الاستغراب، مع أن الفعل الثقافي المحترم وكل ما يتعلق به ويختص به، لا يكتسي قيمته وأهميته سوى بنشره وتقاسمه..!! وأن المثقف الحقيقي المحترم، لا تتحدد مكانته وقيمته من خلال عدد مرات ظهوره في المناسبات الثقافية أو تسليط أضواء الإعلام عليه.
ما بالهم كلما حل موعد ثقافي معين، أو تم الإعلان عن نتائج مسابقة أو جائزة معينة، أو تم إسناد منصب او مسؤولية ما. ولم ينالوا نصيبهم من الكعكة، وهم الذين لسان حال كل واحد منهم يقول: “كتغربي يا شمس، أنا وحدي نضوي لبلاد..! ينحرون بعضهم بعضا، ويأكلون بعضهم بعضا، وينهشون بعضهم بعضا، بشكل لا هوادة فيه. إما غضبا أو حسدا أو انتقاما أو احتجاجا أو حتى تعبيرا عن مستواهم الحقيقي..!
مع أن عددا غير قليل منهم يحشرون أنفسهم حشرا متعسفا في دائرة الثقافة، ويسمحون لأنفسهم بالحديث باسم المثقفين، والحال أن “ما بينهم وبين الثقافة غير الخير والإحسان”. لا لشيء سوى لأن أكثر ما ينتجونه من سفاسف وسخافات وتفاهات، لا ترقى أبدا إلى مستوى ما يطمحون ويشرئبون إليه من مواقع وعطايا وهدايا، ولا هي تخدم المجتمع وترتقي بأحواله وأوضاعه وأذواقه.. إن بين هذه السفاسف وبين انشغالات الناس وقضاياهم وهموم المجتمع مسافة ضوئية.. إنهم يطرحون بؤسا ثقافيا فاقعا، لكنهم يتطلعون إلى أسمى المواقع وينتظرون أجزل المنافع.
فلو تأمل كل واحد منهم، بموضوعية وتجرد في جدوى ما يكتب وينشر، وأثر ذلك ونفعه في الإرتقاء بأحوال الناس وأذواقهم وأخلاقهم ومستواهم المعرفي والعلمي والأدبي، والإضافة النوعية التي يقدمها ذلك للثقافة، وما إذا كان كل ذلك يرقى إلى مستوى ما يتطاولون ويشرئبون إليه.. لسكتوا عن الثرثرة عديمة الجدوى، وأحجموا عن الكلام المباح المتاح. وتوقفوا عن خوض المعارك الدونكشوطية والعنتريات الثقافية الوهمية والجعجعة الفارغة، التي يثيرونها كلما حل موعد ثقافي معين.. لانهم سيدركون وقته أن ما يتوهمونه إنتاجا فكريا أو إبداعيا ينتجونه أو يساهمون به، إنما هو سقط متاع “ثقافي”، وسيعلمون حينئذ أن “لمندبة كبيرة، والإنتاج فار”..! وأن الطريق أمامهم لبلوغ وهْم النبوغ والعظمة الثقافية الذي يتوهمون، لا يزال طوييييييييلا ومحفوفا بالمصاعب والعراقل والمطبات، عصياً على البلوغ والإدراك..!
إن الثقافة التي لا تلقن صاحبها قسطا من اللباقة واللياقة، وغير قليل من الرصانة والرزانة، وكثيرا من الحكمة والتواضع، وفيضا من الترفع عن السفاسف وصغائر الأمور، وتجعله لا يكف عن “التقزقيز والتحنقيز” والطيش الطفولي وموجبات العبث وقصور النضج، لا حاجة بالمجتمع إليها وإلى صاحبها. الثقافة التي لا تدعو صاحبها إلى الترفع عن موجبات العبث وصغائر الأمور، هي جديرة بمطارح الأزبال منها برفوف المكتبات والمعارض والمنتديات واللقاءات والمناسبات الثقافية، مهما كانت الجهة المنظمة لها.
لم يُعرف أبدا عن الجابري رحمه الله، أنه كان يسعى إلى الأضواء والبهرجة الإعلامية، أو إلى اللقاءات والمواعيد الثقافية، أو دعوات المجاملة هنا أو هناك، أو حتى إلى المناصب والمسؤوليات. كما لم يكن يحفل بالجوائز أو الإكراميات أو الهدايا أو السفريات، التي للأسف هي ما يلهث ويركض من أجله اليوم “مثقفو جوج فرانك”، من الذين يثيرون لأجل ذلك الزوابع ونقع الغبار كلما حل موعد ثقافي. لم يُعرف عن الجابري أبدا، أنه كان ينهش سمعة اقرانه من المثقفين من أجل منافع تافهة سخيفة لا ترقى إلى مقام، مهما بلغ حجم الخلاف والاختلاف معهم. ولا يقيم وزنا “فوق لقياس” لأي جهة وصية رسمية كانت أو غير رسمية. لكنه كان حريصا على عزة نفسه، وعلى التواجد الدائم بين الكتب وسراديب المكتبات، للنبش والتنقيب والدراسة والنشر الدائم، خدمة لمشروعه الفكري والثقافي الجبار “العقل العربي”. وكان يخوض الحوارات والمعارك الثقافية الراقية، دفاعا عن مشروعه الفكري والعلمي، وليس من أجل بريق إعلامي تافه أو منصب سخيف او موعد ثقافي عابر. ونفس ما يقال عن الجابري ينسحب على العروي وطه عبد الرحمن ومبارك ربيع وعبد الكريم غلاب ويحيى بلوليد.. وعديدون هم المثقفون الذين هم على منهج الجابري، من الذين يترفعون عن التفاهات والسباقات الطفولية إلى منصات الأضواء والتتويج، بحثا عن الإنتشار والشهرة البائسة. أما مثقفو الكوكوت الفايسبوكيين “كينقزو غير بوحدهوم ملمقلة..!”
