الرقم الأخضر
محمد شحلال
بعد صراع مرير خاضته القوى الحية ببلادنا ،لتغيير بعض السلوكات التي تمس بكرامة المواطن على يد معظم موظفي الدولة،تم انتزاع بعض المكاسب التي لم تحقق كل ما يحلم به مواطن يحب بلده ،لكنها ضخت جرعة من الأمل في غد أفضل.
وهكذا،فقد فتحت الدولة بعض المسالك للتبليغ عن افة الرشوة،قبل أن يتسع مجال رفع المظالم عبر تخصيص،، رقم أخضر،،يستنجد به الضحايا لرفع الحيف الذي يلحقهم.
خلال الأيام القليلة الماضية،رافقت قريبا مريضا مثقلا بملف طبي معزز ببطاقة ،،الرميد،،لعله يستأنف العلاج المجاني في أقرب مدينة اليه بناء على الملف الذي تسلمه من المستشفى الجامعي بوجدة.
وصلنا مقر العلاج في الساعة التاسعة،وكان بعض المرضى قد سبقونا الى هناك لينخرط الجميع في رحلة انتظار سوريالية.
كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة من غير أن يظهر للطبيب المعالج أثر ،الا من ممرضة تذرع المكان الذي يعج بأنين المتألمين لتخبرهم بأن المعالج لم يصل بعد !
لم يطق احد الشباب هذا الانتظار الثقيل الذي يضاعف من معاناة والده،فبادر الى الاتصال بالرقم الأخضر.
طلب منه الشخص الذي كان على الجانب الاخر معلومات شخصية ،منها هويته ورقم بطاقته الوطنية،وما هي الا دقائق حتى حضر الطبيب.
استقبل الرجل المريض ،لكن ملفه الثقيل لم يشفع له عند الطبيب الذي حضر-مكرها-لذلك طلب منه ان يسوي حزمة من الوثائق قبل تلقي العلاج.
عاد المريض أدراجه،فيما تكلف ابنه باعداد الوثائق،لكنه لم يتمكن من اتمام كل ما طلب من والده.
عاد في اليوم الموالي وقد أحضر كل شيء،لكن الطبيب صدم والده حين أخبره بأن الأسرة مشغولة وعليه الانتظار ريثما يغادر إحد المرضى .
في صباح الغد،انتقل الرجل المريض مجددا الى مركز العلاج،لكن الطبيب صرفه مرة أخرى لأن الأسرة ،،محتلة،،وأنه سيخبره عندما تتاح الفرصة.
فهم المريض بأنه ضحية شكاية ابنه الذي استنجد بالرقم الأخضر فراح يتوسل لدى كل من،،له معارف،،وبالفعل ،وبعد تدخل من أحدهم،فقد دعي المريض للحضور فورا لتلقي العلاج وأصبح السرير فارغا بقدرة قادر !
تابعت كل أطوار هذا المسلسل من المماطلة الذي كان وراءه ،،الرقم الأخضر،،المشؤوم،ذلك ان أحدا لم يكن ليغيب عنه بأن الجهة المشتكى لديها قد أبلغت الطبيب ليؤدب هذا الذي تجرأ على ازعاجه عبر التماس حق من حقوق المواطنة،والذي هو واجب أدى بشأنه،،الحكيم،،قسم ،،ابوقراط،، الثقيل والذي تحلل منه ليتحول الى مجرد خائن للأمانة وكفى !
عندما كنت اسمع اهات المرضى طوال ساعات الصباح،تساءلت في قرارة نفسي عن مشاعر هذا الطبيب وأمثاله وهم يتلذذون بأن تصل ساديتهم الى هذه الفئة من المستضعفين، لينضاف الألم الى التحقير والدوس على كرامة الانسان التي أنيط بالطبيب أن يصونها ،لأن مرجعيته الأولى والأخيرة، هي الحس الانساني الذي يجسده أطباء،،الكفار،،أما نحن فاننا نفخر بأن نظل اوفياء للتخلف الذي يفصلنا عن العالم المتحضر .
ما جدوى الرقم الأخضر اذا كان الهدف هو الايحاء بأن يتم الانتقام من المتظلمين عوض انصافهم ومعاقبة المقصرين في اداء الواجب ؟ اليس هذا الأسلوب مجرد مسرحية تنطلي على المواطن الذي يتحمس لانتزاع حق من حقوقه ثم يكتشف الخدعة بعد فوات الأوان ؟
ليس الرقم الأخضر وحده من يدخل الضحايا في المتاهات،فقد عشت حادثا مماثلا قبل مغادرة الوظيفة،ذلك أن أحد رجال الشرطة من الدراجين،كان يقوم ذات يوم بمهامه بمحاذاة سور المؤسسة التي عملت فيها.
صعد أحد التلاميذ فوق الجدار،وهو تلميذ معروف بشغبه،ثم راح يشتم الشرطي ويتهمه بتلقي الرشوة ناعتا اياه بكل الاوصاف القدحية.
ضبط الشرطي اعصابه وتظاهر بعدم الاهتمام،لكنه عرف ملامح المعتدي ومظهره،فلما كان وقت الاستراحة،قابل رئيس المؤسسة،وأشار الى التلميذ الذي ظل يهينه.
استدعي المتعلم الى مكتب المدير،ولم يجرؤ على انكار ما نسب له. تم ابلاغ الشرطة،وسيق المتهم الى المخفر حيث فتح له محضر.
بعد اطلاق سراحه،حضر أشخاص من أقاربه يحملون اسلحة بيضاء وهم يعتزمون معاقبة رئيس المؤسسة،وكنت اول من استقبلهم في غياب المسؤول الأول.
لطفت الأجواء بطريقتي،وفهمت عبر احتجاجهم بأن الشرطي قد حمل مسؤولية نقل قريبهم الى مخفر الشرطة للسيد المدير !
سألت الأشخاص : كيف عرف المدير بأن ابنكم قد فعل ما نسب له وهو في مكتبه والشرطي في الشارع العام؟
هدأت من روع هؤلاء الهائجين،وجنبت رئيس المؤسسة تبعات هو بريء منها،لكني لم أتقبل لؤم هذا الشرطي الذي تهرب من تحمل مسؤولية وقائع لا غبار عليها.
كم يلزمنا من الوقت لنقول عن الابيض بأنه أبيض، وعن الأسود بأنه أسود،أم قدرنا أن يظل النفاق جزءا منا ؟….