رمضان مصباح الإدريسي
قال رسول الله ﷺ: إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني، وأنا منهم؛ متفق عليه.
كنت قررت ،بيني وبين نفسي ، ألا أخوض كتابة في ما يعتمل في ركحنا السياسي الوطني ؛مفضلا الانزواء في التاريخ الحديث للوطن، وجيرانه المتربصين ثأرا وبغضا – وفي كلٍّ خيرٌ – إراحة للنفس من سَفساف خطاب سياسي ،يرجم بعضه بعضا .
عجعجة ليس إلا ،ولا طحين. ما يطحن ويصفى ويعجن خبزا ،يسر الناظرين قبل الآكلين ،ملهي عنه ومتروك للرياح تذروه ؛في مسرحية سمجة كاد جمهورها،وقد أعياه الصبر على الرداءة، ينقض على الخشبة ،انقضاض وحوش “الهوليغان “على ملاعب الكرة.
نعم ابتعدت الى التاريخ ،وان كان هو لا يفارق الحاضر؛وزرعت قصائد شعرية ،حدائق للفرح والحزن والمواساة؛لكن أبطال الرداءة ببلادنا ،لايتركونك غير مبال ؛لأنهم أشد إصرارا على ألا تفلت منهم في جميع أحوالك ؛ولو مارا مرور الكرام ،ولو قائلا جاهرا:سلاما سلاما.
المنبعث من الرماد:
هو رئيس حكومة سابق ،توفرت له كل الشروط النفسية – ولا تشفٍّ – لكي يلازم عيادة زميله –رئيس الحكومة الآخر – طلبا للتطهر النفسي “الكاتارسيس”؛جراء ما أصاب به نفسه من فشل تدبيري اقتصادي وتنموي؛وما أصابه من الترحيل المخزني الصامت ،إلى خارج الشأن الحكومي كله؛وما قسى به على نفسه ،وهو يؤلف يوما بعد يوم ديوان الكراهية الشعبية له ،متوهما أنه ديوان حماسة ،يُمكِّن لحزبه وطنيا ،وللخطاب الاخواني إقليميا.
هذا الفطحل في مجال الرداءة السياسية،عاد بأناه العالية علو طبقال ،ليمارس وصاية على كل ما يطير،ويمشي ،ويدب ويسبح في هذه البلاد.
عاد ،في بحر من السفاهة اللفظية ،ليمارس رئاسة الحكومة على رئيس الحكومة ،وليلهب من جديد ظهور المواطنين وأسماعهم ،وليستعيد شِنانه المعروف ،كبطل حمى النظام من الانهيار ،وكأن الشباب، الراغب في الإصلاح ، السائر في الطرقات ،كان يركب الدبابات.
وكأن القرون ذوات العدد ،التي أرست أركان الدولة المغربية ،ستطير سربا من اللقالق ،استنهضه أبناء الحي.
عاد- وليت العود أحمد- ليُكمل كليلة ودمنة ؛من العفاريت والتماسيح ،إلى بقية الحيوانات الأخرى ،مُفرَّخة من جرابه وجراب غيره .
عاد ليجلد – في ما يجلد – صحافيين ،لم يرضوا لأنفسهم كليلة ودمنة هذه ، مفضلين شرح وفضح الكوميديا السياسية ،لأنها ارتقت عندنا ،تعقدا وحبكة، إلى الكوميديا الإلهية ورسالة الغفران.
سيدي أنت حرّ حر حر ،في مخاطبة مريديك ومتحزبيك كما تشاء ،لكن دع عنك الشأن السياسي العام ،والتدبيري ؛إذ لا يمكن أن تكون ،في نفس الوقت،الخصم والحكم.
لقد جرحت في حكومتك،فكيف تُعدِّل اليوم؟
كل ما أصاب القدرة الشرائية للمواطنين من قِبِّ جلبابك .
كان عليك أن تشتغل على الصعب قبل السهل ؛ترقية المستوى المعيشي للمغاربة الفقراء ،ثم إصلاح المقاصة تبعا لهذا ؛الأولى بتدبير حكيم ومجاهدة مخلصة ،والثانية بقرار آخر الليل ،كقرارات تدبير الجائحة الشهيرة.
اليوم لا نحن في العير ولا نحن في النفير؛لانحن حافظنا على الدعم الحكومي ،ولا نحن نستفيد مما توفر للدولة ،بعد التخلي.
وكانت قاصمة الظهر مع تصريحك أخيرا –بل اعترافك- بصرف الملايير من المال العام ،مقابل أوراق تتسلمها من هذا وذاك، من رجال المال والأعمال، دون أن تفحصها محاسباتيا؛ودون أن تتوفر لك حتى الخبرة لذلك؛ولا أنت صرخت مطالبا بها.
كنت توافق وتوقع ،وكفى الله المؤمنين القتال ..أي رداءة أكثر من هذا ؟وهذا الاعتراف منك،وهو سيد الأدلة.
