وحشة،،الخناس،،
محمد شحلال
على مشارف مدشر،،المقام السفلي،،ببلدتنا،تقع الكثير من الشعاب التي تفضي إلى واد معروف لدى الساكنة بوادي،،الخناس،،كما يطلق هذا الاسم كذلك على بعض الأراضي التابعة لساكنة،،المقام السفلي،،.
ليس هناك معلومات دقيقة حول تسمية الوادي بهذا الاسم،غير أنه اشتهر بكثافة نبات الدفلى وبعض البرك المائية التي تنتعش في فصلي الشتاء والربيع،حيث تتحول إلى مجرى مائي.
وإلى جانب نبات الدفلى والغابة التي كانت تغطي جنباته في القديم،فإن وادي،،الخناس،،يعتبر رافدا أساسيا لوادي،،المعدن،،ومازالت الجبال المطلة عليه،تحتفظ بمغارات تعود إلى أيام ازدهار منجم،،ملكونة،،في النصف الأول من القرن الماضي.
يروي كبار السن من الساكنة أن وادي،،الخناس،، ظل يأوي رفات العديد من الموتي الذين دفنوا على ضفتية في ظروف غامضة،مما جعل الناس يتجنبون عبور هذا الوادي ليلا لما تردد من قصص حول الأشباح والجن الذي عمر المكان.
ولعل مما عزز هذه المخاوف التي تناقلها الناس، أن المرحوم،،البقال،،خباز البلدة الشهير،والذي كان يتنقل بانتظام بين مسكنه وفرنه بالسوق،كثيرا ما ضبط وهو يعيد دفن الرفات التي التي تعريها السيول على جنبات الوادي،وهي الرفات التي شاهدت معظمها ،الأمر الذي جعلني انضم إلى قائمة من يتوجسون من وادي،،الخناس،،الذي وفر كذلك ملاذا آمنا للعديد من الحيوانات مثل الذئاب والثعالب والرتوت.
لقد ارتبط وادي،،الخناس،،في أذهاننا بمكان ينطوي على كثير من الأخطار المحتملة،وكنت ممن نالوا قسطا وافرا من الخوف حينما كنت أعبر الوادي يوميا ذهابا وإيابا ،خلال دراستي بقسم الشهادة الابتدائية،حيث كان علي أن أقطع حوالي سبعة كلمترات عند الغسق ثم قبيل غروب الشمس.
لن أعرض لكل الحكايات المرعبة والمنسوبة لأشخاص كثيرين عاشوا تجارب قاسية في وادي،،الخناس،،لكنني أفضل التوقف عند قصة امرأة من الأقارب، تمكنت من تجاوز موقف ربما يعز على أشجع الرجال.
كانت المرأة المعنية-رحمها الله-متزوجة بأحد وجهاء الدوار الذي انحذر منه،وكان يقيم بجور السوق الأسبوعي.
حدث أن وقع خصام بين الزوجين،فلما اشتد غضبها،قررت أن تغادر إلى أهلها تاركة وراءها رضيعا كعقاب للزوج الذي أهان كبرياءها.
حلت المرأة الغضبى ببيت أهلها على بعد حوالي خمسة عشر كلم،وبعد يوم واحد،استبد بها شوق الأمومة إلى صغيرها الذي تركته يواجه المجهول،فثقل عليها المقام،ولم تعد قادرة على تحمل هذا الانفصال الاضطراري،فاتخذت القرار الحاسم دون أن تخبر أحدا.
مر اليوم رتيبا،فلما جن الليل،وأوى البدو إلى فراشهم مبكرا كالمعتاد،تسللت الأم إلى الخارج،ثم انطلقت بنية انتزاع رضيعها والعودة به بعيدا عن الأعين.
لم تثر الكلاب التي لا يخفى عنها صاحب البيت،لذلك تحسست مكان الرضيع خلسة،ثم أوته صدرها وقفلت راجعة لا تلوي على شيء.
أنستها،،الغنيمة،،الثمينة في كل مخاوف الليل بما فيها ظلام ،،الخناس،،الموحش،لكنها ما إن صارت بقلبه حتى فوجئت بكلب ضخم يعانقها،حيث رفع قائمتيه الأماميتين ووضعهما على كتفيها!
لم تبال بهول الحادث،بل واجهت هذا المخلوق بلغة البدو المعتادة :
-روح الله انعلك !
سارع الكلب،،المفترض،،إلى إنزال قائمتيه، ثم انسحب من غير نباح ولا صوت قبل أن يتوارى عن نظرها وسط الظلام الدامس!
خرجت الأم من المكان الموحش وهي في منتهى رباطة الجأش، ولم تنخ مطاياهاه إلا وقد هبت كلاب العائلة لاستقبالها.
في صباح اليوم الموالي،وعندما ظهر الضيف الصغير،أصيب الجميع بالذهول،وتعجبوا لهول المغامرة التي أقدمت عليها الأم،لكنها استهانت كل آيات العتاب التي تقاطرت عليها مادام صغيرها قد عاد إلى حضنه الطبيعي.
رحم الله خالتنا،،جمعة،،التي بصمت ،،الخناس،، بشجاعة استثنائية،وصارت قصتها على كل لسان المعارف، أما الوادي الموحش،فقد تهتكت كل أستاره،ولم يعد فيه ملاذ آمن لحيوان أو طائر،بل أصبح مكانا مكشوفا، حتى إن الطريق التي تخترقه قد انتهى دورها بفعل التحولات المتسارعة ليصبح وادي،،الخناس،،يبكي الغادين والرائحين من المتسوقين القادمين من كل مكان عندما كانت الدواب وسيلة نقل لا غنى عنها.
لست أدري هل انكشف مزيد من الرفات كما كان يحصل في الماضي، لكن الأكيد أن يد،،البقال،،الرحيمة لن تمتد إليها مرة أخرى لسترها، فقد التحق بجوار ربه،وافتقد فيه الوادي الموحش معلمة استثنائية.