وجدة…”كي كنتي كي وليتي”
إنجاز: محمد المرابطي (جريدة الصباح)
شلل اقتصادي وزحف البنايات وصراعات المنتخبين تقود المدينة نحو المجهول
يجمع الزائرون لوجدة، خصوصا من أبناء الجالية الذين يحلون بالمدينة صيف كل سنة ،أنها تستحق الأفضل، وينطلقون في ذلك من ملاحظة التغيرات المتلاحقة التي تشهدها، بحكم موقعها الجغرافي مركزا رئيسيا وسط محيط من المناطق الفقيرة، والتي ضربها الجفاف والتغيرات المناخية القاسية لجهة الشرق، ما جعلها مقصد الفئات الهشة بصفة عامة، الأمر الذي أنتج ثقافة دخيلة على المدينة قوامها خليط من الأعراف التي لا تعير أهمية لماضي المدينة وتاريخها ووضعها الاعتباري. كما وضعت هذه الثقافة في مفاصل القرار بالمدينة على مختلف المستويات،ضعفا بينا في إبراز الوجه المشرق للمدينة. وهذه بعض مظاهر الضعف الذي لا تحجبه بالطبع بعض المبادرات الجمعوية والفردية المضيئة لبعض أبناء المدينة من ذوي النيات الحسنة.
يفتخر الوجديون غالبا بالمكون التاريخي لمدينتهم كمدينة كانت ذات طابع معماري وثقافي فرنسي، فقد تقاسمها خلال الاستعمار الفرنسي مواطنون ينتمون لست وعشرين جنسية أجنبية لأسباب جيو سياسية أفرزتها التحولات الدولية في الأربعينات والخمسينات، وقرب وجدة من الجزائر الفرنسية ومن مليلية المحتلة، لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكذا تداعيات نشوب الحرب الباردة قبل استقلال الجزائر. أشهر هذه الجنسيات، الجزائرية والفرنسية والاسبانية ، كما تقاسمتها الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية التي تجاوز عدد أفرادها الأربعين ألفا عند الاستقلال ، مما جعل منها مدينة عصرية ذات معمار أوربي ذي ملامح فرنسية وإسبانية على الخصوص.
قطعة من ذاكرة فرنسا
تميزت المدينة بأنها احتضنت أول ثانوية عصرية للذكور وللإناث في المغرب وأول مدرسة ابتدائية كذلك، زيادة على بعض الأنشطة التي كانت وجدة سباقة لتأسيسها كموسيقى الفن الغرناطي والعديد من الأنواع الرياضية التي مارسها الأوروبيون والوجديون، من يهود ومسلمين من بداية القرن العشرين، والتي كان لها صدى بفرنسا نفسها. كما احتضنت المدينة قيادات فكرية وعسكرية وسياسية جزائرية خلال فترة المقاومة الجزائرية. وبالموازاة مع ذلك احتضنت مؤسساتها التعليمية شخصيات كان لها شأن عال لاحقا بالجزائر وبفرنسا، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل كذلك على المستوى الرياضي والثقافي، وقد أصبح من الصعب مصادفة آثار من تاريخ الجالية الجزائرية والفرنسية والمغاربة اليهود إلا النزر القليل، يلاحظه الزوار القلائل الأجانب الذين يزورون المدينة أحيانا لدوافع عاطفية، وهو أمر لم يتم استغلاله أبدا من قبل الجهات الوصية على الثقافة ولا السياحة بالمدينة
زحف العقار
أدى احتفاظ رئيس الجماعة الحضرية الجديد لنفسه بتدبير ملفات التعمير والممتلكات بصفة شخصية، إلى شد وجذب بين بعض مكونات المجلس لأسباب قد تكون لها علاقة بما يتداوله العارفون بالشأن الحضري حول أهمية هذا الملف وخطورته، والذي هو جزء رئيسي من ثقافة الوجديين عامة.
