إشارات على هامش ندوة بني كيل
بسم الله الرحمن الرحيم
إشارات على هامش ندوة بني كيل
بقلم : الكيلي الياسيني الحمادي، لخضر حمادي
لا يمكن لعاقل وابن بار لمنطقته وقبيلته إلا أن يسعد ويفرح، لمشهد أبناء من قبيلته ينظمون ندوة فكرية بمركز الدراسات والبحوث الإنسانية بوجدة يوم السبت 30 من يوليوز، يتحدثون فيها عن لمحات من تاريخ بني كيل يعرفون بتاريخها التليد كما جاء في الإعلان وأعلامِها. يزداد الفرح بكل تأكيد إذا كنت منذ أكثر من سنتين سعيت مع شباب من المنطقة إلى تأسيس جائزة الظهرة لتشجيع الأبحاث العلمية الرصينة حول ما يتعلق بتاريخ القبيلة وجغرافيتها وثقافتها وإشكالاتها التنموية وغيرها.
من هذا الباب كانت الندوة بكل تأكيد مبدئيا، ناجحة متميزة وقد زاد من تميزها حسن التنظيم الظاهر للعيان، وكرم بني كيل الذي تجسد رمزيا بما أعده آل الطيبي من مشروبات وحلويات وزعت على جميع المشاركين، و إبداع في التنظيم كانت آثار خبرة سي الماحي حاضرة فيه من مظاهره قرعة جائزة الحضور وشهادات التقدير وغيرها، وهذا للأمانة مبهج ومفرح، وإن كنت تمنيت أني رأيت لباس بني كيل ولهجته حاضرة أكثر، وإن كان د الشلالي قد سد بعض هذه الرغبة بسرد عدد من الأمثال باللهجة الكيلية…
إن البحث في التاريخ أمر غاية في الأهمية لا شك في ذلك، وفي كتاب ربنا ثلث عن التوحيد والعقيدة وثلث عن التشريع وثلث عن القصص، وذكر أن فيها عبرة، فالتاريخ ضروري لفهم الحاضر واستشراف المستقبل، غير أن البحث في التاريخ تكتنفه صعوبات جمة، ويفرض على الباحث قدرا عاليا من التجرد والموضوعية والعلمية، في هذا السياق أسوق بعض الإشارات الحبية تفاعلا مع الندوة المهمة.
1ـ لن تسعِف الباحثَ حميتُه في الدفاع عن القبيلة وعواطفُه الجياشة وانتصاره المبدئي « لتاريخها التليد وأعلامها الممجدين » في إعطاءنا نتائج علميةً رصينة محققة، وإني لأعجب غاية العجب أن يكون في مثل هذه المناسبات انطباعات عن القبيلة كلها إيجابية، بدءا من الأصل النبوي الشريف، إلى تنزيه تاريخ القبيلة مطلقا من مظاهر العنف (مسألة قطع رأس السارق) وغيرها .. إن الحمية للقبيلة شعور سيكولوجي طبيعي، في حدوده المعقولة طبعا، ولقد كان من المبالغات في هذا الشعور ما سماه الإسلام « عزاء الجاهلية » وفي ذلك أحاديث تنبئ عن درجة عالية من احتياط التشريع الإسلامي مما يمكن أن يفضي إليه هذا الشعور، الذي قد يبدو بريئا وقد يبدو ساميا مطلوبا، لكن نتائجه غير محمودة العواقب، ولن يسلم من نتائجها بكل تأكيد البحث في تاريخ القبيلة وستظل القبيلة في نظر من يستصحب هذا الشعور « رغم أنف العدا » شريفة طاهرة قوية بكل الخيرات عامرة، فيجسد قول الشاعر:
ما أنا إلا من غزية إن غزت … غزوت وإن ترشد غزية أرشد
2ـ لن تكون لهذه الفعاليات جدوى إذا ظلت ردودَ أفعال ظرفية، وقد كان ظاهرا أن دوافع الندوة الرد على كتاب المحطات الكبرى في تاريخ بني كيل والظهرا للأستاذ محمد بوزيان بن علي، إن ردود الأفعال الظرفية لا تنتج علما، ولذلك أدعو كما دعا الأستاذ كبوري إلى أن تكون هذه المحطة سنوية على أن تعين للندوة لجنة علمية رصينة ولو من خارج القبيلة وظيفتها الرقابة المنهجية وتحكيم الأبحاث قبل عرضها.
3ـ الإشارة الثالثة في الموضوع؛ إن التاريخ ممتدة أطرافه، يصل في عمقه إلى إنسان الكهف وما قبله، ولذلك فلا يمكن لعاقل أن يقارب مسألة تاريخية بلا تحديد للزمن والمجال والموضوع، إلا نفعلْ نسقطْ في ضرب من التعميم والخبط. إن البحث في تاريخ القبيلة يفضي إلى عدد من الإشكالات، وأسوق هنا بعض الأمثلة لأخلص إلى هذا الذي أرومه:
ـ إشكال الوحدة أو التعدد (وللأمانة أحترم رأي ذ السباعي في أن بني كيل هو قبيلة واحدة وليست قبائل، وإن كنت لا أفهمه..)
