هل خرج المغرب عن النصّ في «مونديال» قطر…؟
بقلم: إدريس الواغيش
دولة عربية مسلمة من شمال إفريقيا، مستعمرة الغرب السابقة، تنافس على الفوز بكأس العالم، وتدخل تاريخ كرة القدم من بابه الواسع، شيء لم تستسغه أوروبا. وهو حدث استثنائي لم تعرفه أي كأس من كؤوس العالم السابقة. واقعة حقيقية لم تحدث بالصدفة، وإنما بتحقيق أسود الأطلس لإنجاز رائع. والحقيقة الأكثر واقعية أن ما قدمه المنتخب المغربي في “مونديال” قطر 2022 كان شيئا خرافيا، سيخلده التاريخ، ويذكرنا به في كل الدورات القادمة من كأس العالم، رغم أنف المُستعمر ومن بقي من أذنابه. وقد كان بإمكاننا الذهاب إلى أبعد ممّا وصلنا إليه، لولا انحياز الفيفا الفاضح، وما تعرضنا له من ظلم تحكيمي وعوائق موضوعية أخرى.
وما لم تستسغه أوروبا قاطبة، هو أن أغلب المستعمرين القدامى لقارة إفريقيا خرجوا من المونديال: بلجيكا، إسبانيا، هولندا، البرتغال وإنجلترا، وبقي المغرب وحده يصارع الأقوياء، وهو ما شكل غصة في حلق من يتحكمون في دهاليز الفيفا. وبعيدا عن الفريق الفائز، لم تكن نسخة قطر مجرد مقابلات في كرة القدم، شئنا أم أبينا، ولكن كانت حربا باردة بين الأخلاق وقلة الأخلاق، وتجاذبا بين الألوان الطبيعية وألوان تمثل علم قوس قزح، وأيضا تنافسا بين ثقافتين متباينتين وديانتين وحضارتين مختلفتين. هي معركة لإثبات الذات بين العرب والعجم أولا، وأخرى لاسترجاع ثقة شعوب الجنوب في أنفسهم في علاقتهم بالغرب المتغطرس في الشمال ثانيا، ثم مقارعة الشرق العربي الإسلامي للغرب الأوربي المسيحي على المستوى العقائدي والأخلاقي ثالثا، ولذلك فإن هذه الدورة خلفت وراءها نتائج على عدة مستويات:
1- على المستوى الأخلاقي : شكلت علاقة اللاعبين المغاربة مع آبائهم وأمهاتهم حدثا استثنائيا، عناق ورقص في المدرجات وفوق عشب الملاعب بشكل أذهل العالم، سلوك لم يكن يعرفه الغرب المتحضر أو نسيه في زحمة الجري وراء لقمة العيش، ولم يكن يعرف شيئا اسمه “رضى الوالدين” عندنا كعرب ومسلمين، وأصبحوا يجهلونه في قيَمهم الغربية وحضارتهم.
2 – على المستوى القومي: لاحظ الجميع في العالم، كيف تجدّدت روابط الأخوة بين مكونات الشعوب العربية والإسلامية من عرب وكرد وأمازيغ، وتشجيعهم للمنتخب المغربي من الشرق إلى الغرب بكل جنسياتهم داخل أوطانهم وخارجها، وكيف حضر العلم الفلسطيني في الملاعب والمدرجات والأسواق القطرية، وتم التعريف بالقضية الفلسطينية، إذ كان تشاهد أعلام فلسطين مليارات المشاهدين عبر قنوات العالم التلفازية، وعجّل الجمهور العربي برحيل الصحافة الإسرائيلية من ملاعب قطر وساحاتها، ولم يتمكنوا من تغطية الأحداث إلا بطرق ملتوية. وأصبح التصريح بجنسية الإعلاميين الإسرائيليين يشكل إحراجا لهم مع الجمهور العربي، وهو ما أظهر بأن عملية التطبيع مع إسرائيل ليست سوى مجاملة سياسية تخص الحكومات العربية، ولا علاقة للشعوب بها، بما في ذلك شعوب الدول الأكثر تطبيعا مع إسرائيل. كل ذلك قرأته الجهات النافذة في الفيفا بشكل مختلف في دهاليز السياسة والاقتصاد الأكثر تأثيرا في العالم.