ما الذي سيستفيده المواطن اليوم من اعترافك؟ كيف تبكي مع الراعي ،وقد حضرت مجزرة الذئب ؟
رجل المال والحال والمآل:
رئيس حكومتنا اليوم ؛وقد شاءت الظروف الدولية،أن تكون حكومة حرب اقتصادية ،لا نعلم من يشنها علينا وعلى كل فقراء العالم؛وان كنا نعلم أن فلاحي أوكرانيا تركوا مزارعهم ،مكرهين،وامتطوا الدبابات ؛ وان كنا نعرف أن بوتين مجبرٌ لا بطل .
ونعرف أيضا أن من يقصف مخازن القمح العملاقة بأوكرانيا ،يدبر أمرا عالميا ،لايرى غير الجوع خديما ومحققا له.
كل المواطنين يعرفون هذا ؛وهم قادرون على تحمله كما تحمل أسلافهم قرون القهر والمغالبة والمكابدة ؛حتى المنحطة جيوشا من الخارج .
الإدلاء فقط بهذا ،لتبرير الغلاء المخيف ،الذي اقتحم على المغاربة مطابخهم وملبسهم وكل تفاصيل حياتهم ،لايكفي .
سيدي أنت رئيس حكومة حربية ،قائد سفينة يلهو بها البحر كما يشاء؛فهل يكفي أن تقول لنا :لا أدري وهذا فوق الطاقة.
من موقعي مساهما في الرأي ،من أسواق البوادي ومباهج كبرى أسواق المدن الحديثة ،أقول لك:
ليس الجوع هو الذي يخيف المغاربة،فقد جاع أجدادهم وصبروا؛وليس الوباء ما يرهبهم فقد صال وجال قديما ،وترك البقية التي نحن هي اليوم.
ما يخيف المغاربة ،وينغص حياتهم ،هو هذه اللامبالاة التي يلمسونها في كل تفاصيل وخرائط هذا الركح الحربي الاقتصادي الذي نتواجد فيه .
للحرب جنرالاتها ودباباتها وطائراتها ،وجنودها الأشاوس؛فمن يدير هذه الحرب الاقتصادية؟ من يحرر بلاغاتها الميدانية كل يوم؟
لا شي تحت الشمس:
أقطاب سياسيون ،بالمفهوم الصوفي للقطب ،يخوضون في الوجد والشطح ؛وحولهم مريدوهم ..
أرباب المال والأعمال ،وقد اكتشفوا مدى أهمية الاستثمار في الأزمات،لا يقطعون شجرة يعتلونها.
حيرة كبرى تواجه كل من يتساءل :
هل يمكن للثروة الكبرى أن تصنع سياسيا ،ينقلب عليها لصالح المواطنين الفقراء ،وهم الأغلبية.
نعم أهلا بالثراء ،حيثما توجه يمطر ويأتي خراجه ،كما فاخر الرشيد سحابته وهو في حدائق قصره ببغداد.
لكن من يصنع رجل الدولة الذي يتغلب على رجل المال في نفسه ،دون أن ينال من فعالية ووظيفيته المالية؟
انه “تانغرام” صيني ،في غاية التعقيد.
من هنا الخوف في عامنا هذا..
ألاَّ يجد المواطن وقد قوَّس الغلاء ظهره ،عصا يهش بها على حيرته وضياعه،قبل أن يتوكأ عليها.
لا يعني المواطنين في شيء الجدل السفيه أحيانا ،الذي يسمعه مع الأسف من أفواه رجال دولة ؛يفترض فيهم الوقار والحكمة والتناصح العلني وغير العلني،وليس سباب النساء،في الحمامات الشعبية.
عندنا نموذج مواجهة الجائحة ،ملكيا وشعبيا ،إلى أن استوى تدبيرا رائدا بين الأمم.
يومها تنافست الثروات الكبرى ،وأعدت رباطات خيل كثيرة لصد الوباء،وظهر لأول مرة جيش أبيض ،لم يكن يحسب له حساب.
مالنا اليوم لا ننهض للحرب الاقتصادية ،بنفس الروح ونفس الطموح ،ليشعر المواطن أنه حامي ومحمي ،وليس مجرد زبون عليه أن يكون أوكرانيا بدوره ،تغير عليه روسيا.
لم يعد هذا مقبولا ،ولم يعد الحل متوقعا من برلمان يقول ولا يقول ،يرضى ولا يرضى ؛في صرحه وليس في أسواق المواطنين.
كما نطمئن لجنرالاتنا الحربيين ،سدا منيعا ،يجب أن ينهض اليوم جنرالات الاقتصاد وتدبيره الحربي.
كورونا استدعت مخططا وطنيا ،ولجنة علمية،وجيشا ابيض ؛ألا تستحق حرب المواطن اليوم مثل هذا وأكثر.
سيدي رئيس الحكومة؛تعوزكم الفصاحة البيانية ،وهذا مفهوم،لكنكم بفصاحة مالية لا تضاهى ؛ولا أعتقد ،وأنتم رجل المال الناجح، أنكم ترضون بالكيفية التي يتم بها اليوم تدبير الغلاء؛إذ أغلبه مصنوع صنعا في مختبرات الانتهازية.
من كل هذا، الخوف اليوم،رغم شجاعة المغاربة المعروفة.
ومن هنا ضرورة تكملة النموذج التنموي الجديد بملاحق اقتصادية حربية.
والمال عصب الحرب .