بقطرات من دمك يمكنك إنقاذ حياة غيرك
اسماعيل الحلوتي
في ظل ما باتت تشهده بلادنا من خصاص مهول في المخزون الاحتياطي من أكياس الدم داخل مراكز تحاقن الدم بالمدن الكبرى أمام تراجع المواطنات والمواطنين عن “التبرع بالدم”، بسبب انتشار الشائعات وفقدان الثقة في بعض المؤسسات، بالإضافة إلى انشغال المغاربة في الشهور الأخيرة بأمور أخرى تبدو لهم أكثر أهمية، من قبيل تصاعد موجة الغلاء التي ضربت بقوة أثمان المحروقات وما ترتب عنها من ارتفاع أسعار المواد الأساسية ذات الاستهلاك الواسع، سارعت السلطات الصحية العمومية إلى تنظيم عدة حملات وطنية تحسيسية لمواجهة هذه الأزمة الخانقة، قصد تلبية احتياجات المرضى والمصابين من هذه المادة الحيوية، التي من شأنها إنقاذ آلاف الأرواح البشرية.
والتبرع كيفما كان شكله ولاسيما إذا كان يرمي إلى إسعاف وإسعاد الآخرين، يعتبر قيمة إنسانية رفيعة، حيث أن البشرية عرفته منذ حوالي أربعة قرون، باعتباره نوعا من الأعمال الجليلة التي يقوم بها الإنسان عن طواعية دون انتظار أي مقابل، ويكون هدفه الأسمى تقديم المساعدة لغيره ممن هم في أمس الحاجة إليها، وخدمة مجتمعه في حدود المتوفر لديه من إمكانات مادية ومعنوية، مما ينعكس إيجابا عليه هو نفسه وعلى مجتمعه، من حيث تنمية روح المواطنة الصادقة والحس بالمسؤولية، فضلا عن المساهمة في دعم جهود السلطات العمومية وتخفيف جزء ولو يسير من أعبائها.
والعمل التطوعي له عدة وجوه، إذ هناك العمل بالخبرات والمهارات والعمل لفائدة حماية البيئة عبر حملات النظافة والعمل على إشاعة التعاون بين أفراد المجتمع والعمل من أجل دعم جهود المؤسسات الوطنية، والعمل بالمال على مساعدة الفقراء والمحتاجين، وفي حالات الطوارئ وكذلك الحروب والكوارث الطبيعية، و”التبرع بالدم” خلال حوادث السير وأثناء العمليات الجراحية وغيرها كثير…
فالدم مادة حيوية غير قابلة للتصنيع في المختبرات العلمية، والتبرع به لا بد أن يأتي من إنسان سليم صحيا وينقل لآخر في أشد الحاجة إليه من أجل العلاج أو النجاة. وإلى جانب كونه خدمة إنسانية جليلة وواجب ديني، يعد “التبرع بالدم” الوسيلة الوحيدة لبعض المرضى والمصابين في الحصول على حاجتهم منه للبقاء على قيد الحياة. حيث يتم سحب كمية من دم الشخص المتبرع لا تتجاوز في الغالب 450 مل أي ما يعادل (7 في المائة) من دم الإنسان الطبيعي. وقد لا تستغرق هذه العملية على أبعد تقدير أكثر من 15 دقيقة، كما أنها لا تشكل أدنى خطورة على جسم الشخص المتبرع، خاصة أن جميع المواد المستعملة معقمة وذات الاستخدام الواحد، مما يحول دون انتقال الأمراض عبرها.
وفي هذا الإطار يقول أحد الفقهاء المغاربة بأن الدعوة إلى التبرع بالدم، هي دعوة شرعية وإنسانية ووطنية، يتعين على كل مواطن ألا يبخل بالانخراط التلقائي في مثل هذه الأفعال التطوعية النبيلة والمبادرات الإنسانية الجليلة متى ما كان قادرا صحيا. إذ أن كل من أقبل مطمئنا على إنقاذ حياة مريض أو مصاب بإحدى الإصابات الخطيرة، يصدق عليه قوله تعالى: “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”. فإسعاف مريض وإنقاذ حياة شخص في خطر، يندرجان في خانة الصدقة والتأمين الاختياري والتكافل الاجتماعي، حيث نجد أن من سماحة الدين الإسلامي إباحة مثل هذا النوع من التبرع حتى لغير المسلم كلما ألمت به مصيبة أو ضائقة، كما قال سيد الخلق عليه الصلاة والسلام: “إن أهل الكتاب لهم ما لنا وعليهم ما علينا”…
من هنا لا بد أن يعلم الجميع أنه فضلا عما أعلن عنه المركز الوطني لتحاقن ومبحث الدم من كون المغرب لم يعد يتوفر في الوقت الراهن سوى على مخزون من أكياس الدم لا يغطي عدا خمسة أيام، مما يعني أن البلاد مهددة بالدخول في أشد الفترات حرجا بتزامن مع العطلة الصيفية، وأن مواجهة النقص الحاد والمسجل في المخزون المتوفر من الدم تقتضي مضاعفة الجهود في اتجاه جمع ما لا يقل عن ألف كيس يوميا لبلوغ خمسة آلاف كيس، حتى يكون المخزون الاستراتيجي كافيا لتغطية سبعة أيام على الأقل، فإن عملية التبرع بالدم التي من شأنها إنقاذ حياة إنسان من الموت، يمكن لها أن تعود كذلك بالكثير من الفوائد الصحية على المتبرع ومن ضمنها: التقليل من احتمال إصابته بأمراض خطيرة مثل جلطات الدو أو السكتات القلبية أو انسداد الشرايين. تنشيط نخاع العظم للقيام بإنتاج خلايا الدم المختلفة والأجسام المضادة والاستفادة من بعض الفحوصات التي تتيح له التأكد من سلامة جسمه وخلوه من الأمراض الخطيرة كفيروسات الكبد الوبائي أو الملاريا أو الأنيميا وغيرها….
إننا بقدر ما ندعو القائمين على مراكز تحاقن الدم إلى ضرورة استخلاص العبرة من هذا العزوف عن “التبرع بالدم” من قبل المواطنين، والعمل على تصحيح ما ترسخ في أذهان الكثيرين من مغالطات وحسن معاملة وتحفيز المتبرعين السابقين عوض تثبيط عزائمهم، عبر ما يجدونه من صعوبات في الحصول على الدم كلما وجدوا أنفسهم وذويهم في أمس الحاجة إليه، فإننا ندعو أيضا كافة المغاربة إلى استحضار قول سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام: “خير الناس أنفعهم للناس”، والحفاظ على تعاليم ديننا الحنيف فيما يأمرنا به من تعاون وتضامن، ويرشدنا إليه من مساعدة الغير ودفع الضرر عنهم، ولاسيما عند المحن والشدائد…