ويعد موضوع العقار والتعمير والممتلكات الموضوع الذهبي لكل الأنشطة الحيوية بالمدينة، وبصفة خاصة في جميع المجالس الحضرية لوجدة منذ الثمانينات تقريبا، ولم يخل مجلس من تلك المجالس دون وجود منعشين عقاريين ضمن أعضائه، حتى أنه تكونت قيادات منتخبة متخصصة في التعمير، بتواز مع الإنعاش العقاري بالمدينة، وأفرزت ثقافة العقار نخبة من الأعيان يعدون من نجوم المدينة، والتهمت الأنشطة العقارية الأراضي الفلاحية التي كانت تحيط بالمدينة التي كانت تلقب بمدينة البساتين وكذا مشاريع الحزام الأخضر التي كان يفترض أن تحمي جنوب المدينة من الغبار والرياح القادمة من الجنوب الشرقي والتي تضرب المدينة بين الحين والأخر، وأصبحت ثقافة التجزئات هي الثقافة الجوهرية لأنشطة المدينة ،إلى درجة أن التجزئات السكنية الصماء والتي هي بدون مرافق اجتماعية أو تربوية أو ترفيهية هي السائدة، إلى أن التهمت المدينة ولم تترك لملامحها التاريخية سوى جزء بسيط يتجلى في المدينة القديمة التي غزتها بدورها حضارة القيساريات ،فاختفت بعض المآثر التاريخية والثقافية كدور السينيما وبعض المؤسسات التعليمية، وبالمقابل نبتت العديد من الأحياء الجافة الجامدة التي أصبحت تحمل أسماء المنعشين العقاريين مخلدة في الوثائق الرسمية بدلا من أسماء التواريخ أو الأحداث الوطنية أو أعلام المدينة أو أعلام الوطن كما يجري عادة بالمدن المغربية، بما فيها الأحياء التي أعيدت هيكلتها والتي لم تكن تتماشى مع الهندسة المناسبة لجمال المدن، والتي لم تخضع مطلقا لأي محاسبة قانونية أو إدارية.
ميثاق هندسة ومعمار المدينة
فتح اليوم الدراسي الذي نظمته جماعة وجدة بتنسيق مع الوكالة الحضرية منذ خمس سنوات وتحديدا في نهاية مارس سنة 2016 حول «وضع ميثاق الهندسة والمعمار بمدينة وجدة « آمالا كبيرة على الرغبة في إعادة الاعتبار لمدينة وجدة ذات التاريخ العريق والغني، ووضع حد لما اعتقد الحاضرون أن إشكالاته المعمارية أساءت للمدينة من جوانب كثيرة عددها المتدخلون آنذاك، وشاركت فيه كل الأطراف المفترض تدخلها في مجال التعمير وهندسة المدينة. وتبين آنذاك أن الهدف الذي كان من وراء تنظيم ذلك اللقاء هو تشخيص النسق المعماري بوجدة والوقوف على الاختلالات التي تشوب هندسة وجمالية المدينة التاريخية والعمرانية والهندسية، وإشراك جميع الفاعلين والشركاء والمهندسين في وضع خطة منهجية وتقديم حلول ومقترحات القصد منها أن تصب في الرؤية التي قدمها مكتب الدراسات الذي قدم بدوره مشروع قراءته للمدينة من حيث العمران والمظهر، حين أبرز نوع اللمسات والديكور في الهندسة وطريقة البناء، والواجهة والرصيف ونوع الصباغة والنباتات… وغيرها من التصورات التي أنجزها الفريق الهندسي، وذلك من أجل الحفاظ على هوية المدينة وتراثها وجمالية هندستها، فركز المتدخلون على تاريخ المدينة وأسوارها وعلى التوسع العمراني الذي شهدته وجدة في تلك الآونة، نتيجة تزايد عدد السكان، وهذا التحول كما ذكره رئيس الجماعة آنذاك ،أفرز واقعا متناقضا بين مدينة متحضرة تواكب التطور العمراني والحضري، وبين مدينة تمددت أطرافها بأحياء هامشية وفوضوية تفتقد للنسق العمراني وتشوه جمال المدينة. وطالب في آخر حديثه بتشكيل لجنة للتتبع والتنفيذ تضم كل من لهم علاقة بالتعمير والهندسة والبناء والتراث الثقافي والبيئي تدرس المقترحات وتنفذها على أرض الواقع.