3-على المستوى العقائدي: سجود اللاعبين المغاربة عند كل انتصار حمدا لله، جعل العالم يبحث عن سر تلك السجدة. اعتبرها بعض المحللين سجودا للجمهور، وارتأى آخرون رفع السبابة إلى السماء عند كل انتصار شكرا لله دعوة للإرهاب، وذهب الآخرون إلى أنها إشارة لا تختلف عمّا يفعله الإرهابيون والمجاهدون الأفغان…!!
4- على المستوى المغربي : أصبح ذكر المغرب على كل لسان، لا يختلف في ذلك عن دولة قطر المنظمة للتظاهرة، مناصفة مع الدول التي وصلت إلى المربع الذهبي. ونال المغرب والمغاربة احترام الشعوب العربية والمسلمة وشعوب العالم الثالث، وأبطل مفعول خمسين سنة من الإعلام المعادي لوحدتنا الترابية في أقل من شهر. وهو ما سيكون له انعكاسات على سياسات بعض الدول مستقبلا، وجلب المزيد من السياحة الدولية والاستثمارات، وقد تستقر بعض الشركات العملاقة مستقبلا في المغرب. ويكفي اعتراف كبار الرياضيين بالمستوى الرفيع للكرة المغربية، بما في ذلك الظاهرة بيليه أعظم اللاعبين في كل العصور.
5- على المستوى المالي: سيربح المغرب منحة مالية كبيرة تقدر بحوالي 25 مليون دولار ستدخل إلى خزينة الدولة، وهو مبلغ كافي لبناء ملاعب وأكاديميات كروية جديدة ومشاريع رياضية أخرى، بالإضافة إلى مداخيل مبيعات قمصان المنتخب الوطني المغربي التي سيتزايد الطلب عليها في مختلف بقاع العالم، ومستقبلا ستتهافت الشركات على التعاقد مع الجامعة الملكية لكرة القدم طمعا في جني أموال طائلة، عكس ما كانت تسير عليه الأمور في السابق.
كرة القدم بين الربح والخسارة:
كرة القدم لعبة مثلها مثل باقي الرياضات، فيها ربح وخسارة، ومع ذلك كل الفرق تصر على الانتصار، كما الجيوش في الحروب، لأن الانتصار غريزة مستبدة بالبشر، فلا أحد يريد الهزيمة لنفسه. ومونديال قطر أظهر تعاطفا فريدا من نوعه في العالم مع المنتخب المغربي، احتفلت بانتصاراتنا كل شعوب الأرض من آسيا إلى إفريقيا وجنوب أمريكا. وهذا يظهر رغبة شعوب الجنوب في الانعتاق من هيمنة الشمال، يقابلها إصرار كبير من الشمال على الاستمرار في السيطرة على كل شيء، بما في ذلك كرة القدم. وعشية مقابلة المغرب والبرتغال المؤدية إلى النصف نهائي، شاهدت عبوس ملامح إفانتينو بعد إعلان حكم المباراة انتصار المغرب في الربع. لم يكن جياني سعيدا بما جرى، فضحت الكاميرات جغرافية ملامح وجهه، لأن هزيمة رونالدو ورفاقه عقدت حساباته. الأكيد أن مرور دولة عربية مسلمة وإفريقية من العالم الثالث إلى لعب نصف نهاية كأس العالم هو خروج عن النص، وعن طاعة الفيفا، لأن رغبتهم كانت أن نقف حيث وصلنا، ولأن جياني السويسري-الإيطالي الأصل لا يختلف عن أي تاجر أو رجل أعمال، لا يهمه سوى الربح والمزيد من الإيرادات. والفيفا مؤسسة ربحية وليست مؤسسة خيرية، وبالتالي سياستها لا تختلف عن سياسة الصناديق الدولية الكبرى وغيرها من المؤسسات العالمية، هي أداة من الأدوات لتكريس هيمنة الغرب وإلزام الشعوب المستضعفة بالتبعية.
