معاناة أهل القرى و البوادي
إسماعيل فيلالي
في عطلة هذا الصيف الفائق الحرارة و الجفاف الحاد ، سنحت لي الفرصة أن أزور بعض القرى و البوادي بالجهة الشرقية ، و قد وجدت ، بكل صدق ، أن المواطنين في هذه المناطق و الفضاءات القاحلة يعيشون أسوأ أيامهم تحت وطأة الجفاف و القحط وندرة الماء الصالح للشرب و شظف العيش ، فالكثير منهم من يعيش على وجبة واحدة في اليوم وسط النهار ، و منهم من يكتفي بالخبز و الشاي في أفضل الأحوال لقلة الحيلة و قصر ذات اليد وغياب دخل قار… و من أول وهلة تبدو لك نظرة الضعف و الفقر في أعين الرجال الغائرة ، يلتحفون التراب و ينتظرون الذي يأتي و لا يأتي … ويذهبون إلى السوق الأسبوعي و يعودون بخفي حنين دون أن يستطيعوا إدخال الفرحة على أبناءهم بما تشتهيه أنفسهم نظرا لقلة المال و الغلاء الذي عرفته المواد الأساسية و الغذائية …. فخسارتهم كانت كبيرة مع هذا الجفاف الذي أتى على الأخضر و اليابس و ترك الأفواه مفتوحة و البطون جائعة ، وكثيرة هي تفاصيل المعاناة و الشقاء التي يعيشها هؤلاء المواطنون ، تدخلك في حزن و غضب لا ينتهي و أنت تطوف بين هذه القرى القاحلة … و حتى الشباب الذين كانوا يعملون في الحقول و يساعدون العائلة على مواجهة عوائد الدهر تجدهم عاجزين عن فعل أي شيء أمام هذا الواقع المرّ مما اضطر بعضهم إلى اختيار الهجرة إلى المدن بحثا عن العمل إن وجدوه ، و بعضهم يحلم بركوب قوارب الموت إلى ” فردوس أوروبا “… لقد فقدت أغلب الأسر مداخيلها الفلاحية التي كانت تعينها على مواجهة السنة من حبوب و قطاني و زيت الزيتون التي كانت بمثابة الغذاء الأساسي لهم ، و الآن أعينهم مرفوعة إلى السماء لما ستجود به من أمطار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه …..
و أنا وسط هذا الشقاء القاسي و الوضع البئيس لهؤلاء المستضعفين ؛ استحضرت خطاب المسئولين الحكوميين و على رأسهم رئيس الحكومة ، و كذا الخطابات المعسولة و الوردية للمسئولين في مجلس جهة الشرق حول الوضع الاجتماعي في هذا العالم القروي الذي يشكل أكثر من 90 في المائة من مساحة خريطة الوطن ، والذي لا يزال يعيش على و قع الفقر والبطالة ، و ضعف قدرات العائلات الشرائية مع الغلاء الذي عرفته أسعار كل المواد الأساسية ، وعجز وخصاص كبير على مستوى التوزيع المجالي الترابي للبنيات التحتية والخدمات الأساسية والاجتماعية لكل القطاعات التي كانت معنية بالإصلاح ، ولا تزال التفاوتات والفوارق الطبقية كبيرة و كبيرة جدا بين العالم الحضري و القروي و الذي لا يمكن قياسه نظرا لعمقه و شساعته .. و استفسرت نفسي و أنا أقف على هذا الوضع المأساوي عن الأموال التي خصصت لتنمية العالم القروي ، و الحرب التي دارت رحاها بين حكومة العدالة و التنمية و عزيز أخنوش الذي كان وزيرا للفلاحة في عهدها حول من يكون آمرا بالصرف لصندوق تنمية العالم القروي ، و بعد السجالات و الملاسنات و التدافع الذي حصل آنذاك انحنى بنكيران و وزرائه و نوابه للعاصفة ، ليكون وزير الفلاحة هو الآمر بالصرف لميزانية هذا الصندوق التي بلغت ما يناهز 50 مليار درهم حسب ما ورد في المادة الثلاثين في مشروع قانون المالية آنذاك ، موزعة على خمس قطاعات أساسية في العالم القروي وهي الطرق والمسالك ، و الماء الصالح للشرب ، و كهربة العالم القروي ثم التعليم والصحة ؛ انطلاقا من برنامج التقليص من الفوارق المجالية و الاجتماعية الذي أعلنه الملك في خطاب العرش في يوليوز 2015 ، و لان الأمر كان أكبر من بنكيران وحاشيته ، حيث قال فيما يشبه التبرير، بعد التنازل لوزير الفلاحة لتسيير و تدبير الصندوق ، ” الأهم عندنا هو إنهاء آخر سنة من الولاية الحكومية بانسجام بين مكونات التحالف الحكومي … ”