وأكد مدير الوكالة الحضرية بوجدة آنذاك على اعتبار أن المجال العمراني لا يتماشى مع المجهودات التي بذلت في العشرية الأخيرة، مشددا على ضرورة رسم خطة عمل للوقوف على الاختلال العمراني. مع الاشتغال على ميثاق الهندسة والمعمار بمدينة وجدة، باعتباره وثيقة تحدد خلاصة للتشخيص التشاركي، إلا أن التتبع لتلك القراءة سرعان ماطاله النسيان بعد مدة قصيرة حيث دخلت المدينة في سلسلة من الإجراءات التي فرضتها إشكالات تكوين المجلس وصراعاته الداخلية. رغم ذلك فقد بذلت محاولات لتفعيل التوصيات المستمرة التي دفعت إلى إعادة الاعتبار للمنظومة المعمارية للمدينة ،غير أن المنجز من ذلك ظل ضئيلا ومحتاجا لمجهود كبير واستثنائي يعيد للمدينة الوجه الحضاري الذي تستحقه، الذي كان عليه سابقا، قبل أن تتضاءل في الضجيج اليومي الذي يقزمها تدريجيا حتى أصبحت قرية كبيرة، اختلط فيها الحضري مع القروي، والبادية مع المدينة ،مما حولها إلى قرية كبيرة.
حصار اقتصادي
هو أمر حقيقي وواقعي يمكن للزائر للمدينة معاينته بسهولة ، فقد أدى الوضع المناخي وحقب الجفاف التي ضربت جهة الشرق وكذا الإغلاق الرسمي وغير الرسمي للحدود المغربية الجزائرية ومنع التجارة غير المشروعة مع مدينة مليلية المحتلة، وتراجع عائدات الجالية المغربية القاطنة بالخارج والمنتمية لجهة الشرق، إلى انحسار الحركة الاقتصادية بالمدينة بشكل كبير، قبل أن تجد الأفواج من السكان التي وفدت في السنوات الأخيرة بكثافة على المدينة الفقيرة أصلا، والتي دفعتها هذه الظروف إلى امتهان حرف البيع المتجول العشوائي والاستعمال الكثيف والخطير للعربات المجرورة من الحيوانات التي حاصرت المدينة في مختلف مفاصلها، مكانا لها في هذه الهندسة الغريبة، إذ من العادي جدا أن تتزاحم السيارات وعربات الحيوانات في الشوارع العمومية، مما جعل المدينة تصبح فعلا مدينة محتلة من قبل «الفراشة» وأصحاب العربات اليدوية وأصحاب العربات الحيوانية رغم المحاولات الرسمية بين الحين والآخر للتخفيف من الظاهرة وهي حملات ذات بعد مفهوم، بالنظر لهشاشة الوضع الاقتصادي والنفسي وقابليته لأي تطور غير مرغوب فيه،غير أن عددا من أصحاب المحلات التجارية الذين أدركوا معنى التعامل الرسمي الحذر مع محتلي الشوارع الرئيسية للمدينة، ركبوا على الموجة مستغلين الوضع لتمتد”أياديهم “إلى الشوارع بعدما ابتلعوا الأرصفة منذ زمان ،وكمثال على ذلك شوارع الضابط بلحسين وفاس وعبد الرحمن حجيرة وعلال الفاسي…
فشل الأسواق النموذجية