ـ العلاقة بين بني كيل والأمازيغ (ما يزال في لساننا كثير من الأمازيغية بدءا من اسم تندرارة، إلى البنية النحوية لبعض العبارات مثل « تامليلت » إلى مصطلح « تويزة » وغيرها …)
ـ العادات الوثنية بالمنطقة (الطواف حول نار الحرمل سبعة أشواط ، مخاطبة الشمس عند سقوط السن وغيرها …)
هذه أمثلة فقط تعمدت أن تتدرج من البنية التنظيمية للقبيلة إلى موضوع أعمق تاريخيا ببحث الأصول الأمازيغية إلى موضوع أكثر ضربا في القدم ببحث العادات الوثنية وعبادة النار وغيرها، وقس على ذلك تعدد مجالات البحث، السياسية والاقتصادية والثقافية بتفاصيل كل مجال منها… لذلك ينبغي التحديد..
4 ـ أغتنم هذه النقطة الرابعة لأوضح تعليقا كان لي بالقاعة، بُتر للأسف أثناء الإلقاء لضغط المسير ، ثم فُهم خطأ من محاضرين عزيزين فكان رد أحدهما « شخصيا » وددت أنه لم يسقط هذه السقطة، غير أنني أتفهم دوافعَ حب القبيلة والرغبة في تنزيهها مطلقا وأتجاوز، فغرضنا في نهاية المطاف هو الفائدة لا الانتصار للنفس.
قلتُ في سياق حديثي عن شروط البحث في التاريخ وعن شرط الموضوعية تحديدا، أن الباحث قد يجد في إطار بحثه ما يخالف السائد حاليا من « قيم القبيلة » المستفزَّ لقيمتها الاعتبارية، الضارب عرض الحائط مُدَّعى شرف أو بطولة أو غيرها، وهنا ينبغي أن يتعامل ب « روح رياضية » غير متشنجة.
أثارت الندوة مسألتين عولجتا علاجا سطحيا انطباعيا ردا على كتاب الأستاذ بنعلي وهما مسألتا « بيع بني كيل لبناتهم » و « قطع رؤوس سارق الأغنام وتركها تجف فوق أوتاد »، ما سمعنا من الباحثين هي انطباعات من هذا القبيل الذي أنهى عنه، مفادها: لا يمكن لقبيلة بني كيل أن تبيع بناتها، ولا نعلم أن قبيلة بني كيل تعاقب السارق بهذه الطريقة. فقلت في سياق حديثي عن المنهج، أن هتين المسألتين ليستا متعذرتي الثبوت عقلا، فعندنا من أخبار « الطيحات » وأهوال ما كان يقع من الاعتداء على القبائل المجاورة وسلب أغنامها وقتل رجالها ب « فكر البطون » وقطع الرؤوس ما يجعل مسألة قطع رأس السارق « عادية »، ثم إننا نعلم في يومنا وظروفنا الحالية مما يقع بمناطق خارج بني كيل غير بعيدة عنا أن بعض الفقراء يسلمن بناتهن الصغيرات بمقابل بسيط مما يجعل الخبر الثاني ممكنا أيضا … لكن الذي لم أنجح في إيصاله وأنتج سوء الفهم، هو أنني أتحدث عن المنهج، أنا لا أُقر بأن هاتين الظاهرتين صحيحتين وأن بني كيل مارستهما، بالقطع لا أقول ذلك، لكنني لا أنفيه حمية أو رغبة في تنزيه القبيلة تحت ضغط معايير الشرف المتعارف عليها حاليا، وهذا الذي ينبغي أن ننتبه إليه، وينبغي أن نقرأ مثل هذه الظواهر في سياقها التاريخي والسياسي والثقافي الذي أنتجها، آنذاك قد تبدو بسيطة جدا إذا ربطناها بالسياق الذي أنتجها وقد نجد ما هو أشد هولا منها، ألا يمكن أن نفترض أن غياب الدين في فترة معينة أو غياب السلطة والقانون أو شح البلاد وجفافها وغيرها سبب في مثل هذه المظاهر ؟ وإن أُثبتت فلا سبة على القبيلة ولا ضير وإن تم نفيُها أيضا إما بإثبات الخطأ في الترجمة مثلما فعل الأستاذ عمر الطيبي مشكورا، وهذه تصيب الباحث بنعلي في مقتل، أو باستحضار سلوك فرنسا وباحثيها آنذاك سبيل دسِّ مثل هذه الأخبار وترويجها لإثبات همجية المنطقة وحاجتها إلى « التنوير والتحرير » تزويرا وبهتانا.. إن تم نفيُها بعلمية ورصانة فذلك المبتغى وذلك الانتصار الكبير ..
إشارتي كانت في المنهج ولست أثبت شيئا أو أنفيه .
5ـ أختم بإشارة أخيرة، وهي أن سؤال الماشي لا ينبغي أن ينفك عن سؤال المستقبل، إذا كانت عبارة (التاريخ يصنع الحاضر) نسبية للغاية، فإن الرواية الأمريكية لهذه العبارة وهي (الحاضر يصنع التاريخ) لها من شواهد المصداقية الكثير.. من نحن اليوم وغدا على سلم التنمية؟ من نحن اليوم وغدا في حضورنا السياسي والاقتصادي والثقافي؟ ماذا نساوي على ميزان الفاعلية والأداء؟
إن الحماس الذي نتناول به البحث في التاريخ، ينبغي أن يفوقه بشكل مضاعف أضعافا مضاعفة حماس استحقاقات اللحظة واستشراف المستقبل.
تحياتي الحارة لأبناء قبيلتي الأعزاء وأملي أن نساهم جميعا يدا واحدة في كل ما قد يكون ذا نفع، وشكري الحار لجميع المحاضرين بلا استثناء ولجمعية العرش لخضر على تلك المائدة الممتعة.