هذا المشروع الذي انطلق سنة 2017 ويمتد إلى غاية 2023 ، يهدف إلى فك العزلة عن الساكنة القروية و البدوية و الجبلية وتحسين ظروف عيشها، وولوجها إلى الخدمات الأساسية في مجال الماء الصالح للشرب والكهرباء والتعليم والصحة ؛ بالإضافة إلى الطرق والمسالك القروية من أجل تيسير التنقل، كما سلف الذكر، سينتهي بعد سنة ونصف على أبعد تقدير ، و لا تزال دار لفمان على حالها و لا يزال المواطنون في جبال و بوادي و قرى المغرب بصفة عامة و الجهة الشرقية بصفة خاصة يعيشون معاناة مركبة لا حد لها … و الحقيقة أن مناقشة معطيات هذا البرنامج الكبير الذي خصصت له أموالا كبيرة لتنمية العالم القروي تحتاج إلى وقفات ميدانية لمعرفة أين صرفت الأموال و ما هي النتائج الملموسة التي استفاد منها المواطنون و التي تعنيهم مباشرة و أسرهم الفقيرة ، فالعبرة ليست بالأرقام التي يتم سردها في مناسبات و لقاءات البهرجة و لكن العبرة هي بمستوى العيش الذي يعيشه المواطنون في هذا العالم القروي ، انها حياة شقية و صعبة للغاية !! وقبل هذا المشروع و منذ سنة 2008 تم اعتماد مخطط المغرب الأخضر كرافعة أساسية للنهوض بالوسط القروي وتحسين المؤشرات السوسيو- اقتصادية، وخصصت له ميزانية تعد بالملايير من أجل إعداد البرنامج المندمج لتنمية المناطق الجبلية وإحداث الوكالة الوطنية لتنمية مناطق الواحات وشجر الأركان …
و الأسئلة المطروحة هي ماذا استفاد المواطنون في العالم القروي من نجاح المخطط الأخضر الذي مرت على انطلاقته أكثر من 10 سنوات إن كان كما تقولون حقق نجاحا كبيرا و حقق أهدافه الكبرى ؟؟؟ و الواقع أن المستفيد الأكبر من المخطط الأخضر كانوا هم أصحاب الشركات و مكاتب الدراسات و كبار الفلاحين …. و أي نجاح هذا الذي حققه مشروع تنمية العالم القروي و أي انجازات ملموسة تحققت للمواطنين هناك ؟ إن التحقق من نتائج هذا المشروع الذي أهدرت فيه الملايير يجب أن يبدأ من القيام بزيارات ميدانية إلى القرى و الأرياف و البوادي للتعرف على أحوال المواطنين المستضعفين و كيف هي أحوالهم وهل تحسنت أوضاعهم في هذه السنوات التي تم فيها اعتماد المخطط الأخضر وإنشاء صندوق تنمية العالم القروي الذي تم إسناد تدبيره المالي للسيد عزيز أخنوش، في عهد حكومة بنكيران ، التي قال عنها مؤخرا أنها دمرت وعطلت عجلة التنمية لمدة عشر سنوات ، ناسيا انه كان يقود أكبر قطاع حيوي في البلاد … فماذا حقق هو للمغاربة في هذه العشر سنوات ؟؟؟