نتيجة للوضع الاقتصادي الهش الذي يضرب المدينة ويرفع نسبة البطالة تدريجيا، فشلت الأسواق النموذجية في احتواء الوضع واستيعاب جحافل أصحاب التجارة العشوائية الذين تتضاعف أعدادهم باستمرار لأسباب كثيرة، فقد تخلى عنها المعنيون بها، مثل سوق واد الناشف وظهر المحلة وسيدي إدريس وغيرها، وفضل كثيرون العودة إلى احتلال الشوارع وأبواب المساجد وملتقيات الطرق ما يدفع بالسلطات المحلية ودوريات فرق الأمن العمومي المحمولة إلى القيام بحملات ومطاردات لإخلاء ملتقيات الطرق، كما أدى ضعف التواصل التجاري وارتفاع تكلفته بالنسبة للاستيراد لمدينة بعيدة مثل وجدة، إلى تراجع دور «القيساريات» التي كانت مشاريعها من نجوم المجالس البلدية المتعاقبة، حتى أنه كان معروفا أن لكل مجلس بلدي قيساريته، وهو نوع من الريع المبطن الذي استفاد منه نجوم العقار الصاعدون، وأصبح من العادي جدا أن تجد لافتات للبيع تخص المحلات التجارية لعدد من القيساريات، والتي تعكس فعلا ظروفا سيئة يعيشها عدد من التجار بالمدينة بعدما كانت هذه القيساريات تعج بالمتبضعين، واضطر عدد من التجار إلى التخلي عن تجارتهم إلى إن انتزعت عداداتهم الكهربائية وهوت أسعار قيمة المحلات التجارية إلى الحضيض، في وقت كان التجار يطالبون بضرورة مراعاة أوضاعهم من الناحية الضريبية وتمتيعهم بما يشبه امتيازات مناسبة، تراعي هشاشة الوضع بالمدينة التي تفوق تكاليف خدماتها أحيانا باقي المدن.
نقط مضيئة في فضاء معتم
لايعرف الوجديون في تاريخ المجال الأخضر بوجدة إلا حديقتين كبيرتين وحيدتين ارتبطتا في الذاكرة المحلية منذ القديم، هما حديقتا الأميرتين لالة عائشة ولالة مريم. أما باقي الحدائق الصغيرة المتناثرة هنا وهناك،أو المشاريع “الترفيهية”المؤجلة، هي مجرد تفاصيل رديئة في صورة سيئة يذر بها الرماد على العيون خلال إنجاز التجزئات السكنية الصامتة والجافة، والتي لا تحمل أبدا روح الأحياء السكنية الحية، التي تستوجب إحداث فضاءات الأطفال والترفيه الأسري، أو ترفيه القرب كما يسمى في الدول التي تحترم نفسها وتحترم سكانها وتحترم مواطنيها .
ولا يبقى من مجال للترفيه سوى المبادرات الخاصة التي تضيء معالم المدينة بين الفينة والأخرى، كالأنشطة الثقافية والفنية التي تشرف على إنجازها جمعيات خاصة دأبت على ذلك منذ سنين طويلة ،كجمعيات موسيقى الطرب الغرناطي الذي لا يزال يشكل معلمة مضيئة في سماء المدينة،بالحفاظ على التراث الموسيقي الوحيد الذي يميز المدينة من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى الآن ،عندما كانت تلتقي الفرق الموسيقية ذات الطابع الغرناطي القادمة من الغرب الجزائري لتشترك مع أخواتها بمدينة وجدة باستمرار، في زيارات متبادلة ،والتي كانت تجمع نخبة أهل وجدة حولها ، إضافة إلى المبادرات الفنية أو السينمائية التي يحتضنها مسرح محمد السادس بين الحين والأخر، ذلك الصرح الجذاب الشاهد على هذه المبادرات الرائعة والغنية ، دون إغفال مبادرات إعادة الاعتبار للتاريخ بتأسيس متاحف تاريخ المدينة التي شهدت أخيرا إحداث متحفين تربويين، أحدهما بأقدم ثانوية عصرية بالمغرب وهي ثانوية عمر بن عبد العزيز، وكذا بكلية الطب ،بمبادرة شخصية للدكتور بدر المقري مؤرخ المدينة ،وكذا متحف ثالث يجسد بعض جوانب المقاومة التي عرفتها المدينة في مواجهة الاستعمار الفرنسي.
المصدر : جريدة الصباح