لقد ابتليت الساحة الثقافية خاصة منذ بداية “العصر الفايسبوكي”، بنوع من “مثقفي حضيني نحضيك، وقصيني نقصيك”، من الذين لا يكلون ولا يملون من التواجد الدائم على جدرانهم الفايسبوكية ليل نهار، (ولست أدري متى تتيسر لهم أوقات البحث والتنقيب والقراءة والإبداع والإنتاج الثقافي الذي يدعون)، وذلك إما خشية أن تفوتهم “مناسبة” ما، أو “عراضة” أو همزة ثقافية، أو اقتفاء سراب جائزة، أو تحسس أخبار أصدقائهم وأعدائهم. أو تعريفا بأشخاصهم وقراءاتهم (ما قرأوا وما لم يقرأوا..) او عرضا ل”هلوساتهم” التي يصنفونها إبداعا أو نقدا أو فكرا، وبالتالي جمعا وتسولا للجمجمات.. وكل ذلك حتى يلمعوا أكثر ويسطعوا أكثر وينبعث بريقهم الثقافي أكثر وينتشر “ويضوي لبلاد والعباد”!!
إنهم لا يبحثون عن الشهرة والإنتشارمن خلال الاجتهاد والمثابرة والصبر والعمل المضني، وجودة وجدوى ورقي وغزارة ما ينتجون وينشرون من عطاء فكري او علمي أو أدبي أو إبداعي. لكنهم يبحثون عنها من خلال استرزاق الحضور في المواعيد الثقافية، وتسول الحظوة بتغطيات وأضواء إعلامية، بل وحتى ابتزاز ذلك، من خلال مايثيرونه من هرج ومرج وضجيج، وعمليات ذبح ونحر ونهش لبعضهم البعض، وكيل للاتهامات الثقيلة والغليظة لبعضهم البعض. حتى صار كل من كتب “نصا” بئيسا، يناجي فيه حشرة، أو يحاور فيه “بوبريصاً”، أو يتغزل بنحلة أو نملة، أو يحلل حواس فأرة، أو يستعرض فيه غرائزه وشذوذه، يحشر نفسه حشرا متعسفا، في خانة كبار المثقفين، مسلحا في ذلك “بشهادات” منافقة كاذبة لنقاد مُجاملين، لا يولون لجلال العلم وهيبة الكتابة أي اعتبار. نقاد ينجزون أعمالهم، التي قد تكون أحيانا تحت الطلب، وفق ما تقتضيه موجبات الصحبة والصداقة والقرابة، وأحيانا أطماع التقرب والحظوة لدى الجنس الآخر..! وليس وفق ما تستوجبه العين الفاحصة الناقدة من صرامة وتجرد وشدة.. فتراه يخرج في كل موعد ثقافي رافعا شوكته، موزعا قبحه يمينا وشمالا، مطالبا بالحصول على نظير “ثقافته وعلمه الغزير”، مناديا بحقه في الوجود، وفي حصد الجوائز والتواجد في كل مناسبات وأمكنة وزوايا الضوء والبريق الثقافي، بحثا عن السطوع والمكاسب والمنافع..!
أيها المثقفون المظليون الطارئون العابرون،
لا يسعني ختاما سوى أن أهمس في آذانكم بعبارة رشيقة رائعة، بالغة الحكمة والدلالة للباحث الرصين يحيى بن الوليد، علها تفيد بعض مهرطقي الثقافة ومثيري الضجيج “السخافي” منكم، من الذين يعشقون الأضواء والنور والتسلق وحب الظهور، يقول فيها :
“الصبر والاعتزال والإنتاج… وبعد ذلك الصداقات المركزة والمحدودة… وتلافي الدخول في ردود طائشة وحروب غير ضرورية… تلك ركائز البحث العلمي والأكاديمي كما نفهمه.!”
أو حتى شهادة الروائي أحمد لكبيري التي يقول فيها: “..فإن حصل وحققت نجاحا بسيطا، أفرح وأسعد به. وإن توصلت بدعوة ما، أقبل أو أرفض، بحسب مزاجيتي وظروفي والجهة الداعية إلى ذلك. وإن لم أحقق شيئا ولم أتوصل إلى شيء، لا أقيم الدنيا وأقعدها، بل أواصل مسيرتي وأعتبر الكتابة هي الهدف والمبتغى..”
وكل معرض للكتاب، والرباط/الدار البيضاء على موعد، من جهة، مع موسم الولاءات والمحاباة. ومن جهة أخرى، مع نقع غبار “مثقفي” المناسبات، من عشاق الحضور والأضواء وحب الظهور..!