إن الواقع الذي يعيشه العالم القروي واقع مرّ بما للكلمة من معنى ؛ لأنه يعرف كل مظاهر العجز و النقص في جميع المجالات لذا وجب أن يكون أولوية من الأولويات التي لا تحتاج الانتظار ، و العمل على إخراجه من هذا الوضع المتردي و بناء مستقبل أفضل للمواطنين الذي يعيشون فيه في إطار الدولة الاجتماعية التي لا تقصي أحدا من سياستها كم يحلو لهم أن يقولوا ، و لأن التنمية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق في المجتمع إلا إذا أعطيت الأولوية لمواطني العالم القروي و خاصة الشباب منهم الذي يعاني الإقصاء والتهميش وغياب المساواة في أسلوب الحياة والعمل والدارسة… مما جعل الهجرة مستمرة ومتواصلة للشباب من البوادي في اتجاه المدن بحثا عن رغيف خبز.. إن الوقت الذي سترفع فيه المعاناة عن هذه الفئة العمرية التي يمثلها الشباب والشابات الموجودون في القرى و البوادي و المناطق الجبلية المعزولة والصحراوية الصعبة والمبعدة والمقصية من برامج الحكومات المتعاقبة على التسيير، آنذاك يمكننا أن نتحدث عن الديمقراطية و العدالة الاجتماعية ، أما اليوم فان مخططات الحكومة ووعودها الانتخابية هي مجرد حبر على ورق و كلام يتبخر في السماء .. و في هذا الصدد يمكننا أن نتساءل عن الدعوة التي وجهها الملك إلى المسئولين من أجل تعبئة مليون هكتار من الأراضي الفلاحية الجماعية لتحفيز و دعم الشباب في العالم القروي، عن طريق خلق المقاولات المرتبطة بالقطاع الفلاحي لامتصاص البطالة و تقليص عدد العاطلين ؟؟ و في إطار الجهوية المتقدمة و اللاتمركز ماذا حققت مجالس الجهات في المغرب بصفة عامة و جهة الشرق بصفة خاصة لأبناء العالم القروي ؟؟ ميزانيات كبرى تنفق في الاجتماعات الفارغة و السفريات داخل الوطن و خارجه و السيارات الفارهة و الإطعام و الفنادق المصنفة و التعويضات عن المهام للمنتخبين التي تقدر بالملايير و الذين يلهثون وراء تنمية مشاريعهم الشخصية والعائلية عوض الإسهام في مساعدة الشباب القروي ورفع المعاناة عنه ، وإخراج المواطنين من مناطق التهميش والحرمان والإقصاء ، و ضمان كرامة الإنسان القروي التي بدونها لا يمكن أن يعيش إنسانيته و لا يمكن للديمقراطية أن تستقيم ….
إن الموارد المالية التي خصصت لصندوق تنمية العالم القروي و المخطط الأخضر لا تختلف عن الموارد المالية التي خصصت للبرنامج الاستعجالي لإصلاح التعليم و التي قدرت بالملايير ولم نر منها إلا القشور ؛ و استفاد منها ضعاف النفوس و المفسدون ذوي البطون المنتفخة بنهب المال العام على مرأى و مسمع من أصحاب الحال … إن رهان التنمية الحقيقية و العدالة المجالية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا أوليت العناية لسكان العالم القروي على غرار العالم الحضري، و أن تشمل جميع الجهات لتجنب الاختلال المجالي للنمو وتفادي اللاعدالة المجالية ، و من أجل بناء مستقبل أفضل لهم ولأسرهم، في إطار الدولة الديمقراطية التي لا تقصي أحدا من سياستها ، آنذاك يمكننا أن نقول أن حكومة أخنوش قطعت أشواطًا مهمة في تجسيد الدولة الإجتماعية ….
و ختاما ، نقترح للخروج من هذا الوضع المأساوي الذي يعيشه العالم القروي ، ضرورة تنظيم مناظرة وطنية تشارك فيها جميع القطاعات المعنية حول واقع التنمية القروية ، وارتباطها بكل ما هو فلاحي للوقوف على المنجزات و المؤهلات و استشراف الآفاق التي يجب أن تعطى للفلاحة والتنمية القروية من اجل الإنعاش الاقتصادي، وتسريع تنفيذ جميع البرامج الفلاحية ، وفق استراتيجية فلاحية جديدة تكون نتائجها ملموسة وتظهر تجلياتها على مستوى عيش المواطنين بالعالم القروي و استقرارهم النفسي و المعنوي وتضمن لهم تنمية مستدامة حقيقية ، وأن لا تبقى تنمية العالم القروي مجرد شعار للاستهلاك الإعلامي أو المناسباتي والانتخابي …