عود على بدء، حضور ماكرون وإجبار الحكم المكسيكي على الانحياز، بشكل أو بآخر، لم يكن سوى استشعارا أوربا بالهزيمة والخروج خاوية الوفاض من أهم محفل كروي بالعالم، ولذلك سارع بالمجيء على عجل، وهو على علم بعدم تأهل إيطاليا وخروج ألمانيا مبكرا وهي تحمل شارة المثليين كما إنجلترا، تبعتها إسبانيا ثم البرتغال، وبالتالي لم يبق غير فرنسا، وعليها أن تدافع عن شرف الغرب الأوربي، لأنه في حالة فوز المغرب، ستكون نهاية المونديال بين إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وقد يفوز المغرب بها، وهو ما لا تقبل به الفيفا أو تطيق تحمّله، حتى فرحة الفوز يستكثرها الغرب على العالم الثالث. لا ننكر أن فرنسا بطلة العالم، وتملك فريقا كبيرا ولاعبين مهرة، مبابي تبلغ قيمته التسويقية 206 مليون يورو، فيما تبلغ قيمة الفريق الفرنسي حوالي المليار يورو. على الجانب الآخر، قيمة ميسي التسويقية تفوق 60 مليون يورو، بعد تراجع قيمته في سوق الانتقالات، فيما قيمة الفريق الأرجنتيني تقدر بحوالي 608 مليون يورو. كان واضحا أن الفيفا برئيسها وأجهزتها تسعى جاهدة لأن تصل فرنسا والأرجنتين إلى النهائي، وبالتالي يسهل تسويق نهاية المونديال على نطاق واسع وبربح وفير، وهذا هو الأهم عندها، والدليل هو أن أغلب رؤسائها ودعوا الفيفا بفضائح مالية من بلاتر إلى بلاتيني وغيرهم.
لا لوم على الحكم المكسيكي وإن كان شريكا رئيسيا في وأد فرحتنا، لأن الإعلان عن ضربتي جزاء كان سيغير الكثير في مجريات المقابلة، ومع ذلك رأينا كيف تقزّم الفريق الفرنسي بديكته ورجعوا إلى الخلف. لم يكن ذلك “طاكتيك” من ديشان، ولكن نتيجة شراسة هجمات أسود الأطلس. وما وقع اليوم ليس شيئا جديدا، لأن العملية الكروية في كأس العالم لم تخل يوما من تلاعب أو بيع وشراء، والفيفا لم يكن في صالحها أن يلعب المغرب النهاية، ولكن أن يكون طرفا المقابلة فرنسا والأرجنتين، لامتلاكهما نجوما تتابعها ملايين البشر في جميع أنحاء العالم، وتستطيع بفضلها الترويج للمقابلة بشكل أفضل، وفي هذه الحالة لن تجد أحسن من ميسي ومبابي. الأمور إذن واضحة ولا تحتاج إلى تفسير، وكان مرتبا لها بشكل مدروس، رغم ما يبدو من شد في الحبل بين ماكرون والفيفا في تحديد الفائز. أما احتلال كرواتيا المركز الثالث، فلم يكن أكثر من تكريم لمودريتش وفريقه ريال مدريد، وطبيعي أن يقف الحكم ضدنا، سواء كان عربيا أو أعجميا.
المسألة كما تبدو في النهاية، هي أكبر من طموح الركراكي كمدرب مغربي شاب آمن بحلمه حتى النهاية، ولكن يكفينا فخرا أن نرى، لأول مرة في تاريخ الكرة المغربية، جمهورا يبكي، ليس لأن منتخب بلاده خسر، ولكن لأنه لم يفز في مقابلة نصف نهاية كأس العالم. هنيئا لنا ولأسود الأطلس بهذا التشريف، وهذه المرتبة التي وصلنا إليها، شكرا للمدرب وليد ومن معه من جنود الخفاء، أسعدتمونا على مدار هذا المونديال. شكرا للجمهور المغربي الرائع المقيم أو الذي رحل إلى قطر من أجل تشجيع لاعبي المنتخب المغربي، وشرفنا بسلوكه الحضاري كمغاربة.